العالم العربي وانهيار البنى البدئية؟/1


عبدالامير الركابي
2021 / 2 / 16 - 14:31     

في موضع هو الأصل التشكلي المجتمعي تاريخا في الشرق الأوسط، مثل حضور الغرب الحديث، مع نهضته، شكلا من التدخلية البنيوية والمفهومية الاستثنائية، وصلت حد الخطر لابل وربما تكون تجاوزته الى مايتعدى فعالية، او امكانيه استمرارالبني التاريخيه، ومن ثم إمكانية استقامه عمل المجتمعية المعتاد، ماقد يدفع للنظر في الحالة المتولدة، عبر مايتجاوز القرنين المنصرمين من التفاعليه مع الحداثية الغربيه، من زاوية تفكك ظاهرة مجتمعية تاريخيه، وانفتاحها على احتمالات بدئية أخرى ثانيه، الامر الذي من غير الممكن ان يتلائم من قريب او بعيد، مع ماهو متداول وغالب من اشكال تفكرات توهمية،موروثة، ومنقولة عن الغرب الحديث، ماتزال تمثل الحزمة التفكرية التوهمية المهيمنه على المنطقة خلال القرنين المنصرمين.
وبينما يعتقد بان العالم العربي، او تحديدا الشرق متوسطي، دخل مع القرن التاسع عشر زمن " النهضة"، مع القناعة الاعتباطبة بامكانيه تكرار النموذج الغربي، او صيغة من صيغه، إختفت تماما وكليا، اية محاكمه من أي صنف كان، من شانها ان تضع للتدبر تساؤلا بديهيا مفاده "هل الغرب الحديث ممكن هنا وبناء على اية حيثيات؟"، ثم "هل ان ى الغرب كما هو متمثل راهنا هو بداية ظاهرة قابلة للتغيير والتحور بالتفاعل الكوكبي ام انه منجز نهائي مفرض قبوله والتماهي معه؟" يدخل في تعزيز مثل هذه الغفلة الخطرة، كون المنطقة أصلا لم تكن تعرف ذاتها، ولم يسبق لها، ولاجمالي منجزها الثقافي الفكري ان اهتم بمثل هذه الناحية، او واساسا، بموضوع "علم المجتمعات"، وعلاقته بالاليات التاريخيه ومساراتها، والاهم من ذلك مقاربة ماهو مودع في العملية المجتمعية من مستهدفات، واغراض كامنه، يمكن ان تكون مقصودة تصيرا مستقبليا، ومحكومة لقانون أعلى.
ولم يكن النقص الفادح المشار اليه خاصا بالمنطقة المنوه عنها، فالعالم برمته، بما فيه الغرب، ظل ينطوي على حالة قصور عقلي، تقف دون الإحاطة بالظاهرة المجتمعية ومنطوياتها، فلم يسبق للعقل من قبل ان قارب الظاهرة المجتمعية بتحويلها الى معطى قابل للبحث، الا منذ منتصف القرن التاسع عشر، يوم ذهب العقل الغربي الأوربي في غمرة نهوضه الحالي الى دق أبواب المجتمعية، محاولا من دون نجاح يذكر، اماطة اللثام عن مكنونها، والمودع بين تضاعيفها، وصولا الى اقتراح ماعرف ب "النظرية المادية التاريخيه" الماركسية التي ترهن المجتمعات وحركتها لأول مرة، لقانون محكم مفترض، ناظم ومتحكم بحركة الماضي والحاضر والمستقبل، ضمن ايقاعية ومسار، له ابتداء مفض الى نهاية، بمعنى الهدف المآل النهائي المقرر بنية وتكوينا واليات.
ويترتب على الغرب بحداثته وانقلابيته من حيث نوعها، شكل تحد صار مطروحا على العقل، من غير المنطقي تصور امكانيه مواجهته والفلاح في تعيين مايترتب عليه من اثار وتداعيات شامله، ابان وساعة انطلاقته، وخلال ماكان هو يتشكل، وهو مايشمل موقف الغرب واشكال نظرته لذاته المتجدده على المستويات والوجوه المختلفة، بما فيها العلمية التطبيقية البحته، الامر الذي كان يستوجب انتظار التفاعلات المترتبه على الحدث الانقلابي، غير العادي والشامل على مستوى المعمورة، وماينجم ويتمخض عنها، بدل الاستعجال، والمسارعه الانيه الى وضع افتراضات واشكال تطبيق ونماذج، لم تكن، ولاكان لها ان تستقر وقتها، مادام الغرب قد اطلق حالة مختلفة من التفاعليه الكوكبيه، من المفترض ان نتائجها والمتوقع منها لن يكون متوقعا، ولاممكنا تصوره مكتملا شكلا ومضامين، بدون مايترتب كمحصلة على تفاعليتها.
معنى الاستدراك السالف، ان ماقد اطلقه الغرب الناهض حديثا من مفاهيم وتصورات وأفكار، ونماذج حياتيه و "حضارية"، لم تكن بأية حال نهائية، فضلا عن انها ليست مما يقارب الحقيقة التي كانت في حينه تنتظر التشكل عبر الاختبار الكوكبي، واشكال ردود الفعل عليه، ونوع المتغيرات التي يوقظها، مع أنواع التاقلمات والتحورات المجتمعية التي يستثيرها، ناهيك عن احتمالات إعادة صياغة الذوات المجتمعية، في ضوء، وعلى أساس المستجد الأوربي وما اوجده من وسائل وأساليب، وطرائق نظر وعمل، تشمل مختلف شؤون الحياة.
في الطور الأول اليدوي من الإنتاجية المجتمعية الزراعية، وجد شكل من المجتمعية المتلائمه مع الاشتراطات البيئية الإنتاجية بحسب تغير مقتضاها، فظهر في ارض الرافدين نمطها المجتمعي الكياني الذي لم يكن هو نفسه نمط الكيانيه الزراعيه النيلية، الذي وجد وقتها في الشرق المتوسطي على مقربة جغرافيا وزمنيا، ففي وقته عرفنا نمطين متباينين بوضوح، الأول محكوم الى الإنتاجية اليدوية على حافة الفناء والمجافات الكلية للنهرين دجلة والفرات، مع جملة الاشتراطات الأخرى المعاكسه للعملية الإنتاجية، مقابل الحالة النيلية التوافقية القصوى مع البيئة والطبيعه، بما ينطوي على إشارة دالة تقول، بان وحدة وسيلة الإنتاج، لا تعمم، او توحد النموذج المجتمعي المترتب عليها، ان لم تفض ربما الى تناقض في الشكل والنمطية، بحسب نوع انعكاساتها على اشكال التنظيم المجتمعي.
هذا ولم تصبح اوربا اليدوية انتاجا في حينه، مطابقة، او من نفس نوع ونمط المجتمعية الإنتاجية الرافدينيه او النيلية، ومع انها قد تكون اقرب، ومن ذات النمط النيلي الأحادي الأدنى، الا انها امتازت بالانشطارية الطبقية، ومايترافق معها من ديناميات هي الأعلى ضمن صنفها ونوع احاديتها،بحيث ارتفعت بالنمطية المجتمعية الأحادية الى اعلى اشكال الفعالية الممكنه بالمقارنه بالفعالية الازدواجية المجتمعية الرافدينيه التحولية الأعلى دينامية بالقياس لغرضها المودع فيها، ذلك في حين ان الغرب الحديث، وماان انتقل الى الالة والمصنعية، حتى ذهب للاعتقاد الجازم، بان وسيلة الإنتاج المستجدة، وفعل الالة السحري، سوف يكون عاملا حاسما في توحيد المجتمعات البشرية، واسباغ وحدة النمطية والفعالية عليها، لابل والذهاب الى تعميم النموذجية المجتمعية الاوربية على المعمورة وتوحيدها.
وتظل المعضلة على هذا الصعيد غير قابلة للحل، مادام العقل البشري لم يفلح منذ ابتداء المجتمعات وتبلور ظاهرتها الى اليوم، في العبور من حالة التفارق القصوري العقلي إزاء الظاهرة المجتمعية، ومايميزها من رضوخ للجسدية والارضوية المجتمعية، حيث الاشكال الاكبر الذي لم يتهيا للغرب الحديث، وقصرت طاقته دون حله، او المبادرة للاهتمام به بضوء المنجز الجديد النوعي المتحقق مع النهضة الحديثة، فظل المنظور الأحادي هو الطاغي وان تجدد او اتخذ اشكالا وصيغا، غير تلك المعتاده، والتي عاش معها الكائن البشري تاريخه المنقضي حتى لحظة نهوض الغرب وانقلابه الالي.
ولو كان العقل قد ارتقى لمستوى اكتشاف قانون التحولية الناظم للاليات المجتمعية على مستوى الكوكب الأرضي، لتغير كليا نوع المقاربة التي كان سيلجأ لها العقل الغربي نفسه في نظرته لذاته وللعالم، فتوقف عن ان يستعمل منجزه الجديد، أداة ووسيلة لتكريس الأحادية والتابيديه المجتمعية المغلقة النهايات، لصالح الحقيقة التحولية، والمؤقتيه المجتمعية الناظمة لحياة المجتمعات ومصيرها بحسب منطوياتها والمضمر بين تضاعيفها، باعتبارها ظاهرة سائرة الى مابعدها بعد تادية الغرض منها، ومن وجودها باعتبارها حالة لزوم وضرورة انتقالية، خاضعة لقانون التحول وانقضاء الصلاحية.
ولايبدوان الغرب برغم قفزته غير العادية الحديثة، كان مؤهلا لانجاز المهمة الكشفية الكبرى، والذهاب الى اماطة اللثام عن المكنون المودع في الظاهرة المجتمعية، الموافق لاشتراطات تجلي الأفكار ضمن البنى المختلفة المجتمعية بحسب طبيعتها، حيث التحولية هي كينونه بنيوية في موضع بعينه، معاشة بدون نطق على مدى التاريخ، وميسرة من ثم، وبناء عليه عند لحظة بعينها للعقل في هذا الموضع من العالم، ووفق اشتراطات وظروف بعينها، ومتغيرات، من الواضع ان الانقلاب الالي الغربي وانعكاساته يقع ضمنها، ومن بين اهم محفزاتها، والدالات الأهم على المتضمن الحقيقي في الظاهرة الغربية الحديثة، بعيدا عن البدايات، ومارافقها من تصورات متعجلة، واكبت صعود الظاهرة الغربية الحديثة.
لماذا لاتكون الظاهرة الغربية ضرورة تاريخيه مجتمعية من نوع آخر، معني من الناحية الرئيسية بالتمهيد، لابل تسريع عملية الانتقال التحولي المجتمعي، بتوفيره الأسباب والمحفزات الضرورية لدخول العالم الطور الثاني الأهم من تاريخ المجتمعات، تاريخ تخلص العقل من وطاة وثقل الجسدية والارضوية، كما كانت، وظلت متحكمه كحالة قصور موضوعي، بعمل العقل ومقاربته لذاته وللجسد، وللمجتمعية، وعلاقتها بالطبيعة.
ـ يتبع ـ