لماذا اندلعت الاحتجاجات في روسيا؟

مصطفى عبد الغني
2021 / 2 / 17 - 10:06     

ترجمة مصطفى عبد الغني

يواجه نظام فلاديمير بوتين أزمة في ظل الاحتجاجات الواسعة التي تحدث في روسيا والتي تكشف عن عقود من الفشل تواجهها النظم النيوليبرالية والستالينية، ولكن تلك الاحتجاجات تستحق قيادة أفضل لتمثيلها.

تعد تلك الاحتجاجات الواسعة نتيجةً لتزايد الفقر وعدم المساواة وغياب الديمقراطية. في خلال السبع السنوات الأخيرة، تراجع متوسط الدخل الحقيقي للمواطن الروسي خمس مرات. وفي العام السابق وحده تراجع متوسط الدخل بنسبة 3.4% ليصبح متوسط ما يستطيع المواطن إنفاقه أقل بـ 11% عن عام 2013، وبالطبع يتحمَّل العمال النصيب الأكبر من المعاناة.

أوضحت سلسلةٌ من التقارير أن روسيا أصبحت خلال الأعوام الثلاثين الماضية الدولة الأعلى في عدم المساواة بين طبقات الشعب. ووجدت دراسة أُجرِيَت عام 2017 أن 10% من الطبقة فاحشة الثراء في روسيا تمتلك 87% من ثروة البلاد، مقارنة بامتلاك نفس الشريحة في أمريكا 76% من الثروة.

في الوقت نفسه يعاني المواطن الروسي من ارتفاع معدلات البطالة، وتفشي فيروس كورونا في ظل رعاية صحية غير كافية، ومعدلات أجور تهبط باستمرار. وإذا حاول الاعتراض أو الاحتجاج على تلك الأوضاع، يُواجَه بقمعٍ شديد. وفي ظل تراجع شعبية بوتين، مُرِّرَت عدة قوانين العام الماضي لمواجهة أي حملاتٍ تُطلَق على الإنترنت، ولمزيدٍ من تقييد الاحتجاج ومنح قوات الأمن صلاحيات إضافية.

ظهر أليكسي نافالني في الآونة الأخيرة كشخصيةٍ مركزية لمعارضة بوتين بسبب الصراع داخل الطبقة الحاكمة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991.

لم تكن نهاية أنظمة شرق أوروبا تحولًا من شكلٍ من الاشتراكية إلى الرأسمالية، لأن ما تواجد في روسيا منذ عام 1928 كان مجرد شكل جديد من المجتمع الطبقي -رأسمالية الدولة.

أصبحت بيروقراطية الدولة، بعد إحكام سيطرتها على وسائل الإنتاج، تمثِّل الطبقة الحاكمة الجديدة على أنقاض هزيمة ثورة 1917. وبالتالي لم يكن التحول نحو رأسمالية السوق الحرة أكثر من إعادة ترتيب للنظام الموجود بالفعل، وليس ثورة اجتماعية.

وصف الاشتراكي الثوري كريس هارمان، محرِّر جريدة العامل الاشتراكي البريطانية آنذاك، عملية التحول تلك بأنها “مجرد انتقال من شكلٍ من الرأسمالية إلى شكلٍ آخر”. ولكن التحرك ناحية رأسمالية السوق في نهاية الثمانينيات فاقَمَ من معاناة المواطن العادي بشكل أكبر.

النيوليبرالية
شغل جوزيف ستيجليتز منصب نائب رئيس البنك الدولي وكبير الاقتصاديين قبل أن ينقلب لاحقًا ضد انتهاكات النيوليبرالية في روسيا. قال ستيجليتز: “أُخبِرَ الشعب أن الرأسمالية سوف تجلب للبلاد ازدهارًا لم يسبق له مثيل. في الحقيقة، لم تجلب الرأسمالية إلا فقرًا لم يسبق له مثيل، والدليل على ذلك ليس فقط انخفاض مستويات المعيشة، بل أيضًا انخفاض متوسط عمر الفرد بالإضافة إلى مؤشِّرات اجتماعية عدة تظهر التدهور الشديد في جودة الحياة”.

وأضاف: “زاد عدد الناس الذين يعيشون الفقر في روسيا إلى ما بين 40 و50%، فيما ينتمي أكثر من نصف أطفال البلاد إلى عائلاتٍ تحت خط الفقر”.

حافظ حكم بوريس يلتسن، أول رئيس روسي بعد حقبة الاتحاد السوفييتي، على إبقاء توازن بين ثلاث كتلٍ رئيسية. المجموعة الأولى تتكون من مسئولين سابقين في جهاز المخابرات السوفييتية والأجهزة الأمنية كانت لا تزال لهم أدوارٌ رئيسية في الحكومة. لم تثق تلك الكتلة في يلتسن معتبرين إياه أقرب إلى الغرب، وفي المقابل حاول يلتسن تهميشهم.

أما الكتلة الثانية، فكانت من عائلة يلتسن والمقربين إليه. كان بعض الأشخاص في تلك الكتلة مقربين من شخصيات في النظام السابق مع تفضيل عدم ربط اسمهم بشكل علني بتلك الشخصيات.

وأما الكتلة الثالثة، فكانت الأوليغارشية الروسية التي استولت على أكثر قطاعات الأعمال الروسية ربحيةً. تربَّحَت تلك الكتلة في الوقت نفسها الذي أفقر فيه التحول المفاجئ من اقتصاد رأسمالية الدولة إلى اقتصاد السوق الحرة عشرات الملايين من المواطنين العاديين. جنت تلك الكتلة أرباحًا طائلة من عمليات الخصخصة، واستفادت من الفوضى الاقتصادية التي فتحت الباب أمام النهب والرشاوى لمن هم أكثر نفوذًا.

ارتبطت كثيرٌ من هؤلاء بالنظام الشيوعي السابق، ولكنهم تطلَّعوا إلى العمل مع الشركات متعددة الجنسيات والسياسيين الغربيين. على سبيل المثال، كُشِفَ في العام 2008 عن لقاءٍ جمع أوليغ ديريباسكا، الذي كان أغنى رجل في روسيا، مع بيتر ماندلسون، أحد زعماء الجناح اليميني في حزب العمال البريطاني ومفوض الاتحاد الأوروبي، في يخت ديريباسكا الفاخر. وقيل إن ماندلسون منح ديريباسكا امتيازاتٍ تجارية تُقدَّر بـ 50 مليون جنيه إسترليني في السنة. والتقى ديريباسكا بجورج أوزبورن، مستشار حزب المحافظين البريطاني آنذاك، وأندرو فيلدمان، أكبر المتبرِّعين لحزب المحافظين.

كانت الأوليغارشية متشابكة مع النخبة الحاكمة الروسية، ولكن كانت لهم مصالح مختلفة أيضًا. ومنذ توليه الرئاسة في 1999، لم يثق بوتين في تلك الكتلة للانصياع لحكمه.

بدأ بوتين في الاصطدام بهم من أجل توطيد حكمه، وفي أحيانٍ أخرى حاول تصفيتهم، ماليًا أو جسديًا. وكان هذا سبب أن بعضهم انتقل للعيش في لندن، التي يطلقون عليها “موسكو على نهر التايمز”.

ظهر نافالني كسياسي لديه القدرة على الادعاء الزائف بأنه يعبِّر عن الشعور الشعبي المعارض لبوتين، لكنه أيضًا يعبر عن قطاعات من الأثرياء التي تخلى عنها بوتين.

مرَّ نافالني بتغيراتٍ سياسية عديدة. في البداية، ظهر بتوجهٍ نيوليبرالي تقليدي يدعو إلى ترك السوق يشق طريقه، وإلى توسيع نطاق الخصخصة وتفكيك حقوق العمال. لكن ذلك التوجه لم يلق رواجًا، لذا أعاد نافالني اكتشاف نفسه في التيار القومي الروسي، وفي عام 2006 ساعد في تنظيم “المسيرة الروسية” السنوية، التي تجذب معادي السامية، ومعادي الإسلام، والفاشيين. هتف المتظاهرون “روسيا للروسيين”، واستعرض بعض المتحدثين نظريات المؤامرة العنصرية والمعادية للمثليين. ظهر رمز الصليب المعقوف في بعض الاحتجاجات التي دعمها نافالني. وفي 2011، ظهر نافالني في مقطع فيديو وصف فيه المهاجرين المسلمين بـ”غزو الصراصير”.

ولكن محاولة بناء قاعدة جماهيرية من خلال القومية والعنصرية ليست بالأمر السهل، فذلك المجال مزدحم للغاية. حلَّ الفاشي فلاديمير جيرينوفسكي ثالثًا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وحظى بدعمٍ كبير لبرنامجه المنحط. هذا بالإضافة إلى مناصرة الدولة نفسها لكراهية الأقليات والمسلمين.

قي معركة جروزني (1999-2000)، بعد تولي بوتين الرئاسة مباشرةً، دُمِّرَت العاصمة الشيشانية عن بكرة أبيها، في تحذيرٍ مُروِّع للمسلمين الذين طالبوا بالانفصال عن الدولة الروسية. وفي الآونة الأخيرة، استخدمت سلطات الدولة الهجمات الإرهابية أو تلاعبت بها من أجل شيطنة المسلمين وتبرير السلطات المتزايدة للدولة.

وخلال موجة من الاحتجاجات ضد بوتين من 10 سنوات مضت، اكتشف نافالني رواج الأفكار اليسارية، فاتجه لاستخدام أفكار مطاطية مثل “مقاومة الفساد” للترويج لنفسه، كما تبنى قضايا مثل أجور أعلى لعمال الدولة ومعاشات أفضل للجميع.

يوصَف نافالني في بعض الأوقات بأنه دميةٌ للغرب، وبالتأكيد استغل جو بايدن الاحتجاجات الأخيرة ليشير إلى نهجٍ أكثر حدة إزاء روسيا من الذي كان ينتهجه دونالد ترامب، وسارعت وزارة الخارجية الأمريكية إلى إدانة الهجمات على أنصار نافالني.

قوى المعارضة
ولكن نافالني أكثر من مجرد واجهة للولايات المتحدة وحلف الناتو النووي. يستطيع نافالني النجاة سياسيًا في الوقت الحالي فقط من خلال الاستمرار في طرح رؤى قومية روسية. ويعد ظهور معارضة يسارية حقيقية لبوتين أمرًا معقدًا بسبب المعارضة الزائفة التي ظهرت باستمرار والتي إما تتمحور حول النيوليبرالية وإما تطالب بالعودة إلى الستالينية.

في آخر احتجاجات واسعة في 2011، تلك التي أُطلِقَ عليها “ثورة الثلج”، بعد الانتخابات البرلمانية المزورة، اختير نافالني كأحد قادة ثلاث رئيسيين، واختير أيضًا بوريس نيمتسوف، أحد مؤيدي يلتسن الكبار ونائب الرئيس في التسعينيات، قبل أن يصبح أحد منتقدي بوتين. ولكن الأخير كانت معارضته قائمةً على الحنين للعودة للأيام الأولى من السوق الحرة التي مزقت حياة الناس، وبالتالي لم يكن برنامجه جذابًا. وفي 2015، اغتيل نيمتسوف قبل يومين من مظاهرة مخطط لها احتجاجًا على آثار الأزمة المالية على روسيا وضد التدخل الروسي في الحرب الأهلية الأوكرانية.

برز سيرجي أودالتسوف هو الآخر كاسمٍ يلعب دورًا مهمًا في المعارضة الروسية، حيث يُنظَر إليه على نطاقٍ واسع أنه المعارض اليساري لبوتين، ويترأس طليعة الشباب الأحمر. ولكن يسارية أودالتسوف ما هي إلا حنين للاتحاد السوفييتي القديم. يظهر أودالتسوف مع صور ستاين ويدافع عن أهوال الثلاثينيات حين قُضِيَ على كل مكتسبات ثورة 1917.

هذه هي المعارضة البرلمانية الرسمية لبوتين، التي حصلت على 13% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية المسيطر عليها والفاسدة في 2016. ولكن تلك المعارضة تشكِّل عائقًا أمام ظهور معارضة يسارية حقيقية. إنها في الحقيقة تعزِّز موقف بوتين بدلًا من معارضته. غير أن قطاعاتٍ من الشيوعيين تبدو مستعدة الآن لدعم نافالني.

تستحق الاحتجاجات الشجاعة التي اندلعت في الشهور الأخيرة تمثيلًا سياسيًا أفضل من كل تلك القوى الرئيسية التي تدَّعي أنها معارضة. فلا النيوليبرالية المعاد تشكيلها ولا الستالينية سوف تحقق مطالب الشعب. ويكمن الأمل في أن ينخرط مزيد من العمال في المعارضة النشطة للنظام بينما يخرج المحتجون ضد بوتين ودولته، وأن يُعاد إنتاج الأفكار الاشتراكية وثورة 1917 على نطاق واسع.

* المقال مترجم عن صحيفة العامل الاشتراكي البريطانية