العالم العربي وانهيار البنى البدئية؟/3


عبدالامير الركابي
2021 / 2 / 20 - 14:24     

حيث يكون النهر والزراعه، يبادر الحداثيون بعبقرية فذه الى الحاق الموضع المقصود كما في العراق ومصر، بالراسمالية والسوق الراسمالية العالمية، وتنقلب فجاة الصفحة لتصير البلاد برجوازية وراسمالية، ولها بروليتاريا سائرة اذا أراد المريد، وتخيل، الى الاشتراكية بحول ماركس ولنين، وقوتهما الخارقة للعاده، واما الجزيرة العربية فتظل خارج عبقرية السادة مكتشفي العصر الحديث، وتمر العقود الطويلة، ولا احد منهم يعرفنا على ماحصل للكيان الذي اطلق من قبل، وفي القرن السابع، الهبه التحريرية مطلقة الاليات الرافدينه من الاسر، والمساعد الرئيسي على بعث الياتها الإمبراطورية، وماترتب على ذلك من طبعة ابراهيميه ثانيه مابعد نبوية، وصولا للقرمطية واخوان الصفا، والمعتزله والاسماعلية التي ستحقق الفتح الثاني، وتحكم مصرمع الفاطميين.
واسطع وابرز ماقد فعله الغرب وحضوره، انه عرى بطريقة مزريه عمق النقص الأساسي التكويني بما خص التعبير عن الذات والتعرف عليها، والاهم انه كشف عن استعداد ملفت للنظر للجوء الى الاخر، واستعارة نموذجه، وىلاتماهي معه،لابل واستعمالة دالة ومساعدا على طمس الحقيقه الوطنيه، بدل ان يتحول حضوره ونوع ظاهرته، وماتنطوي عليه، الى سبب محفز للنظر الى الذات، والتعرف على الهوية الكيانيه المجتمعية التاريخيه، ومنطوياتها التاسيسية، الحرية بالنظر،باعتبارها عينه قد تكون جديرة بالفحص على مستوى شامل،متصل بمنطويات الظاهرة المجتمعية واساسها تكوينا وبنية.
معلوم ان الدورة الثانيه من تاريخ منطقة الشرق المتوسطي قد انتهت الى فشل، والى نكوص امام المهمة الكبرى المتعلقة بادراك الذاتيه، وبالهوية، ومعها المقاصد المنطوية المودعة في العملية المجتمعية التاريخيه، وان اعلان "الغيبه"، أي احالة الامر الى دورة ثالثة، وإبقاء "المهدي المنتظر = الاليات التاريخيه" حاضرا وحيا، خارج مفعول الزمن، هي دالة وإعلان عن نهاية طور كان قد ختم بدون حصيلة، ماقد ابقى وقتها سطوة النبويه بخاصيتها التعبيرية ونوع تطابقها مع الاليات والقانون التاريخي، حدسيا الهاميا، لا ادراكيا علّيا، مستمرة بطبعه متردية،بعد افتقادها الحيوية الحدسية التي انتهى مفعولها وصلاحيتها مع النبوة الخاتمه.
وسواء بما خص ظاهرة محمد علي، او محمد بن عبدالوهاب، افتعل، لابل اختلق ـ بالتوازي مع الأفكار التي ظهرت وقتها متناغمة مع حضور ظاهرة الغرب الحديث ـ تاريخ وبدء سردية، تدعي تحقق النهوض التاريخي بالاستعارة، وعلى وقع ماكان حدث على الطرف الثاني من المتوسط، بافتراض حدوثة او امتداده الى الضفة الشرق متوسطية اوتوماتيكيا، فلعب موقع مصر وحجمها، وبالدرجة الأولى تكوينها البنيوي المجتمعي احادي الدولة، الموحي ايهاما، بالقرب من صيغة "الكيانيه الوطنيه" الغربيه الحديثة هذه المرة، دورا محوريا في منح حالة التماهي من قلب اليات الانهيار المستمر من القرن الثاث عشر،عمودا فقريا، يكرس ويعزز واقعا، وضمن اشتراطات تراكم عوامل الانهيار، التوهميه النهضوية، وحالة خداع الذات الحداثية، ورفعها لمستوى المشروع.
على منقلب اخر، عززت الوهابيه وحركتها خطاب العودة الى الإسلام في غير زمانه وضرورته، وابان صعود مايخرجه كليا من دائرة الفعل والحضور الحي، بعد ان كان قد أصيب أصلا وذاتيا بالانهيار منذ سقوط بغداد 1258 ، يوم تنامي من حينه منبثقا، اسلام عصر الانهيار، تاسيسا على يد "ابن تيمه"، وصولا الى "مشروع" محمد بن عبدالوهاب،الموحي بالوهمية الاخرى الاستعادية بقوة رمزية المكان والبنيه الجزيرية، قبل ان يتكفل محمد علي المصري الالباني، بمهمه القضاء عليه عسكريا في عقرداره.
كل هذامن دون ان يخطر على البال اطلاقا، أي بحث في امكانيه او احتمالية ظهور تبلورات حداثية، اونواتاة صعودية من قلب الانقطاع التاريخي، خارجة ومستقلة عن حضور الغرب ومشروعه، وقد تكون سابقة عليه، مثل عودة الاليات الوطن/ كونيه العراقية للانبعاث، وابتداء التشكل التاريخي الراهن الثالث، بالظهور والتنامي منذ القرن السادس عشر في جنوب العراق، عند ارض سومر التاريخيه الجديده، ومثل هكذا نكران ليس بالمستغرب، او مما هو غير متوقع، فالمنطقة اذا كانت قد عرفت وقتها مثل هذا الانبعاث، فانها لم تعرف معه وعيا حداثيا من جنسه، هو مما يفترض لابل يشترط ان يتجاوز نقصا تاريخيا عقليا، ظل مخيما على مدى تاريخ المنطقة، ومنعها من ان تقارب على الاطلاق، الأسباب او العلل التفاعليه الموكوله الى البنية والانماط الثلاثية وتفاعليتها.
هذا في وقت كانت المنطقة فيه ماتزال غارقه، تعاني من متبقات واثار حقبة الانقطاع التاريخي الثانيه، الملازمه لتاريخ ونوع ديناميات المنطقة، وحركة تاريخها، بينما جاء الغرب وظاهرته، والعناصر التي ساعدت على تكريسه توهميا، لتزيد في تعميق مظاهر الانحطاط، ونتائج توقف الديناميات المستمر حتى حينه، ان لم تكن عمقها بان فتحت بعدا يجعلها بالأحرى اقرب الى الوقوع تحت وطاة طور مما يمكن ان نطلق عليه اسم "الانحطاط الثاني"، مع كل مارافقه من ادعائية مزورة، ومن عيش في التوهمات، والتماهيات مع الاخر ضد الذات والحقيقة الوطنية، مع ادعاء ومحاولة تكريس صيغ توهميه عنها تدعيها.
هل يمكن ياترى تصور المسافة، بين القول ب"نهضة" العرب الحديثة، بدلالة مصر ومشروع محمد علي، اوالايحاء السلفي باعادة تكرار الثورة المحمدية خارج الزمن والتاريخ، واحتمال بروز صوت يقول بان الديناميات التاريخيه الصعودية، هي تلك الموجودة اليوم تشكلا في ارض المنتفك جنوب ارض مابين النهرين، وان هذه هي النواة والطليعة الدالة على بدء الدورة التاريخيه الشرق متوسطية الثالثة، بعد الدورتين الاولى الإسلامية الجزيرية العباسية القرمطية الانتظارية، وماقبلها السومرية البابلية الابراهيميه.
المؤكد ان صوتا مثل هذا، وهو من مستحيلات المستحيلات، ماكان ليظهر، ليس في حينه فحسب حيث لااحتمال يمكن ان يدل عليه من أي نوع كان، بل وحتى اليوم، بعد ان غدت احتمالات التآكل البنيوي البدئي التاريخي وشيكة، وطلائعها منظورة محسوسة. والسبب الأساس متات من كون المنطقة التي نتحدث عنها، هي تاريخ من دون وعي بالتاريخ، لم يسبق ان عرفت نفسها، او اكتشفت ذاتها، او اليات تاريخها، وشكل مساره من جهة، وان ماغدت بصدده وتواجهه منذ حضور الغرب الحديث، وانعكاساته، قد نجم عنه وفي مجرى التفاعل معه، نوع من الانقلاب، ضاعف أسباب تعذر الادراك، وزاد من استحالتها وقد صارت البنى البدئية غير المدركة أصلا اليوم، منهاره، تحتاج هي بذاتها الجديده المهشمه، من وسائل المقاربة والاستعداد، مايتعدى كل ماهو متاح من أسباب الفحص على المنقلبين، الغربي والشرق متوسطي المتهالك وغير الصالح للاستعمال اصلا.
مالفارق بين التماهي مع الغرب والخضوع له، وتلقف نموذجه واسقاطه على الواقع جاهزا، وبين النظر اليه ولما انجزه وحققه على مختلف الصعد، وبالذات في مجال الهوية والتعرف على الذات من زاوية كونه مثالا، وحالة شاخصه، تقليدها يعني لابل يقتضي البحث بما يناظرها من الذاتيه الخاصة، باسبابها ومعطياتها ونوع الياتها، ماكان يقتضي أساسا وبالاصل، قبول فكرة "الخصوصية" واحتماليتها، بالضد من نزعة نفيها المطلق الغربي المصدر، القائم على مبدا الغاء الاخر، وتكريس الغرب "ممكنا وحيدا"، الامر الذي منه تنبع وتتولد خيانه الذات، والتجاوز عليها، لابل واسقاط ماليس منها عليها، امعانا في طمسها.
خلافا للسردية الحداثية المزورة، سار الشرق الأوسط فعليا، من انتهاء الدورة الثانيه ـ ويؤرخ له بعام 1258 مع سقوط رمزها بغداد ـ وحلول طور الانقطاع التاريخي المسمى "انحطاطا" خارج التفسير التاريخي، ومن دون اخذ قانون الدورات والانقطاعات الخاص بالمنطقه ومساراتها بالاعتبار، وصولا الى القرن السادس عشر، حين بدات علائم الدورة الثالثة وانبعاثها تلوح من ارض سومر في جنوب ارض الرافدين، مالم يكن واردا دخوله في الاعتبار، مقابل غلبة متبقيات عالم الدورة الثانيه، خارج مركز الديناميه التاريخيه الأعلى، مع خضوع المنطقة لمفاعيل البدل عن ضائع، ومتبقيات الدورة الثانيه المنهارة وركيزتها المصرية الشاميه.
لنتصور مالا يمكن تصوره، كان يكون التبلور الابتدائي الرافديني من جنوب العراق، قد القى يوم ابتدأ في ألقرن السادس عشر، او حتى بعد ذلك التاريخ بقرن، بظلاله على منطقة الساحل ومصر، بدل الضفة الأخرى من البحر المتوسط، حيث اوربا الحديثة، وهي فرضية استحالة أخرى، تذكر فقط لمقاربة ابعاد وتشابكات الزمن الراهن، ومحطاته المتعدية للمركزية والاحادوية الاوربيه، بحسب اعتبارات"التفارقية الرباعيه"(1)، مع ملاحظة موقع عناصرها الرئيسية، وتناوباتها بين الموضعين الفعالين، الأوربي، والشرق متوسطي.
ـ يتبع ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تطرقنا في اكثر من معالجة سابقة لموضوعة "التفارقية الرباعيه" كسمه مميزه للعصر الحديث من التفاعلية الكوكبيه، عناصرها الأربعة: انبعاث الاليات الرافدينيه بدورتها الثالثه منذ القرن السادس عشرأولا ، واوربا ونهضتها الالية المصنعية الراسمالية ثانيا، ثم اختفاء متبقيات الدورة الثانيه خارج تبلورها الأساس الشرق متوسطي، كما هي باقية وسائرة الى زوال، ممثلة بالسلطنه العثمانيه، وصولا لاكتشاف القارة الجديدة الامريكيه، وما ينتج عنها من المجتمعية المفقسة خارج رحم التاريخ هناك، مع تناوبات العملية المذكورة وا يقاعها تحت وطاة الغلبة الاوربيه المفهوميه والنموذجية، وصولا للحظة حضور مفهوم التحوليه التاريخي مع "قرآن العراق"، والانقلابيه العظمى.