آذان التاريخ وعيونه


كاظم الموسوي
2021 / 2 / 27 - 17:44     

من مراسلات بين الراحل (الجورنالجي) الاستاذ محمد حسنين هيكل (ت2016/2/17) والسير ستيفن رانسيمان، أستاذ التاريخ، (الاشهر الذي حقق لنفسه مكانة فريدة، حين جلس على كرسي التاريخ في جامعة كامبردج، وفي جامعة أوكسفورد، رغم المنافسة التقليدية بين الجامعتين، كما وصفه هيكل). خطاب نشره هيكل في تقديمه لكتابه؛ الانفجار عام 1967 ، وفيه أشار السير، بعد قراءة اول كتاب من مجموعة "حرب الثلاثين سنة" لهيكل، وارسل الخطاب مع السفير اللبناني في لندن، نديم دمشقية، صديق الشخصيتين، اشار الى إعجابه بمؤلف هيكل، وكتب فيه: "عزيزي... لقد فرغت قبل أيام من قراءة كتابك الأخير وكنت ابحث عن وسيلة اتصل بك، ولسعادتي قابلت السفير دمشقية ومن خلال حديثي معه، عرفت انكما اصدقاء، وقد بعثت إليك معه بكتابي عن الحروب الصليبية ولست اعرف اذا كنت اطلعت عليه، فإذا كان الأمر كذلك فلا اظنك تمانع ان تكون لديك نسخة مكررة منه، كتب لك مؤلفه عليها، اهداء بخطه.. انني قرأت كتابك وتصورت كم كان يمكن أن يختلف كتابي، وكتب كثيرين من الذين عانوا كتابة التاريخ غيري. لو انه اتيحت لنا جميعاً رواية شاهد عيان عاش وقائع الأحداث التي نتعرض لها ثم فعل مثلما فعلت انت وسجل لنا ما رأى.
ولا اخفي عليك أنني احسدك على تجربتك التي اعطتك الفرصة لتعيش التاريخ وتكتب عنه أيضا.
هناك قول شائع لعلك تتذكره، وهو يقول، أن التاريخ له آذان، ولكن ليس له عيون، بمعنى أننا نسمع روايات عما جرى من وقائعه منقولة لنا بالسماع والتواتر عن هذا أو ذلك. من الناس، ومعظمها مكتوبة باثر رجعي يخلط الوهم بالحقيقة إلى درجة تتركنا مع نوع من الفولكلور الاسطوري يعذبنا كثيرا فرزه، اذا كان ذلك الفرز ممكنا على الاطلاق، وصحيح اننا نصادف في بعض المرات وثائق مكتوبة، ولكننا نجد أنفسنا حائرين أمامها لا نستطيع أن نقدر بالضبط أصالتها وظروفها ومدى تعبير ما فيها عن الواقع كما جرى. ولقد كان ما أثار اهتمامي في تجربتك هو أن التاريخ عندك له آذان ، وله ايضا عيون، وهذه تجربة اتمنى لو ناقشتها معك اذا خطر لك يوما أن تعود إلى أكسفورد..".
ولا يمكن إلا أن يرد عليه الاستاذ هيكل برسالة شكر وتقدير، وهو يرى ان الشكر فيها على فضل السير جاء في ثلاثة افضال في آن معا، كما عبّر الاستاذ، فضل أنه قرأ ما كتب، وفضل أنه بادر إلى الاتصال، وفضل أنه أهداه عمله الضخم عن الحروب الصليبية. وكتب في الرد: "انك تكرمت فنسبت ما اكتبه إلى "علم التاريخ"، وهذا شرف، لا اظنني استحقه. فقد كنت وما ازال حتى الآن كاتبا وصحفيا همومه كلها في الحاضر والمستقبل، وليست في الأمس وما قبله، ومن ثم فهو قاريء للتاريخ وليس كاتبا له.
وانت تعرف اكثر مني الف مرة أن التاريخ حي في الحاضر ومؤثر في المستقبل. وفي نفس الوقت فإن الماضي نفسه مفتوح، رغم مرور الحقب والقرون، لرؤى الحاضر والمستقبل. فانتم في الغرب مثلا رجعتم إلى إعادة تفسير الماضي بل وإعادة بنائه مرات متكررة على ضوء منظورات لاحقة ومستجدة.
وواصل الاستاذ هيكل رسالته: وهكذا عاش هذا الماضي مرة أخرى في الحاضر والمستقبل. بمقدار ما أن الحاضر والمستقبل كانا يعيشان في الماضي.
أن العودة إلى التاريخ من منظور جديد تجربة جرت عندكم، ومازالت تجري، وسوف تظل جارية طالما هناك فكر إنساني واثق من حريته مهتد بعقله، وأما في العالم الثالث، ونحن فيه، فإن التعرض للتاريخ حكاية مختلفة.
وعرج الاستاذ الى ما يعانيه المؤرخ من مؤثرات ومن صراع ضد قوى السيطرة والتخلف التي تتحكم في تاريخنا الحديث. مؤكدا له : أن الصراع على "الشرق الأوسط" وفيه مازال مستمرا وقصته مفتوحة. هي بعد نوع من التاريخ السائل لم يتماسك، وبالتالي يمكن التعرض له بتحويل أو تعطيل مجراه، أو تغيير مادته وشكله ولونه.(....)
وهنا تشتد الحاجة إلى محاولة قراءة التاريخ اكثر من مما تشتد الحاجة إلى محاولة كتابته.
وانتهى إلى: هكذا فإن قصارى ما اطمح إليه مما اكتبه عن، حرب الثلاثين سنة، الحرب المستمرة الى الان، هو المشاركة مع كثيرين غيري في تنشيط ذاكرة أمة. ونحن جميعا نفعل ذلك عن إعتقاد بأن الذاكرة هي اكبر محرض على الفعل.
وختام الخطاب تركيز على أهمية الحفاظ على ذاكرة الأمة وسبل النهوض في الحاضر والمستقبل وهي المهمة والأهمية التي تولاها ككاتب وقاريء للتاريخ، للامس والحاضر وما بعد. وفي المراسلات هذه واضح قيمة الحوار والمحتوى وأهمية التراسل والتواصل الثقافي. ففيه اعتراف بقدر الشخصية وقدرة المؤلف، ومقدار الكتاب، وما بذل من جهد وما سطر من صفحات وما نشر في كتب، رغم كل التواضع والاحترام والتقدير للجهود والأعمال والأهداف.
في هذه المراسلات بين شخصيتين مرموقين، إضافة إلى النص والاتصال فيها أو الأسباب التي فعلتها أو حفزتها دروس في الأخلاق والقيم ودلالات في معنى أن يضع الباحث، العربي والاجنبي، نصب عينيه ما ينفع الناس من كنوز معرفة ومصداقية احداث واخبار وعبر تاريخ مازالت تعيش بيننا، كبشر على هذه المعمورة. ومهما اختلف أو اتفق مع الآراء أو التوجهات الا ان ما يخلص إليه في النهاية، في كل جهود واعمال، أو إلى اين يصب مجراه هو الأهم وهو الباقي في السجلات والذاكرة. ولعل ما نشر من وثائق وصفحات لم تتيسر لغير الاستاذ، مثلا، وبدونه لضاعت او أهملت على الرفوف كما حاصل مع غيرها الكثير وكما اريد لها أن تبعد أو تغيب عن ذاكرة اهلها وحقهم فيها. ليكون فعلا ليس آذان التاريخ وحدها فقط، بل وعيونه ايضا، وتلك شهادة احترام تقدر.