ماركس الطبقي واوربا التحوليّة؟/2


عبدالامير الركابي
2021 / 2 / 26 - 14:46     

نظر ماركس الى المجتمعات "طبقيا"، في الوقت الذي كان يتوجب عليه فيه ان يرى الى "الطبقات" مجتمعيا بيئيا، من هنا جاءت قولته الشهيرة :"ان تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ صراع طبقي" ولو وجد بمقابل ماركس الأوربي اخر رافديني عراقي لقال "ان تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ تفاعلي تصيري ازدواجي بين اللاارضوية والاحادية الارضوية" ووقتها يكون الأخير اصوب واكثر دقة واقترابا من الحقيقة، او على الأقل من البوابة التي يمكن دخولها باتحاه الظاهرة المجتمعية، وحقيقة الياتها ومآلاتها المضمرة. ذلك لأننا نكون وقتها بازاء منطلق كلي مجتمعي، بمقابل منظور جزئي، هو الذي اعتمده ماركس استنادا الى الموضع الذي هو منه، ونوع بنيته، ووجد لكي يحاول ابراز خاصياته ابان لحظة بعينها من التاريخ.
هذا يعني ان ماركس ربما لاسباب عملية نضاليه من بين اسباب القصورية الموضوعيه، قد اخطا في الخيار بين الالة، والطبقة، فمزجهما، واعتبرهما وحده لاتنفصل، ورجح من بينهما الطبقة، ليذهب لاعتماد المجتمعية الطبقية بدل التركيز على "المجتمعية الآلية"، او الظاهرة المجتمعية بعد ظهور الالة، وهو الامر الاشمل والاساس، بدل الإصرار على دوغمائية الطبقية التي لم تكن سوى مظهر من مظاهر القصورية العقلية الاستيعابيه، الملازمة تاريخيا لعلاقة العقل بالظاهرة التي هو متصيّر ضمنها، وفي غمرة تفاعليتها، على الأخص وانه كان يعيش ويرى بدايات الانقلابيه المجتمعية مابعد اليدوية، فلم يتسن له ان يشهد حالات الافتراق الكبرى الابتدائية، بين الالة والطبقة كما حدث لاحقا في روسيا باسم الاشتراكية، وفي الصين وغيرهما، حيث البرجوازية الكلاسيكيه على النمط الأوربي، لاوجود لها، بينما تصدت قوى أخرى لعملية التغيير الالي، استنادا للرؤية الطبقية محورة لينينيا وماويا، مع نمط تنظيمي ارادوي، بارتكازالى الالة كعنصر حاسم.
والاغلب ان احداثا كهذه حتى لو عاش ماركس لحين حصولها، ماكانت لتدفع بمنظر الطبقية لتغيير أساس تصوراته، بحيث كان تسنى له ان يلحظ إمكانية واحتمالية التفارق بين "الطبقة"، و "الاله"، وصولا لانبثاق "طبقة الية"، بغض النظر عن توقيت ظهورهما الزمني، وبالذات تلازم صعود البرجوازية والالة باعتبارهما معا وممتزجين، ظاهرة مجتمعية، لاطبقية. ويتعدى الامر على الاغلب حتى الحالة الامريكيه، حيث المجتمع المصنوع "آليا" خارج رحم التاريخ، وحيث الحديث عن انتساب هذا الموضع القاري للغرب، مجرد اعتباط واستلاب لايخلو من قوة القصورية والجهل، فاميركا المهاجرين الاوربيين هي مجتمع الاصطناع الاعتباطي الأوربي، حيث المجتمعية محكومة وجودا الى الاله والفكرة والراسمال، خارج عمل البيئة والطبيعة التي هي بالأساس، وكما كان ساريا وقائما حالة مجتمع لادولة احادي، تستدعي العودة الى الأصول المجتمعية الامريكية الأولى، فالهنود الحمر الذين ابيدوا على يد الاوربيين، ومجتمعيتهم مجمعية اللادولة الاحادية، كانوا صناع مجتمعية الهجرة الأولى اليدوية البيئية التي يقال انها جاءت من مناطق خارج القارة(1)، وصولا الى الهجرة الحديثة الاوربية، وماكانت مرشحة له ككينونه مجتمعية نمطيه، لو انها لم تكن تتمتع بامتياز الاله والراسمال المهاجر، من تكرار لذات المسار الأول الهندي الأحمر.
لا احد من قبل أراد ان ينظر في الهجرة الحدبثة الى القارةالامريكيه، بالاخص من زاوية التساؤل اذا ماكان من الوارد ان يتحول المهاجرون الاوربيون الى "هنود بيض" بدل الحمر، ولماذا لم يتحولوا كما حدث لاسلافهم؟ ومادورالأداة الانقلابيه المجتمعية التي نقلوها معهم في ذلك. مسجلين خلال تاريخهم المنفصل عن التاريخ المجتمعي اليدوي البيئي، حالة تشكل آلي هي بدئية مجتمعية لنوع من المجتمعية لاسابق له، وهو ما يظل التفكير الأمريكي والاوربي المهيمن الاستلابي، مصاب ازاءه بالاختلال المفهومي، وبافتراض تاريخ طبقي مجتمعي سابق لاوجود له، تكرارالمتوالية القصورالعقلي التاريخي، وهي نقيصة تبدأ أصلا من لحظة عجز اوربا نفسها، عن ادراك كنه حالتها.
مع الالة يبدأ تاريخ مجتمعي آخر مختلف كليا عما سبقه من مجتمعية بيئية، اول المنتقلين اليه اوربا التي تنبجس داخلها الالة كعنصر انقلابي مجتمعي، يظل العقل كما هو ديدنه عاجزا وقاصرا دونه، كما حال ماركس وكل من تصدوا للمسالة الاجتماعية، وعموم الظاهرة الغربيه، ممن كانوا ينظرون لاوربا " طبقيا"، في اللحظة التي كانت هي فيها قد انقلبت لتصبح "تحوليّة"، تندرج من يومها ضمن مسارات التصيرية الأساس المجتمعية، أولا مع فقدانها لخاصيتها وفعل الانشطارية الطبقية، وتوقف هذه عن الفعل مع دخول العامل الارادوي في التاريخ، وهو مالم يسلم ماركس من التنويه به من غير وعي، في اللحظات التي كان يشير فيها الى تحول الكائن البشري لامتلاك القدرة على التدخل في التاري،خ وفي مساراته، وكانه كان يتحسس بذلك خاصية عمل الالة مجتمعيا.
انتجت المجتمعية الالية اربع ظواهر كبرى، هي من صنف المجتمعات الالية الابتدائية، الأولى موضع الانبثاق الأوربي، والثاني الاساس الذي هو حصيلة انبثاقية شبه بدئية، عرفتها القارة الجديده، الولايات المتحدة الامريكية، وثالثة روسيه، وأخرى من صنفها عرفها بلد شرقي، هو الصين، المنطلق الأول والاساس منها هو القمة الكلاسيكية الطبقية التي تأخذ بفقد الياتها الطبقية التاريخيه (2) وصولا الى الاقتراب من فقد دينامياتها الحيوية، لولا صعود القارة الجديدة، وتحولها الى مركز قيادي عالمي، بمواجهة مركز اخر من نوعه، يختلف عنه من حيث التكوين الأساس، بين كيانيه نموذجية من دون ماض بيئي سابق على الالية المجتمعية، ومهياة للانتقال الى مابعد آليه، نحو التكنولوجية التكنوترونيه، والى مابعد راسمالية كلاسيكيه، وأخرى مثقله بارث وبقايا مجتمعية بيئية محكوم عليها بالفشل والانهيار ضمن منافسه غير متكافئة، ابعادها ومناطقها المهياة للذهاب اليها، تتصادم نوعا وفعالية مع ممكنات وحدود الانقلابيه الالية الروسية، واشتراطاتها المجتمعية المستجدة، مابين مجتمعية هي الامريكيه متلائمه كليا وتكوينا مع المستجد الالي، وقابله للتحور تفاعلا وفقا له، بحكم كونها مادة بلا ارث مغاير، او محمولات من خاصيات أخرى، وبين حالة قائمه على دور وفعالية "فئة/ طبقة" مجتمعية مستجده، ولدتها اشتراطات صعود الالة والراسمالية عالميا، بما في ذلك "نظريا" تحوليا، تظل اليات فعلها واثرها مجكومة لعوامل وأسباب موضوعيه، مقابل نزعة تغيير ارادوية بالدرجة الأساس، الامر الذي يسهم في اضعاف والتقليل من قوة فعل الاليات المستجده، ويبطء الديناميه، ان لم يكلس البناء المجتمعي المخطط، قياسا الى وتائر العملية المجتمعية بحسب اشتراطاتها الجديدة، مايعني والحالة هذه حلول "حداثة آلية" لها اشتراطاتها وفعلها غير المنظور، مع اثاره العملية، او اثرها على الخيارات والمسار الارادوي نفسه.
مع الاله وصعود البرجوازيه الاوربيه الراسمالية المصنعية وانعكاساتها الكوكبيه، تنشا اشتراطات مجتمعية جديده، أولها توفر أسباب تحكم الطبقة المسيطرة الناشئة، باليات الصراع، وقدرتها التدخلية في العملية الإنتاجية، بعد ان كانت حصيلة التوافقية البيئية الانتاجيه، بينما تتولد اشتراطات وانعكاسات على مستوى المعمورة، تسهم في توليد وتبلور دور فئات مجتمعية جديده خارج البنى التقليدية، تصبح بحسب الاحتمالات والشروط مؤهله لدخول العملية المجتمعية، وقيادتها ارتكازا للالة، بعد ان كانت الاشتراطات تفرض أنواعا من الفعل المجتمعي الطبقي، والتمايزات المجتمعية والملكية السلطوية الامتيازيه، محكومة لاليات الانتاجوية البيئية، مع بقاء او استمرار الحديث عن الطبقات وكانها هي ذاتها كما كانت في الماضي، غير ان العامل الجديد الحاسم الالي، يؤدي الى قلب الديناميات الصراعية، ويمنح قوى لم تكن معروفه من قبل، تنشا بظل الحضور الغربي النموذجي الحداثي، ومع انتشار ونبثاق الوسائل ومجالات العمل والنشاط المختلفه التعليمه والتفكرية المستجدة، مع انها تظل متماهية مع واقعها الاسبق، ولا تبدي حرصا على نحت تسمية لها، تميزها، او تجعل منها قوة قد تبدو غريبه عن الواقع، هذا اذا افترضنا انها كانت، او وجدت مؤهله لاكتشاف مثل هذه التسمية اللائقة بها، وبالطور، ونوع المجتمعية التي تصير هي فاعلة ضمنها، كأن يقال عنها، او يطلق عليها توصيف "الطبقة الالية".
ـ يتبع ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يرى بعض المهتمين ان الهجرة الأولى الى أمريكا جاءت من مناطق قطبية، علما بان هنالك بعض الآراء تقول بان مهاجرين سومريين قد وصلوا الى القارة الامريكية، ربما في الالفية الثالثة قبل الميلاد، وان قبيله "الشيروكين" الهندية الحمراء الرئيسيه بين القبائل الامريكيه، هي "الشيروكين"/ الشروكية، العراقية المنسوبه تسمية لامبراطورية "سرجون الاكدي" الشيروكينيه، وكانت تجربة لمهتمين قد أجريت بالابحار من جنوب العراق بقوارب مصنوعه من البردي، قصدت أمريكا، ووصلت سواحلها، وفي روايتي " كما نحب ونشتهي" الصادرة عام 2005 عن دار "المؤسسة العربيه للدراسات"، في بيروت، شبهت طريقة الهنود الحمر باطلاق الأصوات الحماسية خلال الحروب، باطلاق العراقيين الجنوبيين للهوسات في نفس حالة الاحترابيه.
(2) من بين التساؤلات التي تظل مرافقه للظاهرة الماركسية الاوربيه، عدم تحققها في موضع نشاتها، الذي هو الجسم الاكمل والارقى "بيولوجيا" بحسب تعبير ماركس بين المجتمعات، والاحرى به قبل غيره بان ينتقل للاشتراكية، في حين تحققت صيغة"الاشتراكية" الموهومة، كما يتصورها الماركسيون في الأطراف، وفي الشرق باعتبارها حالة انقلابيه آليّه.