لا نهاية للعنف، لماذا لايستطيع المجتمع البرجوازي أن يجلب السلام؟


حازم كويي
2021 / 2 / 26 - 21:01     

لا نهاية للعنف
لماذا لايستطيع المجتمع البرجوازي أن يجلب السلام؟

يرتكز المجتمع البرجوازي على قاعدة عريضة من العنف كأساس له ،متغلغلة فيه،عكس تصوراته ،فقد أراد الملاكون الذكورالتغلب على حالة العنف الطبيعية من خلال عقد أجتماعي كان يتوجب فيها أن يحل المجتمع المدني محل حالة العداءوالخوف وخطر الموت .
وكتب الفيلسوف الانكليزي هوبز،مؤكداً على ضرورة ذلك، مُضيفاً بأن السلام سيسود بمجرد أن يتم ضمان نتائج عمل الافراد من خلال حقوق ملكية الدولة،وأن أولئك الذين كانوا يمارسون العنف سيتراجعون ويجب أن ينظر اليهم على أنهم أعداء المجتمع.
وبذلك تكون البرجوازية قد جلبت الوعد الديني بالخلاص، بحياة السلام الابدي على الارض مع عَلمنتها،وتصبح الصورة الذاتية البرجوازية للمجتمع والسوق والدولة من خلال إحتواءها وحفظها
وأنشاء الحضارة والتغلب على العنف،ويقدم التأريخ نفسه على انه تقدم نحو دولة كوزموبولتية.
وقبِل الفيلسوف الالماني كانط قانونا مَخفياً لتطور البشرية من خلال الجانب السلبي التأريخي للحروب، التسلح، المذابح، التعذيب ـ كقاعدة عامة، سيقود الناس تاريخياً لمُسبباتها والتعلم من هذه التجارب السلبية لمجتمعات شاملة دولية، نحو تَشكُل عصبة الامم.
الحداثة تريد التغلب على العنف من خلال التشكيلات الاجتماعية المُشكلة من الدولة عن طريق التجارة والمعاهدات الدولية، ويتخيل البعض أن العنف هو نتاج طبيعي،رغم أنه خاص بالجنس البشري بإستخدامه كل الوسائل الاجتماعية لمهاجمة وذبح بعضهم البعض .
في حالات أستثنائية يعتبر العنف ضرورياً وليس كحالة عادية،يجب أن يتبع فيها ضوابط صارمة وقواعد واضحة وفقاً للمُنظر العسكري ألالماني (كلاوزفيتز). في الحرب يجب أن يخدم العنف السياسيين كأداة لتحقيق غاياتهم، بعد الحرب من الممكن أن نعيش بسلام مرة أخرى ويجب أن نفهم أيضاً قواعد عمل الدولة الحديث على انها مساهمة في تحقيق الاخلاقيات،ففي القضاء تم تغيير العقوبة المحرجة التي يتم تنفيذها علناً من التعذيب بفصلها التأسيسي بين المجال العام والمجال الخاص (الاسرة /الشركة).
الدولة الرأسمالية تدعي إحتكار الممارسة المشروعة للعنف،حيث تسمح لافراد الشرطة والجيش
بإستخدامه وفقاً لقواعد صارمة وفي ظل ظروف معينة فقط.
لكنه أتضح بشكل مختلف، أن هذه الشروط ليست كذلك وفيها كانت توقعات كانط مخيبة للآمال .
وخلق العنف إمكانات هائلة ليسقط المجتمع المدني من نهاية عالم الى نهاية عالم آخر،من الحروب الاهلية ،المذابح في الحروب العالمية،الابادة الجماعية والتطهير العرقي،الدكتاتوريون الذين أعلنوا العداء للديمقراطية وأصبحت الاسلحة مجالاً تجريبياً وأستراتيجيات وأساليب وممارسات تعذيب جديدة .
فالمعارك التي دارت ولازالت تدور من أجل الدفاع عن الملكية الرأسمالية تدمر الحياة البشرية والوسائل الطبيعية للوجود.
التجارة العالمية ومعاهداتها لم تجلب السلام،بل زادت طاقاتها العدوانية بتطبيق عنيف لمصالحها وسعيها للحصول على مزايا ضد تهديد منافسيها،المؤدي الى حروب دائمة وهي بالنسبة لها ضرورية كي تحتفظ داخلياً وخارجياً بأدوات العنف لتنفيذ مصالحها في :البحوث الطبية أو الاجتماعية ـ النفسية،وصناعة الاسلحة،الجمعيات التي لها علاقة بالتسليح والدعاية الثقافية في مجال التصنيع.
في كل هذه الحالات، تبقى هذه الموارد غير مُستثمرة ومُتاحة لمجالات أخرى جديدة لصالح المجتمع،حيث يتم أنتاج الاسلحة على مستوى أعلى من المعرفة، وأن أنتاجية القتل ومنذ فترة طويلة كانت كافية لتدمير الجنس البشري،إن لم يكن الحياة كليةً على هذا الكوكب.
تم دحض تصورات هوبس وكانط من خلال مجريات الاحداث،حتى هناك عندما تتوافق الدولة مع مؤسساتها بالمعنى المقصود لماكس فيبر وبالتالي تعمل وفقاً لقانون مُقَر،لم تُثبت من أنها حاجز وحامٍ ضد العنف وأصبحت منطقة غير مرئية من الممارسات العنيفة والمتنوعة المتخصصة،يجري فيها تدريب وتوسيع قوات الشرطة بمعدات تشبه الوحدات العسكرية الخاصة والتي يتم استخدامها ضد المواطنين.
وأصبح مقبولاً، الاصابات الخطيرة والصدامات والموت ولايمكن توقُع أن تكون أجهزةالقوة نموذجاً محايداً .
البرجوازية وجهازها الحاكم تُقاتل من أجل السيطرة على جهاز العنف، يجري دعمها من داخل مؤسساتها ومن أولئك الذين يسعون لاستخدام القوة في ظروف مؤاتية وبشبكات وسياقات من الممارسات العنيفة غير الرسمية وغير القانونية وبالتالي يجب فهم الفساد(الراديكالية اليمينية والعنصرية) على أنها لحظات حاضرة وجوهرية في جهاز العنف.
وعلى أساس تجربة أنطونيو غرامشي مع التعبئة الفاشية،وسَع النظرية الماركسية للدولة. فالدولة البرجوازية إذاً هي علاقة إجتماعية تتألف من مجتمع سياسي ومدني، وفقاً لغرامشي ونظراً لموارد ومبادرة المعسكر البر جوازي،يمكن أن يتطور العنف الذي يعتبر"خاصاً" في المجتمع المدني أيضاً والجهات العنيفة الفاعلة غير الرسمية شبه الحكومية أن تنشر العنف وتستخدمه معتمدة على تسامح ودعم الشرطة أو الادارة أو المحاكم.
وتظهر المجموعات العنيفة على شكل عشائر،جماعات مافيوية وجماعات عسكرية،تمارس فنون الدفاع عن النفس،والميليشيات اليمينية المتشددة والشبكات الدينية،مع إمكانية التعاون مع بعضهم البعض مرتبطين بجهاز الدولة،مُعارضِة للقوى التحررية بالتهديد والعنف.
لم يوسع غرامشي فكرته عن الفهم المادي للدولة فحسب،بل قام أيضاً بتعديل أطروحة ماركس بشكل غير مباشر حول ممارسة الهيمنة في علاقات الانتاج.
وفقاً لماركس“تعرض الناس لعملية عنف أستمرت عدة قرون قبل أن يكونوا مستعدين للخضوع لشكل الأجر والتحكم في قدراتهم على العمل."لذلك فإن سكان الريف الذين صودرت أراضيهم بالقوة،تعرضوا للجلد والتعذيب والمطاردة والتشريد لنظام ضرورة العمل المأجور من خلال قوانين إرهاب بشعة.
أفترض ماركس أنه على أساس تجربة العنف هذه،نشأت طبقة عاملة أدركت متطلبات هذا النمط من الانتاج بحكم التعلم والتعويد كقانون أعترفت به،لذلك لم يعُد الاستخدام المباشر للعنف شيئاً من الماضي.لقد طورت الطبقة البرجوازية عدداً كبيراً من الممارسات العنفية منذ منتصف القرن الثامن عشر، من خلال رؤساء العمال والأمن والمُخبرين والمُحرضين والمُحققين.بالاضافة الى ذلك هناك عنف جنسي ونقابات صفراء ومجموعات مدفوعة الأجر، تستخدم العنف لمنع محاولات تنظيم التجمعات أو الاضرابات وتهديد العمال المُقاومين أو إصابتهم وحتى القتل.
وهناك عنف لايمكن حساب عواقبه الاجتماعية مثل الفيضانات أو التصحر أو الاوبئة وهو يتعلق بالعنف الجماعي والذي لايخلو من أسباب اجتماعية،بل ويمارس بدون شخص مسؤول .لايمكن أختزال العديد من الممارسات العنفية في قاسم مشترك بسبب (إفتقارها الذاتي) .ويتغلغل العنف في الظروف الاجتماعية في كل مكان ويأتي بأشكال مختلفة جداً.
يمكن أن تشكل ممارسات العنف سياقاً شاملاً يجتذب الافراد كجناة وضحايا الى دوامات عنف يغيرون فيها ايضاً أدوار اولئك الذين يريدون الدفاع عن أنفسهم أو يريدون القضاء على العنف والتي تتصاعد فيها ديناميكياتها.
لايقتصر العنف على الاضطهاد أو المنع فحسب،بل يساعد في تشكيل العلاقات ويصبح بحد ذاته علاقة يتحرك فيها الافراد أو الجماعات طوعاً أو قسراً وباستمرار.كما أن العنف يُشعل الخيال ويُعزز الدوافع الايديولوجية والنفسية المُشفرة في الخوف والجرأة، الجبن والشجاعة.
ويمكن للناس أن يشعروا أنهم ضحايا مُضطَهدون في مواجهة العنف، بالمقابل يغرس فيهم أرادة الدفاع عن النفس والتحرر.
الروايات الدينية،الأدب،الموسيقى،الافلام أو ألعاب الكومبيوتر تعمل على تعزيز التخيلات وعادات العنف،وتجذب الافراد الى عوالمها في مخيلات الجريمة،التعذيب،المؤامرات،القتال وتنشرالارهاب والتهديد،ومن خلال الصور والقصص،يُظهر المجتمع البرجوازي على نطاق واسع وبلا إنقطاع،ان العنف ممكن تصوره في أي وقت وبأشكاله الجديدة والاكثر دقةً، والألم الذي يمكن ان يتخذه،تحثُ الافرادعلى تصورأنفسهم أقوياء وقادرين على القتال والعمل،حتى يبحثون عن الحلول ويجدون السلام والوئام والمصالحة،ألا أن هذا يبقى وهماً،فلايمكن للمجتمع البرجوازي أن يُنهي العنف،نهايتَها هو الشرط للتخلص من العنف.
لذلك يواجه المجتمع الحديث تناقضاً بوعده أحتواء العنف والسيطرة عليه بطريقة لم تعُد ذات صلة بالحياة اليومية . في الوقت نفسه تكشفت ممارسات العنف الى حدود هائلة،هذا التأكيد يتضمن مسالة المقياس التأريخي للحكم على العنف وحركته المتناقضة فأزداد القتل ووقعت العديد من المجتمعات في دوامة عنف الحرب،الارهاب أو الجرائم،ويتأثر الافراد بالعنف اليومي الأُسري,في نفس الوقت أزدادت جهود الرقابة والاحتواء الدولية، وصار عنف الشرطة والقضاء محل أحتجاجات واسعة ونقاش عام.
ومنذ عقود تطورت ثقافة التذكير فيما يتعلق بجرائم الاستعمار وجرائم الابادة الجماعية،تهدف فيها الى فك رموز الديناميكيات المتأصلة للعنف في المراكز الرأسمالية لمنعها مستقبلاً.
كما أن الصمت في وجه العنف(الجنسي) ضد المرأة أو الاعتداء الجنسي على الاطفال والشباب آخذ في الانهيار،إ زاء ذلك يجب أن تساعد التحليلات والتدابير في منعها.ويشير هذا الكشف عن السلوك العنيف الدائم والخفي الذي يُصور حياة العديد من الناس على أنهم جناة وضحايا،والخطر المفروض على العقاب البدني في المدارس والعائلات الى حدوث تغير في المجتمع البرجوازي فيما يتعلق بالحساسية تجاه العنف اليومي المُصغر وكذلك العنف السياسي .

ويمكن القول أن اليسار يقف الى جانب تقاليد كانط ويدافع عن مشروع التعايش السلمي،أي السلام الابدي
كهدف، للسيطرة على العنف في علاقات الناس والتغلب عليه.
ويبقى السؤال إن كان اليسار يفعل ذلك، وتصوراته عن السلام الأبدي.
الجدل دائم في اليسار حول ما إذا كان يمكن وجود عنف تقدمي للدفاع أو تنفيذ أهداف تحررية
ومنذ تجربة الثورة الفرنسية، هناك نقاش مشكوك فيه حول أستخدام القوة وآثاره،وخطر أن تؤدي ديناميكة أستخدام العنف على اليسار الى تغيير عميق في الظروف والممارسات وليس في الهدف الطويل الأجل المتمثل في التعايش المتصالح، بل يمكن أن يَطلق العنان لديناميكية العنف وعلى ضوء التناقض القائل بأنه من الصعب التغلب على العنف بوسائل العنف.
حالياً تبقى ممارسة سياسة صارمة ومتزايدة للحد من العنف ووجوب تطبيقها بالاعتماد على معايير عقلانية والتي ما تكون غالباً مهددة من قبل الجهات العنفية.
هل هذا الهدف من أجل السلام واقعي؟ غالباً ما يجري جدال حول هذا الأمر، بالاشارة الى ثوابت طبيعية عند البشر،والتي لاينبغي المبالغة في تقدير تأثيرها،كون العنف يحدث عادة في ظل ظروف معينة، يمكن فيها للناس تغييرها.
أولاً،يرتكب الرجال العديد من أعمال العنف،وهنا تلعب هوية الجنس دوراً رئيسياً،ترتبط فيها العنصرية أيضاً بمستوى عالٍ من العنف الذكوري.
ثانياً،الخشية من الحرمان في المستقبل بسبب المنافسة والسلوك التنافسي والنزاعات التي تولد بين الافراد أو الشركات أو الدول، يغذي جهات فاعلة أخرى،وهذا يتطلب التدخل ونزع فتيل الصراع المحتمل من خلال تهيئة الظروف التي يُتوقع فيها ان فرص الحياة مضمونة من خلال العمل الديمقراطي وتنسيق التعامل المشترك.
ثالثاً،إن وجهة النظر المركزية هي ان أحتمال الاصابة والقتل يعتمد على عنف السلاح.الاسلحة هي
علاقة أجتماعية توفر موارد ومعرفة وتوقعات وممارسات واسعة النطاق في لحظتها وتركيزها لفعل العنف.
إذا تم إيقاف أنتاج الاسلحة،فمن المؤكد أنه لن يتم القضاء على كل أشكال العنف ولانعرف ماهي أشكالها المتبقية،لكن وبشكل عام لن يكونوا قادرين على تشكيل الظروف الاجتماعية كما كانت عليها في القرون الماضية .
من الممكن تصور عالم يسوده السلام نعمل على بناءه.
أليكس ديميروفيج
فيلسوف وعالم اجتماع ألماني،محاضر في عدة جامعات أوربية

ترجمة: حازم كويي