السلطة والدولة (1) الفصل الأول


محمد فيصل يغان
2021 / 2 / 27 - 17:47     

الفصل الأول
مدخل
في المنهج
على أنه و في كل الأحوال، يوجد هناك منطق للعالم الاجتماعي مثلما يوجد منطق للعالم المادي. هناك قوانين لا يمكن خرقها دون تبعات. حتى في هذا المجال علينا اتباع نصيحة بيكون. علينا أن نتعلم كيف نطيع قوانين العالم الاجتماعي قبل أن نحاول تسييره . إرنست كاسيرر
الظاهرة الإجتماعية البشرية هي ظاهرة طبيعية، و دراسة الظاهرة الاجتماعية البشرية تقع تحت العنوان العريض للعلوم الإنسانية. و العلم بطبيعته، و من حيث كونه بحث عن القوانين المسيرة للظواهر الطبيعية، يفترض ضمنا حتمية طبيعية، بمعنى إذا ما اكتملت الشروط الضرورية و الكافية لانطباق القانون، كان لابد للظاهرة من الحدوث حسب ما يقتضيه القانون. أما في حالة الظاهرة الاجتماعية الإنسانية و عند اعتبار الوعي الإنساني و الإرادة الإنسانية كعناصر فاعلة و مؤثرة داخل الظاهرة الإجتماعية ، أي كون الفعل الإنساني الواعي أحد المعطيات الطبيعية التي تتعامل معها قوانين الطبيعة، يصبح تاريخ الظاهرة عبارة عن "حيز للاحتمالات ضمن حيز الضرورة" فالاحتمالات تنبع من صعوبة التكهن بالأفعال الناتجة عن الإرادات المختلفة للأفراد و الجماعات المشاركة في الظاهرة. إذن لا بد لمنهج الدراسة أن يحقق هذين المطلبين، ان يكون قادرا على التأليف ما بين الحتمية المتعلقة بقوانين الطبيعة و بين الإحتمالات التي تخلقها الإرادة البشرية الواعية كجزء من الممكن و جزء (مما يجب أن يكون) فما يتبدى كحتمية تاريخية لتقدم المجتمع البشري (رغم الانتكاسات) نحو مجتمع اكثر عدالة و اكثر حرية هو في الواقع نتيجة مساهمة الوعي و زيادة دوره في تسيير الظاهرة الاجتماعية، في حين يفترض البعض ان العلوم الاجتماعية لكي تكون علوما عليها أن تفترض الفرد المؤطر الذي يفتقد لحرية الفعل و يتصرف بما تمليه عليه الأطر، و بالتالي و حسب هذا الرأي يمكن اشتقاق القوانين و التنبؤ بالأحداث ضمن حتمية تماثل حتمية قوانين الطبيعة، بالنسبة لنا هذا الفرض غير ضروري و لكن لولبية حركة التقدم و انتكاسات المجتمع البشري التاريخية دليل على ان مصير البشر مفتوح على كل الاحتمالات.
تعاظم شعور الوعي البشري بأهميته في رسم و تحديد مسار الأحداث و قدرته على صياغة المستقبل تظهر واضحة في التيارات الفكرية الحديثة التي يعتقد روادها بانهم قد دفنوا جثة التاريخ إلى الأبد برفضهم –مثلا- للإدعاءات الكبرى "تقدمية التاريخ، الخلاص المسيحي، اليوتوبيا الماركسية،..." أي رفض لدروس التاريخ وقوانينه التي برأيهم تجاوزها الوعي وأصبح القطع مع التاريخ أمرا واقعا، فالوعي هو من سيحدد المستقبل، و توجهوا بذلك نحو المابعد، نحو المستقبل، فكان من نتائج هذا الاندفاع اختزال التاريخ إلى أركيولوجيا تتعامل مع الأجيال السابقة كمستحاثات أحفورية و اختزال الفلسفة إلى علم اجتماعيات و إدارة و سياسة كنتيجة لتعاظم التيار العملي البراغماتي الهادف لصياغة المستقبل و إدارة المجتمع البشري بناء على منهج النسبية و التجريبية. هكذا أصبح المهم هو الجزئي، و التعامل مع الجزئي هو الأهم، و اعتبار الكلي مجرد مجموع أجزائه البسيط، ومن خلال إدارة الأجزاء يتحدد الكلي تلقائيا.
كل هذا الحماس الطفولي أعمى أعين رواد هذا التيار عن حقيقة أن التاريخ حي لايموت، و انه باق من خلالهم و في أفعالهم هم بالذات و أنهم لا يزالوا على الرغم من تطور الوعي إلى مستواه الحالي أسرى لقوانين الطبيعة إلى حد كبير، القوانين التي ما زالت خارج سيطرة الوعي و ما زالت تتضمن الوعي كمتغير من متغيرات الظاهرة الطبيعية للإجتماع البشري، فهم غُفل عن كونهم أسرى علاقة الوعي و الطبيعة الجدلية.
خلال هذا الكتاب نتبنى منهجية تسمح بتحليل الروابط المتزامنة كلحظة صير في الإطار التاريخي التطوري متجاوزا البنيوية من جهة و التاريخانية من جهة أخرى الى مادية تاريخية وبالضد من التراثي العقائدي، منهجية تأخذ بعين الاعتبار البعدين الخاص و الكوني معا انطلاقا من مبدأ أن الطبيعة ومن خلال ظاهرة الاجتماع البشري (كظاهرة طبيعية) لها مقصد واحد و هو الحفاظ على الحياة البشرية كقيمة عليا (حفظ النوع)، و الإجتماع البشري و الوعي البشري منذ نشأتهما مشروطان بتعظيم هذه القيمة. كل الاختلافات التي يمكن أن نلحظها ما بين الحضارات المختلفة و الجماعات البشرية المتعددة يمكن إرجاعها للإختلافات في سعيها المشروط نحو هذا المقصد.
البحث هنا ينطلق من وجهة فلسفية متجاوزة البحث في الجانب القانوني و الفقهي للدولة و اللذان يعنيان بشكل خاص بآليات عمل الدولة في مرحلة تطورية معينة و لعبة تداول السلطة السياسية فيها، البحث هنا محاولة لتتبع الدولة كظاهرة اجتماعية منذ بداية ظهور المشاعة الإنسانية لتحديد كيف ولماذا ظهرت الدولة و هدفها الأصلي الذي نشأت من أجله و بالتالي فهم التحولات التي طرأت على بنية و أدوات الدولة لتحقيق هذا الهدف ضمن التطورات و التحولات في الحياة الاجتماعية و بالأخص النشاط الاقتصادي للبشر الذي هو أصل كل نشاط يهدف لحفظ الحياة البشرية و تعظيم قيمتها كما ونوعا متجاوزين بذلك التشتت النظري الناتج عن نظريات الدولة عموما و اعطاء معنى اجتماعي واضح لكلمة دولة مبني على الهدف الطبيعي الاصلي و الثابت عبر التاريخ.
لتحقيق ما سبق لا بد من إبتداع نموذج يؤطر الظاهرة المدروسة بحيث يكفي حاجة النظرة الوضعية التي تفرضها علمية البحث و بنفس الوقت يفي بحاجة النظرة الجدلية القائمة على ديناميكية الظاهرة الإجتماعية البشرية، مع الحرص على استخدام النموذج بحذر و بحدود لعدم أسر الموضوع في اطار رؤية عرفانية، فكان أن إستعرنا و قدمنا النموذج الشبه-ستاتيكي من العلوم الطبيعية كنموذج إطاري للبحث (أنظر لاحقا).
عند توظيف النموذج لدراسة البنية و الوظيفة، كان لا بد من تعطيل وظيفة الاجزاء و وقفها عن الحركة لتفكيك البنية، و لفهم الحركة الوظيفية للجزء كان لا بد من مراقبته في حالة ترابطه بالبنية الكلية للنظام وفعله. في الحالة الاولى نملك بنية وظيفية وفي الثانية نملك وظيفة بنيوية، الاولى تحدد فردانية الجزء و حدوده الذاتية و الثانية تحدد هوية الجزء الممتدة في الكل من خلال علاقاته الوظيفية. فكان لا بد للنموذج أن يسمح قدر الامكان بمعالجة السكوني – الصير بالتزامن مع الحركي – الصيرورة والموازنة ما بين درجة تشيؤ النظام و درجة تطوره و العلاقة ما بين الشكل و الفعل الحي، ما بين الجسد و الروح و ما بين الطبيعي و الوعي، و هو ما أسميناه بالنموذج الشبه ستاتيكي.
المنهج المأمول يستوعب و يوظف جدل الوعي و الطبيعة في إطار تاريخي من خلال إستقراء قوانين الطبيعة وإستقراء فعل الوعي في الطبيعة (الظاهرات الإجتماعية البشرية)، و من خلال تحليل المُستَقرَأ تحليلا تاريخيا يتجاوز المحض إجتماعي للكشف عن العلاقات الجدلية، و أخيرا انطلاقا من موقف منهجي من التاريخ الذي نعتبره يقدم لنا المادة المستقرأة على ثلاث مستويات: جرد للأحداث و سرد لترابط الأحداث و أخيرا نقد للسرد لتخليصه مما شابه من نزعات أيديولوجية و غائية مسبقة. إن نقد سردية ما، مهما كانت متجذرة في النفس و مصدر راحة و طمأنينة لها، لا يعني إستبدالها بسردية سالبة محبطة، بل بسردية توقظ الوعي و تقدم له صورة أكثر ما يمكن صدقا عن حقائق التاريخ و القوانين المسيرة له، فيخرج هذا الوعي من العيش في إطار الماضي الأسطوري الى إطار الفعل الهادف لإنشاء أسطورة للمستقبل.
ما بين السلطة والدولة
نختلف تماما مع اعتبار الدولة (أدلوجة، فكرة مسبقة أو معطى بديهي) وأيضا مع لا جدوى البحث في حالة سابقة لظهور الدولة ، إذ نعتبر ما يسمى اليوم بالدولة ظاهرة تاريخية لها جذور قديمة قدم الجماعة البشرية نمت و مرت في تحولات عبر تاريخ الجماعة كبنية فوقية و (منتج بشري) عكست تحولات أكثر أصالة و حيوية في شبكة العلاقات (المعطاة من الطبيعة) في بنية الجماعة التحتية. و لا بد عند البحث في هذه الظاهرة من الفصل ما بين الدولة و السلطة، فالدولة شكل من أشكال تمظهر السلطة كبنية فوقية و لكنها ليست السلطة بذاتها و لا تحتويها بمجملها و هو ما سنوضحه بالتفصيل، الأصح هي أداة لممارسة السلطة، و السلطة هي المعطى الأولي و الطبيعي و الدولة متغير طارئ. لا يمكن فهم الدولة (لا كهدف ولا كوظيفة و لا وسائلها) بدون فهم للمعطى الأولي و الأصل الطبيعي الذي نبتت منه، أي السلطة. كما أنه ليس للدولة (إبتداءً) هدف لذاتها بل تصبح هدفا بذاته في مراحل متقدمة نسبيا على مسار التحولات التي تمر بها و بعد انفصالها عن باقي الجماعة البشرية، الأصل أنها وسيلة لتحقيق هدف أصيل و حيوي للجماعة البشرية، أصيل لأنه بدون السعي لتحقيق الهدف تندثر الجماعة الإنسانية، و حيوي لأن الهدف هو البقاء في ذاته و استمرار حياة الجماعة كنوع طبيعي، و ليس للبعد الأخلاقي بمفهومه المثالي دور في ظهور الدولة أللهم بحدود تناغم الأخلاق مع الهدف الحيوي و خدمته. يتطرق ابن خلدون إلى هذا المعنى دون تفصيل و توظيف في نظريته حين يقول:(... و من ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض، فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر و انقطاعهم، مع أن حفظ النوع من مقاصد الشريعة الضرورية.)
هكذا يصبح ممكنا ما يعتبره العروي مستحيلا حين يقول: (...ماهية الدولة في واقع الأمر يدور حول هدفها ، لذا لا يستقيم البحث الا إذا وضعنا الهدف داخل النطاق المحدد للدولة. أما إذا وضعناه مسبقا خارجها...تستحيل نظرية الدولة في هذا الاتجاه...) . الدولة عبر تاريخ تحولاتها، و نتيجة لما تعرضت له من الاستحواذ، وُظفت لخدمة أهداف فئوية تتناقض و الهدف الحيوي الطبيعي كما بين ماركس عند تحليله لواقع الدولة الرأسمالية في حينه. بالنتيجة لا بد من فهم السلطة أولا ثم الدولة.
جدل الوعي و الطبيعة
ان شملنا ظاهرة الجماعة البشرية و النشاط البشري الواعي بصفتها عملية من عمليات التحول في الطبيعة، بقيت قوانين الطبيعة صالحة و فاعلة، فالبشر هم جزء من الطبيعة و نتاج لها، و طبيعة البشر الواعية اصلها أيضا من الطبيعة. قوانين الطبيعة الحاكمة لظواهرها مطلقة و تتفعل عند اكتمال شروط انطباقها بشكل حتمي و تتحقق الظاهرة المعنية، و عمليات تحقيق الظاهرة تتم من خلال أنظمة طبيعية تتألف من عناصر مادية و من القوانين المحققة للظاهرة الناتجة و أيضا شروط انطباق و تفعيل القوانين. الوعي جزء من عوامل الطبيعة و ليس دخيلا عليها، يتطور حسب قواعدها و يفعل ضمن قوانينها بقوانينها والظاهرة لا تنشأ ثم تبحث عن قوانينها، و القوانين لا تنشأ و تبقى بانتظار حدوث الظاهرة، الظاهرة و قوانينها (عقلها) كل واحد، و كل منها نقيض الآخر و شرط وجود الآخر، أليس" كل ما هو واقعي هو عقلي و كل ما هو عقلي واقعي" حسب هيغل؟ و هذا ما نحسب أنه كان يعنيه بمقولته هذه و التي ورثها عن سابقه شلنغ القائل " ما الطبيعة الا عقل منظور، وما العقل الا طبيعة مختفية" .
وحدة الظاهرة و قانونها في الطبيعة هي وحدة الوجود الجامعة للصورة و المتجسد المادي ، وحدة نقيضين يمثل أحدهما شرط وجود الآخر و ما فعل الوعي البشري الا تقليد للطبيعة من حيث تركيب صورة في الذهن قابلة للتجسد في الطبيعة، و محاولة فرض صورة لا تتحقق طبيعيا هو عنف يكسر توازن الطبيعة و يستدعي رد فعل عنيف من جهتها.
النظام الطبيعي المادي (بغياب الوعي البشري) له وجوده المزدوج، أجزائه المادية (الوجود) و القوانين التي تحكم علاقات أجزاء هذا النظام ببعضها البعض (التحول) و التي تمثل السلطة التي تحكم و تجعل من هذا النظام نظاما له خواصه و صفاته المتميزة ، هو تمظهر (لعقل) الطبيعة باستعارة لمفهوم هيغل و تعميمه على العمليات الطبيعية الغير واعية (نشير إلى حالة غياب الوعي البشري كعامل من عوامل الحدث الطبيعي). القوانين هي بمثابة سلطة مادية طبيعية يفرضها الوجود بكليته من كافة الاتجاهات و تنصاع الأجزاء دون ادنى مقاومة، الطبيعة لا تقمع أجزاءها لأن قوانينها لا تنطبق الا بتوافر الشروط الضرورية و الكافية لانطباقها، و ان شئنا التشبيه و افترضنا وعيا كليا للطبيعة نجده متجانسا تماما مع وعي اجزائها (شرط الحرية)، الكل لا يفرض على الجزء ما لا يرضاه، فسلطة الكل مركب متجانس وظيفيا مبني على تناغم الأجزاء، تناغم و تجانس نابعان من طبيعة التراكب العضوي لأجزاء النظام، هذه السلطة هي كما قلنا عقل النظام المعني و شرط وجوده. و نقصد بالتراكب العضوي هنا عدم امكانية اختزال النظام الى مجموع اجزائه المكونة، فللنظام بشكله الكلي ماهية تختلف نوعيا عن ماهيات الأجزاء، و النظام هو حصول كيف جديد من تراكب كمي، و تجدر الإشارة هنا إلى أن تجاوز قدرة الكل لمجموع قدرات الاجزاء هو أصل ما نسميه (الذكاء الاصطناعي) أو Artificial Intelligence فيبدو الجسم الكلي الجديد و كأنه يمتلك عقلا خاصا به أو روحا حالة به. وهذا سر تفشي المقاربات العضوية للأنظمة الاصطناعية سواء كانت اجتماعية أو تقنية كالمصنع والحاسوب.
تقسيم العمل
من قوانين الطبيعة تقسيم العمل على أساس الخصائص الطبيعية للفاعلين في العملية الطبيعية، فإن كانت طبيعة الفاعلين واحدة و متطابقة كان العمل متطابقا، أما في علم الوظائف البيولوجية فتظهر أهمية تقسيم العمل بأجلى صورها. و بظهور الوعي كعامل فاعل في الظاهرة البشرية الطبيعية، عليه أن يعكس رغباته و إرادته من خلال سن قوانين وضعية كامتداد لقوانين الطبيعة الضامنة لبقاء الظاهرة و بالإنسجام و التناغم معها، إنسجام و تناغم ضروريان لبقاء الظاهرة و تحقيق هدفها في بقاء النوع، منها أن تقسيم العمل الإجتماعي يجب ان يتناغم مع تقسيم العمل الطبيعي و أن يكون قائما على الخصائص التي يمتلكها الأفراد لا على تفضيلات طارئة، و شرط الإنسجام والتناغم هذا يسري على كافة القوانين الوضعية التي يبتدعها البشر لكل وضع إجتماعي جديد حادث (على أنه و في كل الأحوال، يوجد هناك منطق للعالم الاجتماعي مثلما يوجد منطق للعالم المادي. هناك قوانين لا يمكن خرقها دون تبعات ... علينا أن نتعلم كيف نطيع قوانين العالم الاجتماعي قبل أن نحاول تسييره) . ، و بفقدان هذا التناغم تدخل الجماعة البشرية في أزمة نتيجة تناقض الظاهرة مع قوانين الطبيعة مما يؤدي للإبتعاد عن التوازن و يستدعي بالتالي اللجوء للعنف و الإكراه لحشر الظاهرة في حظيرة القوانين الوضعية. و هذا و كما يبين لنا مانييه هو لب (روح القوانين لدى مونتسكيو) ، أي أن الإنحراف عن حالة التوازن هو مصدر الحركة و الفعل في الطبيعة، فالوعي يكسر حالة التوازن مدفوعا برغبات البشر بينماالطبيعة (مع غياب الوعي البشري منها) تسعى للتوازن.
بالاشارة الى مناقشة دوركهيم لمسألة أخلاقية تقسيم العمل ، نرى أن تقسيم العمل الإجتماعي يختلف عن الطبيعي بكونه مرتبط بإنتاج الفائض (مفتاح تطور المجتمع البشري، قارن مع هدف الطبيعة لتحقيق التوازن) و الذي هو ليس من مقتضى الطبيعة، فالطبيعة كما سنبين بمزيد من التفصيل لاحقا مبتغاها التوازن ومجرد بقاء النوع، و إنتاج الفائض في كثير من الاحيان، ان لم يكن في كل الحالات يكسر التوازن. هنا يمكن أن نميز نوعين من العمل، العمل الطبيعي و العمل البشري، و إن كان من ينفذ كلا النوعين هو البشر الا أن النوع الأول يتم ومن خلال البشر بصفته جزءا من الطبيعة و نتيجة عمله تصب في اتجاه تحقيق متطلب الطبيعة في الحفاظ على التوازن وبقاء النوع ويمكن تسمية هذا النوع بالعمل الطبيعي الضروري، أي أن الإنتاج ثم الإستهلاك السريع للمنتج و إعادة إدخاله في دورة الطبيعة هما جزء من دورات الطبيعة المتزنة، أما النوع الآخر من العمل فهو ما ندعوه بالبشري و هو يهدف حصرا الى كسر التوازن (متطلب الوعي-أنظر لاحقا) و خلق وضع (غير متزن) في الطبيعة و لكنه لصالح الإنسان، بمعنى وضع جديد لم يكن معروفا في الطبيعة يحتاج الى ممارسة قوة بشكل دائم من خلال توظبف قوى الطبيعة ذاتها بأسلوب جديد للحفاظ على هذا الوضع الجديد (إبقاء السقف مرفوعا رغم الجاذبية، إبقاء الدفء محصورا رغم التسرب الحراري من الساخن الى البارد)، أي إخراج المنتج من دورة الطبيعة، قوة تتواجه مع قوى الطبيعة الأخرى و تتفاعل معها في خلق وضع توازن جديد قلق (كشرط) غيرمعروف مسبقا للطبيعة و لكن مقبول و قابل للإستدامة بالقوة فيها، في العمل الطبيعي يبدو أن القوة الوحيدة التي يملكها الإنسان لمجابهة قوى الطبيعة هي قوة الجسد، أما العمل البشري فيتملك بالإضافة لقوة الجسد فرصة توظيف قوى الطبيعة نفسها في مواجهة بعضها من خلال فعل الوعي ، و هذا التصنيف لطبيعة العمل هو ما تحاول حنا أرندت صياغته بالتفريق بين مصطلح كدح (labor) و مصطلح عمل (work) ، كما نجد ان ماركس يملك مثل هذا التصنيف الذي يتضمن البعد النوعي للعمل (مقارنته مثلا ما بين عمل الإنسان و عمل النحل، و كون الأول يتميز بكونه ابتدأ كفكرة ثم تحقق و كذلك تمييزه ما بين القدرة على العمل البشرية و قدرة وسائل الإنتاج المادية و التغير النوعي الحاصل عند الجمع بينهما بحيث تصبح القدرة الجديدة منتجة للعمل الضروري و العمل الفائض حسب مصطلحاته) الا أنه كاقتصادي، ينحى لوضع نظرية علمية قابلة للصياغة الرياضية بالتزامه بالبعد الكمي للعمل وتحييد النوعي وهذا موضوع آخر خارج عن سياق بحثنا هذا.
إن ما يحدد كون الجهد البشري كدحا أو عملا إنسانيا برأينا يتوقف على توظيف ناتج هذا الجهد، فإذا اقتصر حجم الناتج المستخدم لإعادة إنتاج الذات العاملة على الحجم اللازم فقط لإعادة إنتاجها على نفس المستوى الذي كانت عليه قبل الدخول في عملية الإنتاج، كان الجهد المبذول لإنتاج هذا الكم من الناتج كدحا، بمعنى أن العامل لم يرتقي من حالة مجرد البقاء على قيد الحياة تماما كالحيوان الذي يكدح ليعيش نفس طبيعة و مستوى الحياة، أما إذا تم توظيف كم من الناتج كفيل برفع مستوى الكفاف للعامل بحيث يكون بعد بذل الجهد في مرحلة أرقى كما و نوعا حياتيا من مستواه قبل الإنتاج، كان الجهد المبذول عملا بشريا مدفوعا بمتطلبات الوعي بالإضافة لمتطللب الطبيعة. و الحالة الأخيرة هي الحالة العقلانية الواعية لإدارة فائض ناتج العمل. إذن من مصلحة المجتمع ككل رفع مستوى الكفاف من خلال الإستثمار في العامل و الذي يؤدي لرفع كفاءة نظام الإنتاج بما يخدم الجميع، في حين أن رفع الإنتاجية بتغيير التركيبة العضوية لرأس المال و تقليص العمالة باستبدالها بالآلات في كل الحالات يرفع الإنتاجية و لكن لصالح فئة مالكي و سائل الإنتاج فقط و ليس للمجتمع ككل. و بذلك يكون أي شكل من أشكال الجهد المبذول عملا كان أو كدحا، ماديا كان أو معنويا منتِجا، فالعامل المشترك هو إنتاج الحياة، أما من أراد أن يستأثر بالفائض و يبقي الضروري على نفس المستوى، فيرى أن أي جهد لا ينتج له شخصيا فائضا ليستحوذ عليه، جهدا أو عملا غير منتج، و أن حجم الجهد الذي يخدم طبقة المنتجين بإعادة إنتاج ذواتهم على أي مستوى جهدا ضائعا و غير منتج. و من هنا تفضيل صاحب رأس المال للآلات، حيث يصب كل إنتاج الآلة لصالحه دون ان تعيد إنتاج نفسها على مستويات ترتقي شيئا فشيئا.
إنتاج الفائض (قيمة الحياة البشرية كما و نوعا) رغبة بشرية واعية تتطلب كي تتحقق تقسيما للعمل و تخصصا إجتماعيا، و هو الخط المتواصل الرابط ما بين كافة أشكال المجتمع البشري المعروفة منذ المشاعة و حتى المجتمعات الرأسمالية، و يمثل (القوة الاقتصادية الخالصة) الفاعلة دوما في المجتمع التي تتمظهر في كل مرحلة على شكل علاقات إنتاج تختلف باختلاف الظروف التاريخية، المسألة تكمن إذن في تنظيم تقسيم العمل الإجتماعي الحاصل بطريقة تتماشى مع مقتضى الطبيعة و هدفها في بقاء النوع في كل مرحلة و كامتداد وضعي لقوانينها الحاكمة لظاهرة الجماعة البشرية و بالإتساق معها، إنتاج الفائض و تقسيم العمل الملازم له أصبحا شرطا وجوديا للإنسان الواعي، شرطا للإنتقال من مستوى الكفاف المقتصرعلى الغريزة و إعادة إنتاج الذات الى الوجود الإنساني، و التناقض الجديد الذي يظهر هو كون إنتاج الفائض وتقسيم العمل هو بهدف تحقيق حرية الإنسان بتخليصه من الضرورات المعيشية، و لكن و خلال تحرير الإنسان من حاجة قائمة، يخلق علاقة سلطوية جديدة كما يخلق حاجة جديدة لا بد من تجاوزها بالمزيد من الإنتاج و تقسيم العمل.
السبب وراء ظهور تقسيم العمل الإجتماعي هو الرغبة البشرية في إنتاج الفائض و وظيفة تقسيم العمل هي اشباع هذه الرغبة. أما الهدف (فيجب ان يكون) اشباع الرغبة (تحقيق الحرية من الحاجة) بما لا يخل بهدف الطبيعة الأصلي، و هو بقاء الجماعة-النوع، هنا يمكن اعتماد مصطلح خلق قيمة حياة و تعظيم هذه القيمة ليعكس التحول في شكل الهدف الأصلي للطبيعة نتيجة تطور الوعي البشري. مع ظهور الوعي في الطبيعة يصبح الهدف تعظيم قيمة الحياة البشرية كما و نوعا.
هنا يدخل البعد الذي يصنفه الوعي بالأخلاقي، و الذي لا يمكن حسمه و اتخاذ موقف بشأنه الا من خلال تقييم السلطة القائمة في الجماعة، مدى طوعية خضوع الخاضعين لها و مدى استخدام السلطة للعنف و الإكراه لإخضاع هؤلاء، فالمسألة الأخلاقية في المجتمع تتمحور حول التناقض الحادث في علاقة الفرد بالجماعة و الجزء بالكل و الحرية بالضرورة و لصالح أيا من الأطراف يجب حسم التناقض. هكذا يمكن اختزال المسألة العملية الى اختيارنا لأحد نظامين، إما إطلاق عقال الرغبة في إنتاج الفائض و اللحاق بها من خلال محاولة إيجاد أفضل صيغة لتوازن الحقوق مع بقاء المجتمع في حالة عدم توازن دائمة مع ما ينتج عن هذه الحالة من الظلم و الأزمات التي تهدد المجتمع (و ربما يغذي هذا الوضع التطور بناء على مبدأ ارنولد توينبي القائل بالتحدي و الاستجابة من حيث كون عدم التوازن الحاصل هو التحدي الدائم) ، او إصدار حكم أخلاقي على الرغبة في إنتاج الفائض في ضوء الآثار الجانبية و الحد منها و تهذيبها (الزهد و تعليمات النصوص الدينية عموما) بما يحقق ما نعتقده التوازن الأمثل (الوضع القائم في لحظة تاريخية معينة) ما بين الحقوق.
في الطبيعة و الوعي
هدف الطبيعة كما نستخلصه من علومها هو الوصول الى أقصى حالات التوازن، فكلما اختل التوازن القائم ما بين مفاعيل نظام طبيعي معزول سواء بطفرة من الداخل او بتأثير من الخارج يتجاوز اطار عزل النظام، و تحققت شروط انطباق قوانين التحول الطبيعية، انتقل النظام حسب ما تحدده هذه القوانين الى حالة جديدة من التوازن، و في عالم الحيوان و النبات يتم المحافظة على التوازن من خلال تأمين ردات الفعل الحيوانية على متغيرات الطبيعة غريزيا إذ تتفاعل أشكال الحياة مع التغيرات الدورية للطبيعة و تتأقلم معها غريزيا (الهجرات الموسمية، تخزين الغذاء، السبات الشتوي، عادات التكاثر) فتحافظ على توازن ظاهرة الحياة الطبيعية من خلال تناغمها مع دورات الطبيعة، أي أن سلطة الطبيعة المستترة في حالة التوازن تتشخص ماديا و تفعل في النظام ذو التوازن القلق و تعود لتستتر بعد بلوغ التوازن الجديد.
هذا النموذج على بساطته و اختزاليته، كافٍ لتوضيح الفكرة التي نحاول عرضها هنا و ابراز العناصر الرئيسية المكونة لها و علاقة هذه العناصر فيما بينها و علاقتها بالكل عند إنتقالنا لبحث الأنظمة الإجتماعية (أنظمة طبيعية فيها الوعي البشري مكون فاعل).
في الطبيعة لا يوجد خلق من عدم. قوانين حفظ المادة و الطاقة غير قابلة للتعطيل و كل العمليات الطبيعية هي تحويل المادة و أو الطاقة من شكل الى شكل آخر. أي أن الكم ثابت و الكيف متغير فالتوازن يعتمد على الكيف. إذن عندما تخلق الطبيعة القدرة الجديدة لقطعة حجر من خلال عوامل الحت الطبيعية و تجعل لها طرفا حادا قادرا على تقطيع الفريسة فهي لم تضف كمًا، بل حولت كما الى كم جديد مختلف بكيف جديد. و القيمة هي حكم الوعي على الكيف، و المتفق عليه أن الأشياء (من وجهة نظر الوعي البشري) لا تكون ذات قيمة الا اذا كانت ذات فائدة استعمالية يكتشفها الوعي البشري في طيات الكيف الجديد. إن عمل الإنسان هو عمليات طبيعية تنتج تحولات لأنظمة طبيعية من حالة كيفية الى أخرى، وهو توظيف واعي لقوانين الطبيعة و حتمياتها في جزئيات تؤدي لغاية بشرية في الكلي، أي أن الحتمية في الجزئي و الإحتمالات في الكلي، فالطبيعة بكلمات اشبنغلر هي (مجموع الضرورات التي فرضها القانون. و ليس هناك من قوانين غير قوانين الطبيعة) و لكن هناك تطبيقات مختلفة لقوانين الطبيعة يكتشفها الوعي .
إذن قوانين الطبيعة تهدف لتحقيق التوازن فيها، فالطبيعة تبحث عن التوازن، و إن لم يكن هذا بعد واضحا على المقاييس الكونية أو التحت ذرية، فهو كذلك على الأقل ضمن المقاييس الزمانية و المكانية التي تحكم حياتنا اليومية، إذ تدفع الطبيعة بالمتغيرات بشكل يحقق هذا التوازن و ديمومة الحالة. أما وعي الإنسان فهو يهدف بالغالب الأعم لتعميق عدم التوازن أو كسر التوازن و تركيز طبيعة معينة في زمان و مكان معين الى درجة ترضي حاجته، و يخلق وضعا توازنه نسبي يعتمد إستمراره على التدخل المستمر من الخارج، و ضعا مشحونا بطاقة إضافية لو تركت الطبيعة على سجيتها و دون تدخل الوعي البشري لتم تفريغ هذه الطاقة و الانتقال الى حالة توازن مستقرة،. فالجاذبية مثلا تنزع لإسقاط الأجسام نحو مركز الجاذبية في حين أن البشري الواعي يرغب في رفع سقف منزله عن الارض و إبقائه معلقا، أي أن الوعي يمارس سلطته على الطبيعة بالإكراه و لكن من خلال توظيف قوانينها ذاتها، الوعي يوظف قوى الطبيعة بعضها ضد البعض الآخر و ينتصر و الطبيعة تتأقلم مع نتائج هذا النصر.
غاية الطبيعة في الحفاظ على أشكال الحياة مدمجة بقوانينها التي تحكم ظواهر الحياة المتعددة (مثلا الغرائز التي زرعتها الطبيعة في أشكال الحياة)، و الوعي البشري يترجم هذه الغاية بما يسميه (الحق الطبيعي في الحياة) و يستنبط قوانين و أعراف وضعية تحمي هذا الحق و تكون انعكاسا و امتدادا لهذه القوانين، و تتطور فحوى هذا الحق بتطور الوعي و تموقعه (في أفراد أو جماعات فرعية)، و تتراوح النظرة له من حق النوع في البقاء (أولوية الجماعة على الفرد) إلى حق الفرد في البقاء (أولوية الفرد على الجماعة)، تناقض جديد يمثل محرك جديد للتطور.
غاية الطبيعة في حفظ أشكال الحياة و استمرار ظاهرة الحياة عموما لا تتحقق الا على مستوى النوع، و لا يهتم بالفرد الا الفرد نفسه (الوعي المتموقع)، و الفرد المشخص ليس هدفا للطبيعة، بل الفرد عموما بصفته عضوا في الجماعة و حاملا لخواص النوع، هكذا نفهم النظرة الى المجتمع البشري المبنية على الداروينية و صراع البقاء بين الأفراد، فصراع الأفراد و الجماعات النووية بوعيها الجزئي دون كابح يخالف توجه الطبيعة و يؤدي كحالة متطرفة الى فناء النوع، و الوعي (الكلي) في حده الادنى يعي هذه الحقيقة و يتعامل معها بطرق تتطور مع التجربة و الخبرة المتراكمة فيه، و الأنانية الضامرة كبذرة في الأفراد تنمو متسارعة مع ظهور مفهوم المُلكية الشخصية ، فإذا ما تجاوزت الممارسة البشرية الحد الذي تفرضه قوانين الطبيعة كشرط لبقاء ظاهرة الجماعة البشرية المعينة (المبالغة في عدم المساواة في وجه من وجوه حق الحياة الى درجة تهدد بقاء الظاهرة الإجتماعية البشرية) يتدارك الوعي البشري الكلي الامر باختلاق حد أخلاقي من خلال الصراع مع أشكال الوعي المجزأ و الذي ينتج عنه التخلص من المؤثرات الفردانية العاطفية و الغريزية وتصعيد النتيجة-المركب للوعي الكلي و التي هي أكثر عقلانية من مقدماتها (تشكل العقل الكوني حسب هيغل)، ما ندعوه بالوعي الكلي او الجمعي هو الاخلاقي، و ينتج من خلال صراع التناقضات القائمة ما بين اشكال الوعي الفردي بهدف حفظ النوع.
الوعي الكلي (الجمعي) لدينا هو صاحب السلطة المرجعية الاخلاقية العليا و بما هو كذلك يتعرض لمحاولات اختطافه و احتكاره و التحدث باسمه و حتى بدلا منه خلال صراع التناقضات الفردية. فبدلا من أن يكون حكما حياديا في التعاملات الفردية كما يراه دوركهايم ، يتحول الى أداة سلطوية بيد الطرف الذي ساد (الوعي السائد)، و حسب رؤية دوركهايم فإن العقلاني هو الكوني، أي ما تصاعد الى أبعد من الفرداني (و لكن من وجهة نظره تتم العقلنة نتيجة تجريد المفاهيم و ليس الجدل) فيترجم الى عرف و قوانين لتلبية متطلب البقاء حسب ما تمليه الطبيعة بقوانينها الحاكمة للظاهرة البشرية، من هنا خاصية العقلانية في القوانين سواء الطبيعية أو الوضعية، فهي تجاوز للجزئي واعتبار للكلي، العقلنة هي هيمنة الوعي الكلي على الجزئي.
النموذج الشبه ستاتيكي
النموذج شبه الستاتيكي هو تمثيل لحالة من شبه الثبات تكون فيها سرعة التغير الحاصل في أحد المتغيرات المحددة للنظام أبطأ بكثير من سرعة استرخاء (RELAXATION) النظام وعودته لوضع توازن يستوعب التغير المذكور، حالة حركية يمكن افتراض الثبات و التوازن فيها و تمثيلها رياضيا بمعادلة الحالة Equation of state (أي نقل الحدث من مجال الصيرورة الى مجال الصير)، نظام بتركيبته العضوية يمثل اكثر من اجزائه، فالعناصر المادية و قوانين الظاهرة و الشروط المادية لتحققها في كلٍ واحد يمثل هوية النظام بابعاده الداخلية و امتداداته الخارجية.
في الأنظمة الطبيعية الشاملة لعامل الوعي كمتغير مؤثر (ظاهرة الاجتماع البشري)، يكون الزمن اللازم للاسترخاء (استيعاب التاثير الخارجي و التأقلم و العودة الى حال التوازن) يكون طويلا بالمقارنة مع نظام طبيعي فيزيائي، ويتقلص زمن استرخائها كلما زاد تطور الوعي، و هكذا تكون فرصة انهيار الأنظمة الأولى (نتيجة لتراكم التغيرات) أكبر بكثير من الأخيرة. و هذه الملاحظة تذكرنا بمحدودية نموذج دوركهايم المبني على الميكانيكا العضوية، كجهاز عضوي يتصرف ميكانيكيا بحكم قوانينه الداخلية و قوانين الطبيعة الخارجية دون إعتبار لدور الوعي البشري.
نستخدم في تحليلنا هذا النموذج لتمثيل عمليات النشاط الإجتماعي للبشر بما فيه النشاط الاقتصادي، أي إنتاج البنية التحتية المادية للمجتمع. فمع تطور الوعي الذي يميز هذه النشاطات عن باقي نشاطات الطبيعة، يعاد تشكيل النظام الطبيعي للإنتاج بما يضمن استبطان اثر هذا الوعي في عملية الإنتاج كجزء عضوي من النظام كباقي العوامل الطبيعية، فالوعي يترجم نهاية الى فعل، و الفعل الواعي هو من نطاق الطبيعة و محكوم بقوانينها، فإما أن يكون متناغما معها فيتم حفظ حالة التوازن لظاهرة الإجتماع البشري، و إما أن يكون نشازا يخل في التوازن فتقوم الطبيعة (او الوعي) بحركة استدراكية بالتدخل لاسترجاع التوازن إن كان الخلل محدودا او بانهيار الظاهرة كما نعرفها بحالة استفحال الإنحراف. من هنا نرى أن احتمالية فناء أو دمار المجتمع البشري هو احتمال مطروح دائما على جدول أعمال الطبيعة، و هو مرهون بتصرف البشر بشكل عقلاني (احترام قوانين و أهداف الطبيعة). و نشير هنا إلى دورات توينبي الحضارية و تقارب الآلية الدورية التي يقترحها من حالة ين الى يانغ ثم ين مرة اخرى وهي تعبيره الخاص عن ديناميكية تطور المجتمع من خلال التذبذب حول خط حالات التوازن المتصاعد، من خلال تراكم التناقض لصالح احد نقيضين ثم تفريغه عودة للتوازن و تراكمه مرة أخرى لصالح التقيض الآخر و تفريغه مرة أخرى و العودة لحالة التوازن. الدورة تبدأ حسب توينبي بعامل خارجي يفرض التحدي على المجتمع في حالة سكونه لينتفض و يستجيب للتحدي و ينتقل بذلك لحالة ديناميكية تنقله لمستوى حضاري اعلى
هنا لابد من توضيح الفرق بين النموذج التمثيلي الستاتيكي لنظام ما و كيفية تكييفه لدراسة التغيرات الديناميكية الواقعية الواقعة على و في النظام. في عملية إنتاج المعرفة البشرية بأشكالها يعمد العقل إلى تمثيل العمليات كافة وحتى الديناميكية منها من خلال بناء نماذج تمثل حالات التوازن التي يمر بها النظام قيد الفحص، فعملية تحول ديناميكية ما تختزل إلى دراسة وتحديد الفروق ما بين الحالة المتزنة البدائية والحالة المتزنة النهائية. ويمثل مبحث الديناميكا الحرارية مثالا ساطعا لهذا التوجه الموروث، فمن خلال إبداع مصطلح التغير شبه الثابت (QUASI-STATIC)، يتمكن العلماء من تمثيل عملية التحول بيانيا بإعتبار كل حالة وسطية او نهائية يمر بها النظام هي حالة ستاتيكية يمكن تمثيلها على منحنى تطور النظام، بمعنى إستنباط القوانين الرياضية التي تمثل علاقة المعاملات المحددة للنظام بعضها ببعض خلال المراحل الوسيطة و النهائية. (التغير شبه الثابت يعني أن سرعة التغير الحاصلة في أحد المعاملات المحددة للنظام أبطأ بكثير من سرعة استرخاء (RELAXATION) النظام وعودته لوضع توازن و بالتالي يمكن إهمال فترة خروج النظام عن حالة التوازن). وفي العلوم الإنسانية نجد أيضا أن هذا الموروث حاضر وفاعل، فنظريات الاقتصاد على سبيل المثال بعمومها تتمحور حول حالة التوازن وكيفية موازنة المتغيرات المحددة للنظام الاقتصادي بعضها لبعض، فهناك العرض والطلب، الأسعار والأجور والاستثمار والادخار، وهذه النظريات تفترض أن عمليتي التغير والاسترخاء في النظام الاقتصادي لا تخرج عن إطار نموذج التغير شبه الثابت المذكورة سابقا، و في حالة التغيرات الحادة في العوامل يمر النظام بحالة فشل حاد لا يكاد يتعافى منها الا بعد لأي و جهد كبيرين و فترة طويلة زمنيا.
إذن فالعلوم عامة والإنسانية منها خاصة تقوم على أن النظام المدروس يتبع نمطا متصلا وخطيا من حالات التوازن من خلال تغيرات موجية دورية متناهية في الصغر حول خط النمط،، كما نلاحظ فتحليلات ماركس بالواقع تدور حول تغير العوامل المحددة للنظام حول وضع توازن معطى .. هكذا مثلا يمكن تمثيل علاقات السعر و القيمة في حالة التوازن المفترضة وتحليل التغيرات التي تطرأ على أنها إنتقال النظام من حالة توازن إلى أخرى (حالات شبه ثابتة) حيث تكون التغيرات الطارئة من الخارج أبطأ من عملية استرخاء النظام إلى حالة توازن مما يحفظ صلاحية علاقة السعر بالقيمة على مدى الظاهرة الزمني.
نموذج الإنسان الفرد
هنا ننطلق من نموذج قياسي لإنسان فرد، مجرد من بعده الإجتماعي لدرجة تكفي لتفحص تفاعله الواعي مع المحيط الطبيعي دون التوقف عند أصل هذا الوعي إجتماعيا، إنه نموذج يمثل جد روبنسون كروزو البدائي.
بالنسبة لمدى صلاحية هذا النموذج، فبقدر عدم قدرتنا على تصور فرد بشري يمتلك صفة الوعي بمعزل عن الجماعة واهبة الوعي، تكون عدم قدرتنا على تصور مُلكية هذا الفرد المطلقة لنتائج عمله الواعي (عدا استهلاكه المباشر للغذاء بحكم طبيعته الحيوانية) و من طبيعته الإنسانية المزدوجة كفرد حامل للوعي و جزء من الكل المنتج للوعي (جوهر الإنسان الواقعي الذي منه يجب ان ينطلق كل تحليل) تكون نتائج افعاله الواعية (و قيميتها) ذات طبيعة مزدوجة و منها المُلكية. من هنا اصرارنا على عدم تحميل النماذج التحليلية اكثر مما تحتمل من خلال تعميم نتائجها على مجالات اوسع بكثير مما يمكن لهذه النماذج التجريدية بطبعها ادعاء تمثيلها. هذه التبسيطية في النظرة (الطبيعية) التي تبني على نموذج إنسان متفرد و تنظر للمجتمع على أنه المجموع البسيط لعدد أفراده تؤسس للنظرة الدونية للإنسان و تعزز من مكانة انانيته الطبيعة الحيوانية في المذاهب الفردانية على اختلافها، و هي مدخل الفكر الميتافيزيقي ليفرض نفسه و عوالمه المفارقة و نماذجه الدينية لإنقاذ الإنسان من هذه الدونية و الحالة المحكومة بالغرائز البدائية .
لنبدأ الرحلة مع هذاالإنسان البدائي من لحظة يعثر فيها على قطعة حجرية عملت عليها قدرات الحت الطبيعة فأصبحت تملك حافة حادة تصلح لقطع الأشياء بإنتاجية تتجاوز إنتاجية أسنانه و أصابعه. الحجر اكتسب بالنسبة للإنسان البدائي قيمة استعمالية أي قدرة جديدة لم تكن فيه، قيمة تبرر الحيازة. هذه القدرة الجديدة هي التغير النوعي في طبيعة الحجر الحاصل نتيجة التراكم الكمي لقدرات الطبيعة التي بذلت عليه على مدى زمن طال أو قصر.
يمكن لصاحبنا الذي أغرته قطعة الحجر المسنونة لحيازتها أن يعتمد على كرم الطبيعة ويستمر بالبحث عن مثيلات لها، أو أن يدفعه وعيه للتدخل مع الطبيعة لإنتاج قطعة مماثلة، و هنا يجتمع العمل البشري الهادف مع الطبيعي الحتمي في عمليات التحول في الطبيعة، و هنا يبدأ غزو الإنسان للطبيعة بهدف تملك أسباب الحياة التي تعظم قيمة حياته كما و كيفا.
بحدود ما تسمح به درجة تطور وعيه و بحدود المتوفر من امكانات في الطبيعة حوله، يقوم صاحبنا بإنتاج قطعة حجرية مسنونة لنقل أنها تحمل نفس قدرة تلك التي سنتها عوامل الطبيعة. لقد بذل صاحبنا قدرته و استهلك جزء منها على مدار فترة زمنية و حجم العمل هنا هو القدرة ضرب الزمن يمكن ان نسميه العمل الهادف او الحي أسوة بماركس، و الطبيعة أيضا بذلت قدرة عناصرها الداخلة في عملية الإنتاج و هذه العناصر لا تختلف في شيء من وجهة نظر العمليات الطبيعية عن العنصر البشري، صحيح ان الطبيعة لا تباشر العمل باختيارها كالإنسان و لكنها عملت من خلال الإنسان، الإنسان يبذل قدراته و قدرات الطبيعة بالتزامن و بشكل لايمكن خلال عملية البذل التفريق بين قدرة هذا و قدرة تلك، فهما في حالة تراكب عضوي و يشكلأن قدرة موحدة لنظام إنتاجي موحد عضويا، فلا مبرر هنا لتسمية مساهمتها بالعمل الميت أسوة بماركس، و نرى تسمية عمل الطبيعة بالطبيعي فكلا العملين لم يخلقا كما جديدا، و كلا العملين ساهما في ادخال قدرات الى العملية التي ادت لتغير في الكيف. هل يمكن ان نعتبر العمل المتكثف في السلعة كميا هو ممثل للعمل او معدل العمل اللازم إجتماعيا لإنتاج السلعة؟ الجواب هو لا. فالحجر المسنون لا يملك حتى الآن بعدا إجتماعيا و لا يدخل في علاقات إجتماعية، علاقته الوحيدة هي مع مالكه و بصفته (مكافئ) للقطعة الأولى التي أهدته إياها الطبيعة. علاقة التكافؤ هنا كاملة، فالقطعة الثانية هي بديل للأولى في تقديم نفس الحاجة و نفس الكيف. السؤال هنا أي الحجرين المسنونين أثمن بنظر مالكهما؟ الذي و فرته الطبيعة أم الذي ساهم هو بقدرته في صنعه؟ الواقع يشير الى عدم وجود أي قاعدة منطقية للتفريق بين الحجرين، فالقيمة الاستعمالية واحدة و قيمة الحيازة واحدة و لا معنى لمقارنة القدرة المبذولة من الطبيعة في القطعة الأولى و القدرة التي بذلها الإنسان كمساهمة مع الطبيعة في الثانية، فما يحدد قيمة المنتج هو قدرته على إشباع حاجة حيوية للإنسان، أي أن الطبيعة قد خلقت قيمة في الحالة الأولى و الإنسان خلق قيمة في الحالة الثانية بالتشارك م الطيعة . و تنطبق هذه القاعدة ليس فقط على الأغراض المفيدة المنفردة، بل على الأنظمة المركبة المعنية بتدوير القيم بكافة درجات تعقيدها من عمل فردي بسيط الى مصنع الى دولة، و كلما ازداد التعقيد كلما توارى دور أي جزء معزول بمفرده و ازدادت صعوبة حصره.
السكين الحجرية والفأس الحجري وكذلك قطعة الفراء التي يتدثر بها الإنسان البدائي حيوية ونادرة. حيوية لأنها أدواته لتحصيل الغذاء والدفاع عن حياته أمام مخاطر الطبيعة من حيوانات مفترسة وبرد قارص، ونادرة لعدة اسباب منها تخلف المستوى التقني المنتج لهذه الأدوات، من هنا لا بد من حيازة هذه الأغراض، و الحيازة هي العلاقة البسيطة المباشرة ما بين الإنسان و الغرض المفيد، اما قرار متى و كيف تستخدم هذه الاغراض، أي السلطة (تجلي العقل و حضور قوانينه في حدث طبيعي-إجتماعي يشتمل على عامل الوعي البشري) عليها فهي المستوى الاعمق لهذه العلاقة بين الطرفين و هي ذات صلة بحيوية السلعة بالنسبة للإنسان المتفرد.
المُلكية
مفهوم المُلكية لا ينشأ الا في مواجهة الحيوية والندرة فلا معنى للمُلكية خارج هذين الشرطين، وإذا ما توافر عنصر إنتاج معين بوفرة كبيرة (الهواء مثلا) لا يعود هناك من معنى لإعلان أحدهم تملك جزء منه على الرغم من حيويته الفائقة. والمُلكية تفترض قيمة للعنصر المملوك، فلا معنى لامتلاك شيء لا قيمة له. والحيوية هي القيمة الأعلى التي يمكن أن تتوفر للسلعة و بالأصح هي أصل القيمة عموما و الندرة هي دافع الحيازة، فالإنسان الواعي إذاً يمارس المُلكية على النادر والحيوي لضمان بقائه، و لتعزيز ضمان البقاء لا بد من الإنتاج، إنتاج قيم حيوية تعوض المستهلًك بداية (إعادة إنتاج) و لاحقا رفع قيمة الحياة عموما بشقيها المادي و المعنوي (إنتاج فائض يتجاوز حد حاجاتالكفاف الحيوية و حاجات إعادة الإنتاج).
في مراحل المشاعة الأولى لا يكاد يوجد عمل للبشر سوى إعادة إنتاج الذوات البشرية للأفراد من خلال جمع الثمار و الإقتيات على ما توفره الطبيعة بشكل مباشر فلا تقسيم واضح للعمل هنا، و النشاط الثاني هو حفظ النوع بالتكاثر حيث يظهر شكل تقسيم العمل القائم على الجنس أي على أسس طبيعية بحت. ضمن هذه المعطيات لا يطور الوعي مفهوم المُلكية الخاصة، فالوعي الفردي متجه نحو إعادة إنتاج الذات الفردية و أداة الإنتاج هي نفسها السلعة المستهلكة، أي الثمار المتوفرة في البيئة المحيطة، أما حفظ النوع فهو ما تتكفل به الطبيعة من خلال الغريزة المشتركة بين جميع الأفراد (مؤسسة الزواج الجماعي). إذن كي يبدأ مفهوم المُلكية في التبلور في الوعي البشري، لا بد من الإنتقال الى مرحلة إنتاج الفائض، إنتاج يهدف لرفع مستوى الكفاف المرتبط بمرحلة جمع الثمار و ما يرافقه من ضرورة مأسسة إدارة و توزيع هذا الفائض لضرورات البقاء كما تحددها الطبيعة (أولوية بقاء النوع على الأفراد) (ظهور عائلة تعدد الأزواج الذكور و تحديدها بخط الأم و أشكال العائلة اللاحقة) و مع تحول إنتاج الفائض الى حالة دائمة تتمايز فيها وسائل الإنتاج كشكل دائم للثروة عن مواد الاستهلاك بطبيعتها الهالكة، تبدأ الملكية الخاصة بالتبلور تدريجيا فتتحول قدرة العمل عموما و المرأة خصوصا الى سلعة إنتاجية و يتطور شكل العائلة الى تعدد الزوجات و ما بعده، و ما يرافق هذه الحالة من ضرورة تقسيم أعمق للعمل و يبدأ الوعي بالتموقع و يتجزأ بناء على هذا التقسيم،
يبدأ مفهوم المُلكية المتناقض بالظهور، فالوعي المتموقع في فئة كانت مؤتمنة على إدارة الفائض لصالح الجماعة يبدأ بالدفع باتجاه المُلكية الخاصة المطلقة (جمع الحيازة و السلطة على توظيف الحيازة في يد الحائز) و تميُز هذه الفئة عن الفئات الأخرى، في حين ينحى الوعي الكلي، (ألانوارالتي للعموم، حسب تعبير روسو) نحو تثبيت المُلكية المزدوجة- المشتركة (مفهومنا للمُلكية المشتركة هو الحالة التي يتوازن فيها قطبي المُلكية، أي الحيازة و السلطة، حيازة أفراد و سلطة جماعة فحسب هوبل مثلا: (يضاف إلى ذلك انه على الرغم من كون الحيوانات التي يتم اصطيادها ومعظم الأدوات المعدة للاستعمال الشخصي أشياء قابلة لفكرة الملكية ، فان الإسكيمو معادون لفكرة امتلاك المرء الكثير لنفسه، وبالنتيجة تحديد مقدار الأموال التي „يمكن أن تنتفع بها اﻟﻤﺠموعة بشكل فعال. ففي إحدى مناطق الاسكا مثلا يعتبر امتلاك المرء كمية كبيرة من البضائع أكثر مما يمكن أن ينتفع به الإنسان فترة طويلة جر „يمة كبرى ، وتصادر تلك البضائع لصالح الجماعة) ، أما مع استفحال مفهوم الملكية الخاصة المطلقة فتنقطع الصلة المباشرة ما بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج، في حين تتغير الأولى بفعل الوعي المجزأ و بسرعة، تتخلف الثانية عن اللحاق بركب التغيير الى حين نضوج الوعي الكلي نتيجة صراع المتناقضات.
استمرت هذه الازدواجية ما بين الحيازة و السلطة في المُلكية في خلفية كل التحولات التي مر بها نظام الإنتاج البشري و تمظهرت في كل حالة بشكل تناقض جديد، و في اوروبا العصور الوسطى مثلا، والسابقة للمرحلة الرأسمالية نجد أن الكنيسة والنقابات قد لعبت نفس الدور تقريبا في مشاركة السلطة على الحيازة (فالمبدأ الأول الكبير إذن للحياة الاقتصادية في المدن هو أن الصناعة كانت تحت رقابة الجماعة، وأن تدخل الجماعة كان له كل ما يبرره. ولم يكن للمُلكية حقوق مطلقة خارج مصلحة الجماعة وازدهارها. فإذا استثمر فرد من الناس قطعة من الأرض ضمن حدود مصلحة المجموع فقد كان من الطبيعي أن ينظر المجتمع إلى السلع المصنوعة بالنظرة ذاتها . وعلى هذا الأساس الإنتفاعي يدافع توما الأقويني عن المُلكية الخاصة بالاستناد إلى فكرة الصالح العام. فهي على الإجمال تخفف من الفوضى والخصومة وتؤدي إلى النظام والسلام – فيقول توما الأقويني: "وعلى الإنسان أن يتملك الأشياء الخارجية لا على أنَّها ملكه الخاص ولكن على أنها مُلكية عامة وذلك لكي يكون مستعدا لمشاركة الآخرين ضيقهم") .
المُلكية تبدو في حالة الإنسان الفرد مزدوجة، حيازة و سلطة دون تناقض ظاهر، ف"التناقض" ينحل في الفرد نفسه، و لكنه تناقض كامن، حتى لو بدا قطبا الازدواجية الكامنة هذه و كأنهما واحد، و تبدو سلطة صاحبنا الإنسان الفرد مطلقة في تقرير كيفية و توقيت توظيف مقتنياته كما يوظف أعضاء جسده، أما في الوضع الفعلي، كونه عضو في جماعة فإن تناقض الحيازة و السلطة في المُلكية يبدأ بلعب دورا حاسما في تطور المجتمع مع تطور فائض الانتاج.
يبدأ تمايز قطبي المُلكية (حيازة-سلطة) و علاقة التناقض بينهما بالتبلور و فرض نفسه مع التحول الى المجتمع الزراعي و ظهور مُلكية الأرض كمُلكية دائمة و مستقرة و يظهر التناقض بوضوح كون العمل المباشر في الأرض هو فردي و الفرد مشروط بكونه جزءا من الجماعة و عمله مشروط بإعادة إنتاج الجماعة ككل، أي أن المُلكية في الأصل ليست جماعية بالمطلق كما يراها ماركس فالعمل في الزراعة في بداياته فردي، و الحيازة فردية و السلطة عليها جماعية، و الفرد بعلاقته مع الجماعة يظهر بصفته الحيازية لشروط إنتاج معينة و بالتالي فهو عنصر متكافئ مع الآخرين و مكمل لهم، و الأهم أن له حق السلطة على شروط الإنتاج التي في حوزتهم. أي أن شرط اكتمال ملكيته لما يحوز عليه هو مشاركته بالسلطة على الثروة ككل، على كل الحيازات في المجتمع، و القول بمُلكية الدولة لشروط الإنتاج أو بعضها يعني بالضرورة ظهور الدولة ككيان دائم وانفصالها التام عن المجتمع في كيان مستقل يمارس الحيازة و السلطة على شروط الإنتاج بمعزل عن المجتمع، أي أن مُلكية الدولة تختلف تماما عن المقصود بالمُلكية المزدوجة أو الجماعية في سياق مفهوم المُلكية الذي نقدمه هنا، و مُلكية الدولة حسب تعريفنا ما هي سوى شكل من أشكال المكلية الخاصة المطلقة اجتمعت فيها الحيازة و السلطة بيد جهة واحدة سواء كانت هذه الجهة دولة أو جماعة أو فرد بعينه. و عدم التمييز هذا ما بين الحيازة و السلطة و ضرورة إجتماعهما لتشكل المُلكية المشتركة الكاملة و بالتالي عدم التمييز ما بين مُلكية الدولة و المُلكية الجماعية نجده لدى ماركس في (الأسس)، حيث يعتبر أن مُلكية دولة المدينة (روما مثلا) للأرض هي ذاتها المُلكية الجماعية و أن (حيازة) الأفراد لقطعة أرض هي من خلال الجماعة و بالتالي هي مُلكية طارئة (المُلكية جماعية "للإله الروماني" في الحالة الرومانية، المالك الخاص للأرض هو كذلك بصفته رومانيا، و لكن كروماني هو مالك خاص لأرض)، و الأصح أنها كانت حيازة و هي شرط للمواطنة و مُلكية الدولة لا تعني المُلكية الجماعية. و نفس الخلط نجده عند ذكره للمُلكية في الحالة الجرمانية (حسب تصانيف ماركس للمُلكية) إذ يقول: ( الفرد [الجرماني] هو فقط حائز. ما هو موجود هو مُلكية جماعية, و حيازة خاصة فقط). هكذا لا يبدو واضحا كيف للأفراد أن يشاركوا بالمُلكية الجماعية حيث تم فصل الجماعة كوجود مستقل (الدولة – القبيلة) يملك عن الأفراد الذين يحوزون، و كيف للجماعة أن تمارس السلطة على المُلكية و أشكال حيازتها دون مشاركة الأفراد بممارسة هذه السلطة، أي تغريب الفرد. المُلكية بالنهاية هي وسيلة حفظ حق الحياة، و حياة الأفراد و الجماعة (كنوع) مترابطة و تعتمد على بعضها البعض، فلا بد للمُلكية من عكس هذه العلاقة الوجودية من خلال ممارسة الجماعة سلطة على الحيازة الفردية و من خلال مشاركة الفرد في السلطة على الحيازات الفردية الأخرى (الثروة الإجتماعية).
عند بحث موضوع أصل المُلكية في مرحلة ما بعد المشاعة، و هذا ما يبحثه ماركس في الواقع في كتابه الأسس، يجب تعريف نموذج المشاعة الذي يفترض وجود الشكل النقي للمُلكية الجماعية و الذي لا يقبل تمثيله بمُلكية الدولة، كما يجب أخذ الصبغة الامبراطورية لدولة المدينة القديمة و التمييز ما بين العلاقات الإجتماعية في الدوائر المنتشرة من المركز الى الأطراف و ما بين هذه الدوائر.
المُلكية ضرورة طبيعية، شرط حيوي لاستمرار الحياة و رفع سويتها، و على مستوى نموذج الإنسان الفرد لا يمكن إطلاق أية أحكام أخلاقية، الأنظمة الطبيعية لا تملك قوانين تعكس متطلبات أخلاقية بحكم كونها طبيعية، جل ما في الامر أن الشروط الأخلاقية قد تفرض على النظام من الخارج (من الوعي) كمحددات لحجم و اتجاه التحولات فيه، محددات يفرضها الوعي نتيجة لدروس الواقع ، أي أنه ينتقل من نظام طبيعي الى نظام جديد أعقد و مختلف كيفا. قلنا أن وعي الإنسان هو احد عوامل النظام الإنتاجي البشري الطبيعية و يدخل في علاقة جدلية مع قوانين الطبيعة، و الوعي هو من يصوغ قواعد الأخلاق و يفرضها على النظام من الخارج، و يتفاعل النظام معها من خلال محاولة استبطانها و تضمٌنها كجزء من آلياته الداخلية بشرط عدم تناقضها مع متطلبات الطبيعة، أي أن الوعي يجب أن يصوغ محدداته الأخلاقية (و قوانينه الوضعية عموما) على شكل يتناسب و متطلب الطبيعة في الحفاظ على النوع البشري. في نموذجنا للإنسان المتفرد لا يوجد أهداف مختلفة للمقارنة بمعايير تفاضلية و تحديد أولوية، الهدف الواحد هو بقاء صاحبنا على قيد الحياة وهو (حق) مطلق و مشروع طبيعيا و إنكاره او تحويره هو من باب العبث. بالتالي لا ضرورة للبحث عن حق طبيعي مبني على مساهمته في إنتاج القيمة من خلال العمل لتبرير لاحق لحق الطبقة العاملة في الحياة و مُلكية شروطها المادية.
إنتاج الفائض في ظل المُلكية الخاصة يخلق تناقضا جديدا في الوعي البشري، فتعريف الحاجات الحيوية (التي تتجاوز الحاجات البيولوجية) من وجهة الوعي المتموقع حول المُلكية الخاصة يختلف عن تعريفها في الوعي الكلي. في المشاعة كانت الحاجات الحيوية متعارف عليها من قبل الجميع، و كان إنتاج الفائض مسيرا بما يتناسب معها كما هي في لحظة ما و بما يتناسب مع تطورتعريفها في الوعي الكلي، و من هنا لم تعرف المشاعة ظاهرة الفقر. إن التمييز الواضح ما بين الإجتماعي و الإقتصادي الذي تشير له أرندت في مرحلة نشوء دولة المدينة القديمة (بداية الدولة الطبقة-أنظر لاحقا) و غياب هذا التمييز في عصرنا الحاضر هو في الواقع مرتبط بالإنتقال لإنتاج الفائض اقتصاديا بنظام إنتاج موسع و متراكب بالتوالي بحيث تتكامل جهود الإنتاج التي كانت منعزلة عن بعضها البعض بالإنتاج البسيط للكفاف باستقلالية و بالتوازي ما بين عمليات الإنتاج الأسري ألتي كانت تتم على مستوى المنزل و العائلة المستقلة. و بنفس النظرة نجد أن إنتقال الكثير من قواعد التعامل داخل الأسرة لاحقا إلى المؤسسات الجماعية للإنتاج(النقابات ) و التي تلاحظه الكاتبة ما هو إلا كون هذه المؤسسات قائمة على مبدأ المشاعة كما هي الأسرة.
ما أن تظهر المُلكية الخاصة حتى يظهر الفقر كظاهرة تؤسس لإنقسامات في المشاعة، و تبدأ العلاقات ما بين الطبقات الجديدة و التي هي في الأصل تكاملية و تعاونية (بالتراضي و دون حاجة لإكراه القوة) بالتناقض، و يظهر قطب التنافسية و المزاحمة فيها، و يظهر تناقض آخر نتيجة تناقض تعريف الحاجات الحيوية يتمثل بزيادة الثروة بالتزامن مع زيادة الفقر و تظهر بذلك الحاجة لظهور سلطة تمارس الإكراه بالقوة لكبح التنافس و المزاحمة من جهة و قمع تمرد الفقراء من جهة أخرى حماية للمشاعة من التفتت نتيجة وصول التناقضات حد الانفجار. أما القمع فيتم من خلال ممارسة العنف (الخشن و الناعم) الذي تحتكره السلطة الجديدة (أنظر لاحقا). كما تقوم السلطة المتمركزة الجديدة بفرض العمل الجماعي على الأفراد لإنجاز المشاريع الكبرى التي تؤسس لإنتاج الفائض على مستويات غير مسبوقة، عن طريق تسخير العبيد و القن و من في حكمهم.
إن (رغبة الإنسان في تحسين ظروف معيشته) التي يجعلها آدم سميث دافعا لكل النشاط الاقتصادي البشري ليست رغبة طارئة او نزوة شريرة نابعة من طبيعة بشرية خسيسة، بل هي ترجمة لمقاصد الطبيعة في تطويرها للجنس البشري، انها غريزة البقاء، تماما مثل (رغبة الإنسان في السلطة) التي يؤكد هوبز على دورها المحرك في المجتمع البشري، كلتاهما تعنيان المُلكية. و تحسين ظروف المعيشة او زيادة السلطة و طبيعة تمركزها إما على مستوى الفرد من جهة أو الجماعة من جهة أخرى هو انعكاس لازدواجية الوعي ما بين كلي و جزئي متموقع. من هنا الدافع الأزلي لكل من مالك ثروة (حيازة) و مالك سلطة (سلطة على الثروة) للتزاوج و تحقيق تكامل المُلكية (الحيازة و السلطة). و تجدر الإشارة هنا الى أن تقسيم العمل الإجتماعي لتحقيق إنتاج الفائض و تحسين ظروف المعيشة يمكن أن يكتفي بتركيز جانب الحيازة من المُلكية في يد فئة معينة (بناء على معطيات طبيعية تحبذ هذه الفئة لحيازة جزء الثروة المعني) خدمة لإنتاج الفائض عن طريق التخصص و رفع الكفاءة، و ليس هناك ضرورة طبيعية تقتضي تركيز السلطة على الثروة في يد أية فئة بالتعيين و الذي يجعل من تقسيم العمل يتمظهر كتقسيم إجتماعي طبقي، فهناك من يعمل (العبيد و من في حكمهم) و من لا يعمل (السادة و من في حكمهم) و هناك من لا يملك السلطة على وسائل الإنتاج و منتجاتها و هناك من يملكها، هذا هو التقسيم الذي يتناسب مع ظهور المُلكية الخاصة في ظل ضرورة إنتاج الفائض. من هنا تتضح علاقة تطور شكل المُلكية الخاصة بظهور طبقة العمال و هو الشرط الأول لبزوغ نظام الإنتاج الرأسمالي، فالعامل في ظل المُلكية الخاصة هو من لا يحوز على أي شرط إنتاج سوى شرط قدرته على العمل و التي يستحيل نزعها منه فهي معجونة بذاته و الشكل المتبقي له بعد تجريده من كل ما يميزه كإنسان. أما السلطة على قدرة عمل العامل فهي منزوعة منه و ملقاة في سوق العمل تحت رحمة العرض و الطلب، بهذه الحالة تكون علاقة الفرد مع الآخرين في الجماعة علاقة تبعية غير متكافئة و يفقد حقه في السلطة على شروط الإنتاج عموما و عمله هو خصوصا و بالتالي حقه في الحياة، و من هنا حالة الإغتراب كحالة من العبودية الجديدة التي يجد العامل فيها نفسه.
إن تراكم الثروة بيد فئة معينة و احتكار المُلكية بشقيها الحيازة و السلطة، و على مدى تاريخ تطور المجتمع البشري يحفز رغبة تملك الثروة أكثر بدافع غريزي بحت، غريزة البقاء. فقيمة الحياة كما بينا تجسدت في الثروة، و الرغبة في الحياة تمثلت في الرغبة بالثروة ففي أوروبا العصور الوسطى مثلا (كان ينظر إلى شنق الأطفال الصغار على أنه شر أهون من تهديد المال عن طريق السلب والنهب.) .
هكذا يسود نمط إنتاج يهدف بالأساس لتحقيق الفائض والتراكم لثروة طبقة على حساب تحقيق مستوى أعلى من الكفاية للعبد و للقن وللعامل وعلى حساب تناغم المشاعة البشرية مما يؤدي لعدم التوازن و(الضياع) حسب التعبير الماركسي، حيث إنّ التناغم والتوازن يتطلبان توظيف الفائض لرفع درجة الكفاف لأفراد المشاعة وتوجيه الإنتاج أيضا لنفس الهدف، وبالتالي أولوية الصبغة الاستعمالية للمنتج على الصبغة السلعية التبادلية. وفي ظلّ المُلكية الشخصية المطلقة، التي بدأت بالتبلور مع ضم الحيازة الى السلطة في المُلكية يتم إغفال شرط الحيوية لعناصر الإنتاج وذلك لصالح ما يمليه مبدأ تحقيق الحد الأقصى من الربح. هكذا تتم التضحية بمصالح الجماعة لصالح الأقلية المالكة لعناصر الإنتاج.
مع الإنتقال من نظام الإنتاج الزراعي والصناعي للكفاف إلى التجاري للفائض، تقع التغييرات المناسبة لهذا الإنتقال في منظومة القيم المفروضة على المجتمع الجديد من قبل الطبقة المهيمنة الجديدة، فنجد أن المذاهب التطهيرية التي رافقت عصر النهضة وبتأثير من لوثر وكالفن قد أعلت من قيمة العمل الحرفي الهادف للربح المطلق واعتبرته الطريق الأمثل للتقرب لله (إن اخترت الطريق التي تؤدي إلى ربح أقل، تكون قد ابتعدت عن غاية قصدت لها، ورفضت أن تكون خادما لله) . وقد لاحظ ماكس فيبر هذه العلاقة ما بين (الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية) وذهب بها (تماشيا مع نزعته المثالية المؤمنة بأن كل حقبة تاريخية لها روحها المميزة)، إلى حدّ جعل الأولى علة للثانية .ومن هذا المنطلق أيضا كان منع الثورة الفرنسية للنقابات والجمعيات العمالية تحت شعار المساواة أمام القانون، تلك النقابات والجمعيات التي كانت تهدف بالأساس إلى إدارة الفائض بما يتلاءم وحاجات رفع مستوى الكفاف لأعضائها، ولم يُسمح في تشكيل النقابات في فرنسا حتى عام 1864 أي بعد ثورة الحرية والعدالة والمساواة بنحو خمس وسبعين سنة وبعد صراع مرير خاضته الطبقة العاملة . وكذلك عرّف دستور هذه الثورة المواطنة وحقوقها (الإنتخاب) بحيازة المُلكية الخاصة تماما كما كانت في زمن حمورابي.
في عصرنا الحاضرنجد أن أصل التناقض ما بين مفهوم المُلكية المزدوجة كقيمة إجتماعية وبين مفهوم المُلكية الخاصة كقيمة مغايرة قد نشأ بالذات عندما ظهرت طبقة التجار على الساحة الإجتماعية وصادرت مُلكية المنفعة (الحيازة) من الأفراد ومُلكية الرقبة (السلطة) من الجماعة أي جمعت الحيازة مع السلطة، لتجعل المُلكية الخاصة المطلقة لطبقة معينة للمنتجات و لاحقا لوسائل الإنتاج هي الصيغة التي يجب أن تسود كما حدث في القرنين الثامن و التاسع عشر في اوروبا، حيث تمركزت السلطة في خانة الإنتاج و مورست بشكل شبه مباشر من قبل مالكي وسائل الإنتاج (من خلال السيطرة على مؤسسات الدولة و توجيه قدرتها القمعية لصالح الطبقة البورجوازية الناهضة) مما جعل ماركس يعطي الأولوية في تطور النظام الاقتصادي لتطور خانة الإنتاج (ان نمط إنتاج معين يفرض طبيعة محددة على الاستهلاك و التوزيع و التبادل و يفرض بالأخص علاقات محددة بين هذه اللحظات) ، وكنقيض و رد فعل لمفهوم المُلكية الخاصة المطلقة بدت المُلكية الجماعية المطلقة لوسائل الإنتاج حصرا كقيمة مضادة، وتجسدت بشكل رأسمالية دولة العمال الاحتكارية، ويقول لينين عشية الاستيلاء على السلطة في أيلول 1917 (إنَّ جدلية التاريخ هي بحيث إن الحرب – التي عجلت بصورة فائقة تحول الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية- قد قربت بذلك الإنسانية من الاشتراكية حتى درجة كبيرة... أنَّ رأسمالية الدولة الاحتكارية هي التهيئة المادية الأكثر كمالا من أجل الاشتراكية... فليست الاشتراكية سوى احتكار الدولة الرأسمالي وقد وضع في خدمة الشعب بأسره) .
مفهوم القيمة
لا بد هنا من توضيح أن القيمة و إن كانت مفهوما بشريا أنتجه الوعي البشري، الا أنه مرتبط و مبني على وجود مادي واقعي، فالقيمة (نقتصر هنا على القيمة الاستعمالية) كمفهوم مشتق من خواص الجسم المادية، و خلق القيمة لا يعني خلق مادة، بل تحويل تركيبة المادة لإظهار خواص جديدة يسبغ عليها الوعي صفة القيمة الجديدة، أي اعادة تشكيل المادة بشكل يمنحها قدرة جديدة لم تكن موجودة اصلا، القدرة على اشباع حاجة لم تكن مشبعة قبل انتاج القيمة وقدرتها الجديدة. هكذا يجب فهم مصطلح (خلق القيمة) على أنه خلق لقدرة جديدة و تحقيق لإحتمال كان ممكنا فأصبح يشبع حاجات للبشر لم تكن مشبعة سابقا، و هذا هو المعنى الذي نتبناه في القادم من فصول الكتاب. و هذا الفهم يختلف جذريا عن الفهم الكمي الذي يقدمه لنا ماركس و المبني على (حجم العمل المتخثر في المنتج) أي الجانب الميت و لهذا الموضوع بحث آخر لا يتسع له المقام هنا، فالقيمة بالنسبة لنا مرتبطة بالجانب الحي و المتمثل بالقدرة على إشباع حاجة.
قيمة غرض ما هي تعبير عن تقييم الإنسان لأهمية هذا الغرض في حياته من حيث استمرارها و نوعيتها، باختصار حيوية الغرض. قد تبدو للوهلة الأولى على أنها مفهوم ذاتي لا تمت للواقع المادي بصلة، أي مجرد رأي او مسألة ذوق، و لكن حقيقتها عكس ذلك، و التفضيلات الذاتية و إن كانت حاصلة الا أن حدود تأثيرها على قرار حيازة الغرض (كونه ذا قيمة) تبقى ثانوية و طارئة في وضع اقتصاد الكفاف للإنسان. الوعي البشري يشتق مفهوم القيمة من الحياة الواقعية، و كما يقول ماركس فإن القيمة الاستعمالية تتجسد في الخواص الطبيعية للأغراض، و بالتالي في دورها في استمرار و تحسين نوعية هذه الحياة. إذن قيمة الأغراض المادية مشتقة من تقييم الإنسان لحياته طولا (كميا) و نوعيا (كيف). قيمة حياة الإنسان هي أصل القيم سواء للأمور المادية او الإجتماعية و المعنوية (حسب المفهوم المادي، يشكل إنتاج و تجديد الحياة المباشرة في آخر تحليل، العامل الحاسم في التاريخ) من هنا لن يتوقف الإنسان في نموذجنا عن البحث عن أو ابتكار أغراض ذات قيم استعمالية اضافية لتمديد و تحسين حياته.
هكذا يبدأ الإنسان بتشكيل (ثروة) و هي تراكم قيم أغراضه الاستعمالية، قدراتها و التي يراها كامتداد لذاته. إن النشاط الإنساني برمته يتمحور حول تحويل القيم (القدرات) المادية المتوفرة في الطبيعة الى قدرات جديدة تخدم الحياة و تعلي من قيمتها، أي تحويل القيم المادية (كم بكيفية معطاة) التي توفرها الطبيعة الى قيمة إنسانية (كم جديد بكيفية جديدة) مشتقة من القيمة الأسمى، قيمة الحياة.
الثروة
اتضحت لصاحبنا (الإنسان المتفرد) العلاقة ما بين حياته و بين ثروته، علاقة ضرورة مادية للبقاء و حفظ الحياة، و تمثل هذه الثروة امتدادا لتركيبته العضوية الذاتية، فثروته هي قدرات مضافة الى قدرته الأصل، و النتيجة هي تغير نوعي نحو إنسان جديد على الطبيعة أن تعترف به و تحول من مساراتها بإعتبار تأثيره الجديد، ويبدأ هذا الإنسان بتوظيف قوانين و قوى الطبيعة (في حدود وعيه) لخلق قيم جديدة.
كلما ازدادت الثروه بتراكم قيم استعمالية جديدة على شكل مقتنيات، ازدادت قدرة الإنسان الجديد على تأمين حاجياته الحيوية باستمرار من المصادر الطبيعية ضمن شروط الندرة التي تفرضها الطبيعة في لحظة تاريخية معينة أي تحسين كم و كيف حياته، كما يتزايد نفوذه على واقعه من خلال قدرته على توظيف مقتنياته أنى شاء و كيف شاء لخدمة صالحه المعيشي، أي ممارسة السلطة على موضوع الحيازة. الثروة إذن أصبحت ضامنا للحياة و تشتق قيمتها (الكلية) من تقدير الإنسان لقيمة حياته.
العلاقات الاجتماعية للفرد مع باقي المشاعة هي في الأصل مبنية على تعظيم قيمة الحياة للجماعة ككل و بالتالي تعظيم قيمة حياة الفرد ذاته، أي أن لا معنى للاجتماع البشري إذا ما اقتصرت الملكية للثروة الكلية على الحيازات الفردية لأجزائها، فإذا تساوى المجموع البسيط للأجزاء مع الكل فليس هناك قيمة مضافة من وجهة نظر الأفراد و لا داعي عندها للإجتماع البشري، وكما يلاحظ روسو (...أن مجموع السعادة المشتركة يوفر لكل فرد حصة أعظم من تلك التي يوفرها لنفسه..) فالتغير النوعي الناتج عن التراكم الكمي بهذه الحالة لا يظهر إلا في بعد السلطة على الحيازات الفردية، لابد من التشارك في السلطة على الحيازات ما بين أفراد المشاعة.
تراكم الثروة له وجهان، يمكن إعتبار الأول تراكم خارج ذات الإنسان، أي أشياء طبيعية علاقته بها حيازة فقط و هذا ما يقود لاستثناء الكيف في معنى الثروة و قصرها على الكم و هو مبدأ اعترض بناء عليه العديد من الباحثين في وجه الكلاسيك في تحديدهم لما يعتبر عنصرا من الثروة، و الوجه الآخر ان عناصر الثروة قد اصبحت امتدادا طبيعيا (و سنرى لاحقا انها امتداد إجتماعي أيضا) لماهية الإنسان و جزءا من هويته التي يقدمها للعالم تتجاوز مجرد الحيازة الى ما ندعوه المُلكية. أي ان تغيرا نوعيا قد طرأ، و أن مفهومنا الأحادي للمُلكية السائد اليوم هو في الأصل مفهوم مركب، تطور من كونه مجرد حيازة الى مُلكية تشمل الحيازة و السلطة على موضوع الحيازة، و أن قيمة الثروة المتحصلة تتجاوز مجرد مجموع القيم المتفرقة للمقتنيات، فالثروة هي حاصل تغير نوعي جديد نتيجة تراكم كمي للقيم. الثروة كقيمة أكبر من مجموع أجزائها و الحياة أكبر من مجموع أجزائها. الثروة امتداد و تكامل مع وجود البشر و ماهيته بمواجهة الطبيعة، هي تجسد مادي للحياة و قيمتها.
هذه العلاقة الأبدية ما بين الثروة و قيمة الحياة البشرية و قدسيتها لدى الإنسان (قلنا أن قيمة الحياة هي أم القيم و أصلها) بقيت قائمة في كافة مراحل تطور الجماعة البشرية و إن لم يتعرف عليها الوعي البشري بشكل مباشر و واضح فيرسم تمظهراتها، حتى وصلت الى مرحلة التشيوء (fetishism) فتعرف عليها و لاحظها ماركس في نظام الإنتاج الرأسمالي، فالثروة السلعية ليست فقط واهب للحياة بل هي الحياة نفسها كما يراها الإنسان تحت تأثير وضع الإغتراب الذي يعانيه.