فرنسيس المراش واحد من أبرز النهضويين الشوام


ماهر الشريف
2021 / 2 / 27 - 03:00     


لم يحظّ فرنسيس المراش (1836-1874) ابن مدينة حلب بالشهرة التي حظي بها البساتنة أو فارس الشدياق، وذلك على الرغم من عمق أفكاره الفلسفية ونزعته الديمقراطية؛ ومع أن حياته كانت قصيرة، إلا أنه خلف لنا مؤلفين يحتلان مكانة متميزة في تراث رواد النهضة العرب، هما: "غابة الحق"، و"مشهد الأحوال".



تميّز فرنسيس المراش بتواضعه واعتقاده بنسبية الحقيقة، إذ هو اعترف في مقدمة كتابه: "مرآة الحسناء"، بالعجز والتقصير، راجياً كل من يطالع كتابه "أن يسبل غطاء المغفرة والمعذرة عما يراه من الهفوات والعيوب"، على اعتبار "أن العصمة لله وحده وهو غفار الذنوب"، ثم عاد وأقرّ، في خاتمة الكتاب نفسه، بهذا العجز والتقصير في الأبيات التالية:

علم الله وهو ربُّ البرية أن نفسي من الصواب برية

هفواتي كثيرةٌ ليس تحصى ومن الفضل ليس لي من مزية

لم أقصّر عن مطلب العلم لكن ليس لي قوةٌ ولا قابلية

كل شيءٍ حصلتهُ فيه نقصٌ فأنا ناقص بكل قضية

وارتكبت الأغلاط في كل أمرٍ يا لضعف الطبيعة البشرية

ليس لي حاسدٌ فيهتك صيتي من ترى يحسدُ النفوس الغبية

ها أقرت بالعجز نفسي ولكن قد أبى الله أن تكون دنية

في مفهوم التمدن

لم يكن تعريف فرنسيس المراش للتمدن بعيداً عن تعريف كلٍ من بطرس البستاني وفارس الشدياق، إذ هو عرّفه بأنه يعني في اللغة "التخلق بأخلاق أهل المدن والانتقال من حالة الخشونة والبربرية والجهل إلى حالة الظرف والأنس والمعرفة". بينما هو يشير في اصطلاح علماء الاجتماع إلى"ناموس يرشد الإنسان إلى تجويد أحواله الطبيعية والأدبية". وطغت، في بعض كتاباته، نظرة مثالية على رؤيته لدولة التمدن، إذ هو وصفها بأنها الدولة التي يشع فيها النور، وتسود فيها الحرية، ويحكم فيها العقل، ويغلب فيها العلم، وتقوم على الشريعة العادلة، وينتشر فيها الصلاح والتهذيب، ويعم فيها السلام والمحبة والرفاهية.

التمييز بين التمدن الباطن والتمدن الظاهر

أقام المراش تمييزاً واضحاً بين التمدن الظاهر والتمدن الباطن، وأخذ على مواطنيه كونهم اقتبسوا من الإفرنج العادات الغريبة عنهم في اللبس والجلوس والتحدث، لكنهم لم يقتبسوا منهم "المعقولات والمقولات والصناعة ودقة التجارة والزراعة والسفر وحسن البيوت والأسواق والشوارع"، بحيث لم يقتبسوا من الجوهر الإفرنجي "إلا الأعراض" التي بها أضاعوا جوهر جنسيتهم. ورأى أن التمدن الحقيقي لا يكون إلا بتوفير وسائل العلم في البيوت بدلاً من شحنها بالأثاث الفاخر، واحترام المرأة وتقديرها بدلاً من تحقيرها وإذلالها، وتزيين رؤوس النساء بالعقل والأدب بدلاً من تزيينها بالأحجار الكريمة، وإنفاق الأموال على أعمال الخير بدلاً من إنفاقها على الولائم الحافلة، وإشاعة الحقائق بين الناس بدلاً من نشر الخرافات.

ما هي أسباب تأخر المجتمعات الشرقية؟

أرجع المراش "التوحش"، وهو عكس "التمدن"، إلى سيادة "العبودية"، أو الاستبداد، الذي يستتبع الظلم، وإلى انتشار الجهل، الذي رأى فيه "قاعدة التوحش ودعامته وعلامته ورايته "، وإلى عدم تقدير العلم والعلماء، فكتب: "فيا لسوء حظنا نحن بني المشرق، ويا لشدة نحسنا لأنه إذا وجدت الصدف عندنا من له هوس ما في العلم عاش مقطوع الخرج، وربما يحتقر ويهان فلا ينال من علامات الشرف سوى الجهل به والسخرية... ولذلك فلا يجرؤ أحد منا أن يوجه خطوة واحدة نحو طلب العلم لئلا يكسب العار والخزي، بل جميعنا نتراكض وراء جمع المال، والجهل المتولد عنه". كما أرجعه إلى فساد الأخلاق، الذي يفضي إلى شيوع الكسل، والتكبّر، والحسد، والطمع، والبغض، والنفاق والخيانة، وإلى انحطاط المدينة وسوء تنظيمها المعماري وانعدام النظافة فيها.

المقارنة بين حال الشرق في الماضي وحاله في الحاضر

ورفض المراش الفكرة القائلة بأن الدهر قد كتب على الشرق أن يعيش في حالة تأخر، فاعتبر أن الدهر"كلمة لا يوجد لها معنى لعدم دلالتها على شيء وجودي لأن الدهر ليس شيئاً وهكذا ظلمه، وكل الحوادث التي ينسبها الناس إليه إنما هم خليقون باستحداثها، فلا دهر إلا أعمالهم وشرائع هيئتهم". ولتزكية فكرة أن تجاوز التأخر أمر ممكن، رجع المراش إلى الماضي، فقدّر بأن الشرق كان "مهد الإنسان ومبدأ الأوطان [و] الأصل للمعارف والتمدن ومنبع العلوم والتفنن ومنشأ القوات والدول ومحل الأوّليات الأول، إذ فيه تهذبت الأبدان وذاعت الأديان وظهرت الفلاسفة العظام والحكماء الكرام". غير أن وقوع النزاع بين الملل ونشوب الحروب بين الدول وارتفاع لهيب الأهوال ما لبث أن أودى – كما تابع – بمدن الشرق العظيمة ومحا آثاره القديمة وأسقط سرادقاته الشامخة، حتى "نعب يوم الدمار ونعق غراب الاندثار".

ولكن بما أن مجرى التمدن لا يتوقف، بحيث يبرز له مركز جديد يدور حوله بدل المركز الذي تداعى، فقد كان من الطبيعي – كما قدّر المراش – أن يتسلّم الغرب الصاعد راية التمدن من الشرق الهابط ، إذ "ما كان العقل ليرضى بانحطاط مراتب أعماله وسقوط دولة أفعاله، ولذلك فريثما كان الشرق يبلج في الظلماء كان الغرب يعانق الأضواء، وما لبث أن تبوّأ الغرب صهوة الضحى وهار نهار الشرق وانمحى. وما زالت مناطق النور تمتد في الغرب إلى أن غمرت القارة وأضحت هناك قارة". وعبّر عن ذلك شعراً بقوله:

لحى الله عصراً صار في الشرق مظلماً وفي الغرب قد أضحى بهياً منورَّاً

فضل الشرق على الغرب وشرعنة الاقتباس

بيد أن المراش أرجع التمدن الذي بلغه الغرب في الحاضر إلى تفاعله في الماضي مع الشرق، آخذاً على معظم الغربيين إنكارهم هذه الحقيقة التاريخية وعدم اعترافهم بفضل الشرقيين عليهم وعلى مدنيتهم، فكتب في إحدى قصائده بعنوان: "العرب والإفرنج":

حتى مَ تزرون يا إفرنجُ بالعرب مهلاً فلا خيرَ بابنٍ قد زرى بأبِ

ما فضل قوم من الأوباش لا نسبٌ لهم على قوم إسماعيلَ ذي النسب

إن كان بالعلم جئتم تفخرون فمن معالم العرب كلُّ العلم والأدب

أخذتم الطبَّ عنهم والحساب وما يتلوهُ والشعر حتى كلَّ منتخبِ

وعنهم صنعة البنيان قد أخذت مع الزراعةِ والتحصيل والجلبِ

تذكّروا ما غنتم يوم ندوتكم في أرض أندلسٍ من تلكمُ الكتب

فهل فضلتم علينا باختطافكمُ أرزاقنا آهِ واحزني وواعجبي

وأيُّ فضل للصٍ دبَّ في غسقٍ على غنى فاكتسى طوقاً من الذهب

فسوف يقبض جاسوس الزمان على ذا اللص فالدهرُ حكم غير منغلب

لا تفخروا يا بني الإفرنج في شطط على بني العرب أهل الأصل والحسب

صعدتم الأوج لكن فوق سلمهم فكرّموا سلماً تمتد للشهب

أسباب التمدن ومظاهره

لقد اعتقد المراش بأن تاريخ المدنيات هو تاريخ دورانها، كما تدور الأرض، "فإذا هي شرقية بالأمس، غربية اليوم تاريخياً"، وأن انتشار التمدن هو أمر حتمي لكون دعائمه مرتكزة في قلب الإنسان بصورة طبيعية، ورأى في الاقتباس الحضاري سنة من سنن الحياة، وخصوصاً في العصر الحديث. وعلى قاعدة التمييز بين النافع والضار، وبين ظاهر التمدن وجوهره، راح يبحث عن الدعائم التي تضمن للإنسان تقدمه، فرأى أن الدعامة الأولى هي التعلق بالحرية، مؤكداً أن الطبيعة البشرية التي خلقها الله "في كمال الحرية الأدبية"، ومنحها "هذه النعمة الجليلة"، لا يمكنها أبداً أن تحتمل العبودية، وأنه إذا كان الحيوان "لا يحتمل مضض الرق ولا يصبر على ضنك الاستعباد"، فكم يكون الإنسان "خليقاً بعدم احتمال هذه النازلة عندما يقع في شراكها"؛ أما الدعامة الثانية فهي تثقيف العقل، التي لا تتحقق إلا بالتروّض في العلوم والفنون ودراسة المعارف الطبيعية والأدبية؛ فالعلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل والمروّض الأكبر لجماح الطبائع والسبب الأهم لتشييد التمدن والعمار"؛ وبفضله "ارتقى الإنسان ونجح وتجلّل وأفلح وأصبح أعظم الكائنات وأجود الموجودات، والخيرات اتسعت والاضرارات امتنعت والنفوس علت والحياة حلت والممالك تشيدت والمدائن تسيدت والصنائع عمت والفلاحة تمت والمتاجر انتشرت والأخطار اندثرت والطبيعة خضعت ودنت".

وعبّر المراش عن تقديره للعلم شعراً، فكتب:

كلُّ من يسئم العلوم ويهوى كثرة المال ذا من الحمقاء

ذكرُ أهل العلوم خُلّد في الدنيا وقد باد ذكر أهل الثراء

من يكن عارياً عن العقل لم يربح فخاراً إذا اكتسى بفراءٍ

أما الدعامة الثالثة فهي تحسين العادات والأخلاق، إذ يُعتبر النظر إلى عوائد البشر وأخلاقهم "كأعظم دليل على حالة تمدنهم ومقامه"، الأمر الذي يفرض على الشعب الداخل في دائرة التمدن "أن يبذل الاعتناء كثيراً في تحسن عاداته وأخلاقه كيلا يكون تمدنه من باب الدعوى لا الحقيقة، كما يُشاهد ذلك في كثير من الأمم".

ورأى المراش في صلاح المرأة معياراً من المعايير التي تميّز الشعوب التي تتسلح بالعوائد والأخلاق الحسنة عن غيرها، معتبراً أن الجنس النسائي هو"الجزء الأهم في الإنساني" و"الينبوع الأول لتغذية الحياة ومواساتها في زمن قصور"، وأن المرأة "جوهر الإنسان وأجلّ كيان" وهي "خير الأصحاب وأطيب الأحباب"، الأمر الذي يفرض الاهتمام بتعليمها وتهذيبها. فإذا كانت المرأة صالحة "كانت فخراً لأهلها ونعمة لبعلها وأساساً لدارها ومركزاً لمدارها وتهذيباً لذويها وتأديباً لبنيها". وتمثّلت الدعامة الرابعة، في نظره ، في صحة المدينة، التي تقوم على الاعتناء بالنظافة، وتمهيد الشوارع والأزقة وترميم الأبنية، بينما تمثلت الدعامة الخامسة في المحبة بين البشر، التي لا يقدر النظام الاجتماعي من دونها أن يقوم على واجباته، والتي بفضلها يجلس التمدن على عرش الكمال، ويمزّق التوحش ثوبه، وترفع الحرية أعلامه.

وبعد إقامته في فرنسا، توسع المراش في ذكر أسباب التمدن ومظاهره، فذكر: العناية بالأرض، مما يضمن خصبها وازدهارها، وانتشار الصناعات القائمة على المعامل البخارية الحديثة، وترسّخ الألفة الوطنية والتعاضد بين الناس، واستتباب الأمن والسلام، وشيوع حب العمل والتسابق في ميادين التقدم والفلاح. وعبّر، في شعره، عن تقديره الكبير لقيمة العمل ، فكتب:

إني أرى الحجر الفحمي أفضل من حجارة الماس والياقوت ذي اللهب

فذاك قام لنفع الناس كلهم وتلك للكبر والإسراف واللعب

الدين هو منبع التمدن الباطن

رأى المراش في الدين واسطة من وسائط التمدن، معتبراً أن التمدن لا يمكنه أن يحيا من دون الدين، كما لا يمكن للبدن أن يقوم بدون الروح؛ فالدين الذي تسلّم من الله "زمام الأرواح والعقول"، هو الذي أدخل العالم "دائرة التهذيب"، وعلّم الناس كل ما يقود "إلى نوال السعادة الحقيقية"، وهو الذي منع وقوع النوع البشري "في هاوية الفساد"، لكنه دعا، في الوقت نفسه، إلى نبذ "التعصب المذهبي" ، وإلى تعزيز الرابطة الوطنية، التي تستند إلى "وحدة الجنس ومقوّماتها" وإلى "وحدة السياسة ومقوّماتها"، بوصفها الرابطة القادرة على توحيد المقيمين في سوريا وجعلهم "أمة واحدة وطايفة واحدة"، بحيث " لا يعود المسلم منا – كما كتب - ينفر عن النصراني ويحتسبه غريباً، ولا يعود النصراني يبادل المسلم أماراته هذه ويوجّه نظيرها نحو اليهودي".

سبل بلوغ التمدن

بعد أن أكد المراش على قوة الفكر الحديث، التي تغلب جميع القوى والتي من المحال قمعها إلا بمثلها، وذلك على الرغم من المعاناة التي يعانيها المفكّر، أشار إلى أهمية اللجوء إلى اللين واعتماد التدرج في إشاعة مبادئ التمدن. ففي "غابة الحق" تحذّر ملكة الحكمة ملك الحرية من استعمال الشدة مع ملك العبودية "خوفاً من أن يفتح بذلك سبيل التمرد والعصيان أمام شعوب مملكته"، وتنصحه بأن يعامل ملك العبودية وأعوانه "بالأناة والحلم واللطف"، وأن يضع لهم " شرائع وقوانين جديدة يسلكون بموجبها". أما الفيلسوف، فقد حاول إقناع قائد جيش التمدن بأن إشاعة شرائع التمدن بين "أهل الخشونة "، وتعليمهم إياها "من نعومة أظفارهم"، وقيام "رقباء يسهرون عليهم" من أهل التمدن، سيجعلهم يتخلّون عن كل خصالهم الفاسدة، و" يصيرون بعد قليل من الزمان طبق المراد ".

تحوّل التمدن إلى توحش وأسبابه

لم تكن دعوة المثقف التنويري إلى الانفتاح على التمدن الغربي والاقتباس عنه تعني تجاهل الوجه "البشع " للغرب الذي يجعل، في بعض الأحيان، تمدنه يتحوّل إلى توحش.

وقد حدد المراش، بصورة مباشرة أحياناً وغير مباشرة أحياناً أخرى، مظاهر هذا التوحش في ثلاثة رئيسية هي: الحروب، وتعمق التفاوت الاجتماعي وانتشار البؤس والتعدّي على الطبيعة. فهو ربط بين التمدن والسلام، معتبراً أن "الدم الإنساني لا يوجد أثمن منه"، وأن لا برهان على سمو عقل الإنسان وترويض أخلاقه "أعظم من محبته السلام ونفوره من الحروب والخصومات "، وتجلّت المماهاة التي أقامها بين الحرب وتوحش الغرب، بأسطع صورها، لدى اندلاع الحرب البروسية - الفرنسية في سنة 1870، إذ هو نعى في مقالة له بعنوان "التمدن المتوحش"، نشرتها مجلة "الجنان" في العام نفسه، التمدن الغربي، الذي بعد أن أوصل العالم البشري"إلى قمة جبل التمدن"، بات ينذر"هذا العالم العظيم بهبوطه في هاوية التوحش"، متسائلاً عن مستقبل مثل هذا التمدن "المصبوغ بدم البشر المسفوك في حروب الشراسة"، وعن عمرانه "المتقوض بمدافع الانقلاب والخراب المطلوقة بنار الطمع والحسد"، ومعبّراً عن خيبته من هذا التمدن، الذي به "قد اتصل الإنسان، وهو على قمة الكمال، إلى استحداث أشر الآلات الجهنمية لقتل نفسه والفتك بها"، والذي به "قد أصبح الإنسان، وهو على شأو الإنسانية، أوحش الوحوش وأفظع الحيوانات".

ورأى المراش في الفقراء "فعلة الطبيعة وشغلة الأرض الوسيعة"، الذين يثقّفهم الكد ويهذبّهم الجد وتربية الأيام ولا يخامرهم "مرض المطامع ولا مضض المسام"، وهاجم بشدة الأغنياء، الذين يعيشون بفضل شقاء غيرهم، وانتقد تعلق الناس بالمال، ووصفه بأنه "رب قدير وسلطان نصير، تندك لهيبته الجبال وتعنو لديه الملوك والأقيال، ويخشاه الزمان ويرهبه الحدثان"، وهو الذي يجعل، إن وجد، الجاهل عاقلاً، والخفيف ثقيلاً، والجبان شجاعاً، والعبد سيداً، والحقير عظيماً واللئيم كريماً، وهو الذي يجعل، إن لم يوجد، العاقل جهولاً، واللبيب مهبولاً، والعزيز ذليلاً والأصيل دخيلاً.

كما كان المراش طليعياً، وبعيد النظر، عندما انتقد التوجه نحو تسليع العالم وتحويله إلى سوق كبيرة، حيث" الغني يأكل قوت الفقير ويجني ثمرات أتعابه لكي يشبع بطناً عديمة الشبع"، وحيث "جميع خيرات الأرض وثروتها مملوكة من نزر من المغتصبين، وبقية ألوف الألوف متمرغين في أوحال الشقاء"، وحيث يرفض الأب ابنه، ويغتال الأخ أخاه، وتعترك الكتلة البشرية و"تصطدم بعضها ببعضها لكي تنثر عقدها وتلاشي جزيئاته"، وحيث يفقد الإنسان إنسانيته، وتصبح الغابات المتوجة رؤوس الجبال "أفضل من هيئة الإنسان"، وتغدو العصافير العديمة السلاح " أجلّ من كل قوات البش".

ووصف، في "مرآة الحسناء"، بالجنون التمدن القائم على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، فكتب:

تمدن الإنسان يا ويلهُ تمدناً ما هو إلا جنون

أما ترى ألوف هذا الملا أسرى لأفرادٍ بها يفتكون

قد ظلموا واستكبروا وبغوا وقد أتوا من شرهم بفنون

كما تبدّى بُعد نظر المراش لدى تطرقه إلى مسألة التعدي على الطبيعة، إذ برز، في هذا الميدان، بوصفه من أوائل منتجي الأدب الإيكولوجي باللغة العربية. فانطلاقاً من اعتقاده بفكرة ارتباط "جميع ما في الطبيعة بسلسلة الاستعباد بعضها لبعض"، عالج في"غابة الحق" ظاهرة التلوث وآثارها السلبية، فأشار، بعد أن أكد أهمية ضمان نظافة المدينة، إلى أن "المراد من ذلك ليس نوال الغاية الأدبية فقط، بل والغاية الطبيعية أيضاً، وهي إراحة الطبيعة الحيوية مما يقلق نظامها ويزعج وظائفها"، معتبراً أنه "لا يوجد خطب أشد تأثيراً على هذه الطبيعة من دخول المواد الغريبة عنها إليها، لا سيما إذا كانت فاسدة"، ومحذّراً من خطر"الانبعاثات الفاسدة للأقذار والأوخام" على حياة الإنسان، وذلك "عندما يحملها الهواء ويدفعها إلى عضو التنفس حيثما يتناولها الدم ويمر بها إلى مواقع التغذية ".

وفي الكتاب نفسه، وكذلك في "رحلة باريس"، رأى في اخضرار الأرض مظهراً من مظاهر التمدن وفي جدبها مظهراً من مظاهر التخلف؛ أما في "مشهد الأحوال"، فقدّر أن الإنسان سيكتشف، بعد أن يكون قد أخضع كل ما في الطبيعة تحت قدمه، أن غلبه كان "غلبة عليه "، وأن الدنيا قد نهضت ضده وصارت تشن عليه "غارات البؤس"، إلى أن "أنكرته النعمى فارتد يخبط في البلوى ويهيم في وادي الردى على طريق الفنا". وفي مقالته " التمدن المتوحش"، توقع المراش أن يؤدّي تعدي الإنسان على الطبيعة واستنزافه غير المحدود لمواردها إلى دفع الطبيعة إلى الانتقام منه، في حال لم يضع حداً لجشعه، فكتب: "وإذا كانت السيادة قد بلغت بالإنسان إلى أن يخضع مستعصيات الأشياء ويسود جميع قبائل الطبيعة وطوائفها، فهذه السيادة نفسها ستفضي به أخيراً إلى التعبد والذل والمسكنة إذا لم ينصب لها حاجزاً ".

وختاماً، يبدو أن تلمس المراش إمكانية تحوّل التمدن إلى توحش، ثم مرضه وفقدانه بصره، جعلا نزعة تشاؤمية إزاء المستقبل تتملكه في السنوات الأخيرة من حياته، وتظهره وكأنه يكفر بالتمدن الحديث ويحنّ إلى الماضي، وهي النزعة التي عبّر عنها في بعض الأبيات المنشورة في "مرآة الحسناء"، ومنها الأبيات الثلاثة التالية:

وحالة المرء في قدم العصور ترى أجلَّ منها بهذي الأعصر الجُدَد

أما ترى هيئة الإنسان مزّقها تمدنٌ حار منهُ الوحش ذو اللَبَد

سحقاً لها هيئةً قامت شرائعها على المطامع والتهويش واللَّدَدِ

المصادر:

- الحلو، كرم، الفكر الليبرالي عند فرنسيس المراش. بنيته وأصوله وموقعه في الفكر العربي الحديث، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006.

- مراش، فرنسيس فتح الله، غابة الحق [1865] ، تقديم ودراسة جابر عصفور، دمشق، دار المدى للثقافة والنشر، 2001.

- المراش، فرنسيس فتح الله، رحلة باريس 1867، حررها وقدم لها قاسم وهب، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004.

- المراش، فرنسيس، مشهد الأحوال [1870]؛ في حيدر حاج إسماعيل، فرنسيس المراش، سلسلة الأعمال المجهولة، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، 1989.

- مراش، فرنسيس فتح الله، مرآة الحسناء، بيروت، مطبعة المعارف، 1872.