ويستمر مشعل المعاناة


محمود الرشيدي
2021 / 2 / 11 - 19:18     

كانت ترفل في النعيم والخيرات قبل وفاة زوجها في حادثة سير. تعرف عليها بمحض الصدفة في أحد متاجر مواد التجميل وهي تطلب بضاعة يظهر أنها مفقودة في السوق. لاحظ حيرتها المقلقة فوق الحد، بعدما افقدها الحانوتي كل امل وأن هذا الشيء انقطع إلى الأبد.
تردد لهنيهة ثم تقدم خطوتين نحوها من الخلف وناداها :أختي، اختي !!؟
استدارت نحو اليمين لصوت غريب وهي مرتبكة، تطلعت بسرعة فائقة ملامح وجهه وقامته وهندامه بكل تفاصيلها، ورَمَتْها في ذاكرتها.
تلك خاصية من قدرات الجنس اللطيف دون الرجال. فالأنثى تخطف بنظرتها الأولى في رمشة عين كلما هو مثير أو لا إثارة فيه من قسمات وجزئيات الذكر.
حملقت في وجه لا تعرفه ثم استجابت :نعم.
-هل يمكنني أن اقدم لك خدمة؟
توردت وجنتاها وتلعثمت فبادرها:
-بإمكاني إزالة حيرتك وقلقك على أن تمنحيني يومان ويكون مطلبك فوق كفيك.
مالت نحو التاجر وسألته:
-هل تعرفه؟
-أعرفه.. وإذا عاهد وفى.
اتفقا على موعد التسليم، وإن لم تحضر هي فستجد غرضها عند صاحب الدكان . وحقيقة ما سمي اتفاقا كان قرارُه واقتراحه ليس إلّا ، واكتفت هي فقط بالنظر إلى هذا وذاك وغاب عنها التأذب والشكر. وافترقا من غير وداع.
أُحْضِر الشيء في موعده المحدد على يد شخص بدون معرفة سابقة.
مَرّ أسبوع بعد الموعد والبضاعة تنتظر ، أين الفتاة؟ أين صاحبة الشأن؟ أين الإتفاق؟
ما يؤجج العجب هو انها تهتم بذلك الإنسان كلما قفز إلى ذهنها، تكاد تتلمس مناطق من وجهه أو شعره الأكرد، بل وتحبس أنفاسها لتتأمل شكله بإعجاب . أما ما قدّمه أو اقترحه من خدمة بالنسبة إليها يُعتبر من الخدمات المجانية ، وأصحابها طفيليون حتى وإن كان العكس، وحتى المتعففون منهم ، ففقط مجال رؤيتهم بعيد، والعوض آتٍ وإن طال الأمد.
هذا شيء مما استفادته من محيطها. لذلك تناست الموعد والإتفاق الذي لم تشارك فيه إلاّ بنظراتها لتنقضه فيما بعد، وأرغمت نفسها بوعي على الإنسلاخ عن أخلاقها عند لحظة الإفتراق، فلم تودع ولم تشكر.
وشارف الأسبوع الثاني على الإنتهاء، وجاءتها صديقتها لزيارة مريضة. ومضيتا معاً، في طريقهما أحست بحرارة مفرطة تلفحها من داخلها لدرجة التعرق،عندما رمقته من بعيد وقد أفرط في سرعته يمشي عكسهما.
أدركت بحاستها انه لن يلحظهما. طأطأت رأسها واستمرت تسحب الأخرى عندما تملصت منها ووقفت ونادته بإسمه.
تجمَّد في مكانه وعرّج نحوهما ثم ألقى التحية.
قالت صديقتها تُعَرِّفُها به :إنه جواد، هل تعرفينه؟
-لا، ولكن سبق أن التقينا.
على الفور بادرها لتسهيل التواصل : هل أخدت حاجتك؟
- لا، لم تسمح لي الظروف بالعودة إلى هناك.
-على كل حال اعتبريها بحوزتك وتسلميها متى شئت.
-لا، أرجوك، اسمح لي ، لقد استغنيت عنها. قالتها وحالها مرتبك.
اندهش وبدا له ربما أنها تقع تحت ذائقة قِلّة اليد. فسارع لِيُرَوِّحَ عنها وقال :
-حاجتكِ لن تكلفكِ إلا مشقة الذهاب لأخدها.
-لا حاجة لي عند أحد. أما عن التكاليف الأخرى فاطْلُبْ وخُدْ، ولاحاجة لغيرنا عندنا.
لزم الصمت لبرهة وقرر ان يفك اللغز وسأل:
-ألم نتفق في المتجر وبحضور التاجر؟
-كنت تقرر لوحدك. هل أخدتَ موافقتي؟ حينها لم أفصح عن شيء، بل انسَحبْتُ بدون لباقة. ألم تلْحظ ذلك؟
هز لفترة رأسه من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل لمرات عديدة وكأنه يوافق على مضض. ثم توجه الى صديقتها مستعجلا الإنصراف وقد ضاق صدره وتَعَمَّد التخلي عن طيبوبته وبَتَر اللقاء.
في طريقه لوحده وهو لا يعلم أين يغوص. أحس بمادة من سلالة الخُبْت تعصره من الداخل، لاشيء صادفه أمامه ليركله، رَكِبه عُنْف ناري، أسقط غضبه على نفسه، وبدأت يداه ترتعد وهو يشكو لضميره ويلوم سلوكه. تذكَّر حلما في منامه قبل ثلاثة أيام؛ وقد سافر مسافة في يوم من أيام رمضان، وكانت مشكلته في سفره هذا هي البحث عن الحجة التي تبيح له الإفطار أو تُلْزِمُه الصيام. وسافر وقد رَجّح الإفطار وزكته له امه التي لم يَعْرفها ولم يسبق له ان رآها. والغريب في حُلمه أنه سافر لتلسعه نحلة تجعله يلعق مداق العسل من على مكان اللسعة بدون ألَم. بعدها يعود من سفره ويسكن دارا غير داره.
أحداث رمادية في النوم وفي اليقظة تحتاج إِلى مروِّض عبقري ليفكك طلاسمها بكل هدوء كما يفكك الزمان جبال المكان ثم يبنيها بعِزتها وشموخها.
أما علاقة الإنسان بالأحداث والزمن فهي من قبيل ثالوت تواطأ في صنع ثالوت آخر يوازنه، هو:الماضي والحاضر والمستقبل. سِرُّ هذا في غُموضِ مَن لِمَن.؟
من في الثالوت الثاني؟ لمن في الثالوت الأول؟ إذا كان لكل واحد اقتراح.
كان لقاء الثلاثة بمكان قريب جدا من منزل المريضة التي كانتا بصدد زيارتها، مما ترك لكل واحدة تساؤلاتها المحرقة دون غليل. لكن بعد الخروج مباشرة من عيادة المريضة، انْقَضَّت الأولى بسؤالها وقد أنساها غيضها أو تناست أنها تلقت جوابا عنه.
-من المتطفل الظريف الذي يريد أن يأكل بدون غسل يديه؟ أو على الأصح يريد أن يصلي بدون وضوء في محراب الثعالب؟
-أنت لا تعرفينه وترميه بهذا القَدْح. ماهذا التناقض؟ لم أعْهَد فيك مثيلا للظالمين كما أنت الآن.
-وأنت هل من سبب لدفاعك عنه؟ خُدي العِبرة واعتبري ، سينْفُثُك في أول منعرج.
-إنه أخي، ألا تستحيي؟
- نعم إنه أخوك في الإسلام. أليس هذا ما تريدين تلحينه؟ سأساعدك في الإيقاع.
-للمرة الأخيرة أُعيدها لك، إنه أخي في الرضاع، أمي أرضعته مرارا . فأمه وأبوه غير معروفين، ربَّتْه العجوز "مربوحة" عوضا عن ابنها الذي مات غرقا مند ثلات َوأربعين سنة، إن شئت اسألي أمك، لاشك انها تعرف العجوز المرحومة، َوإن لم تتذكرها فاسألي عنها من يتذكر، واصرفي عني شيطَنتَك التي لم أعد أتحملها، وارحمي يتيما ليس له في حياته إلا طيبوبته وبراءته بين الناس.
بهذا التوضيح الشقي انشقت عن صديقتها ولا نية عندها في استمرارية علاقتها، وتسمرت الأخرى كأنها مشلولة الذهن وسائر الأعضاء الأخرى بأكملها.
في آخر اليوم، ذلك اليوم المشتبه في انتمائه للحباة الإنسانية، حمل جواد كل عزاءاته وما يبقيه منتميا إلى دفء العيش وملح المودة من المحيط، ورحل عند من يسميهم أمه وأخته. اطمأن بينهما ونسي كل ما وقع، خصوصا وأن الأم تعلم ما جرى في غيابها. وجاءت المبادرة منه كما هو مألوف منه ومعهود فيه بأن ترافقاه إلى بيت صديقتها ليقدم اعتذاره.
حاولت أن تتأكد من عزمه وهي تستفزه.
-أليسَتْ هي المسيئة؟ ألسْتَ انت من أَدَلّ نفسه وأسقط كرامته بُؤْس الأخلاق، وها أنت تسلك مرة أخرى نفس الطريق، تحمَّل وِزر سذاجتك.
-ومع ذلك أختي فلي نصيبي من السوء، كان علَيَّ ألَّا أتدخل في حديث كان بينها وبين التاجر والحقيقة أنه هو الآخر ربما لم يكترث أنني كنت بغير قصد مني بصدد إفلات زبونة من مساومَة في قاموس الشطارة في سوق المضاربة والكسب. وسأعتذر منه هو الآخر.
والآن، هل لكم نصيب في إصلاح خاطري وترميم مشاعرها وأظنها أجدر مني وأصلب من ترهلاتي في علاقاتي مع الآخر. هيا بنا.
-وأنا بدوري أخي، رغم قلقي من سلوكها معك فإني في الأخير قد وازنت بين مواقفها عموما وردود أفعالها، فتبين لي أن صوابها أجل وأمتن من الإنتقاد. لقد هاتفتها وسلمتها مظروف حياتك بكل تفاصيلها وجزئياتها الدقيقة وهي الآن متأثرة جدا ومستعدة للإعتذار، وتنتظر مني إشارة لهذا الغرض.
عند باب المنزل وقف الخمسة :جواد، أخته، أمها، صديقتها وأمها. تبادلوا التحية، لم يشعر إلا عندما وجد نفسه أمامها، وقبل أن يتفوه أحدهما بكلمة كانت قد فاضت مقلهما حبرا رَسَم على خدودهما من العبارات ما لا تستطيع الكلمات حمله. وانطلقت جدور روابط التساكن والزواج رغم جميع ما رُمِيَ به في أصله ونسبه والصفيح الحار الذي اكتوى به من جراء اشتغاله بما فُرِض عليه من تجارة التهريب والسوق السوداء بعد موت معيلته مربوحة العجوز. كان نصيبه من التعليم خمس سنوات عندما تلقفه هذا الميدان تحت وطأة الحاجة لمورد العيش.
قضى في هذه الممارسة المشبوهة عشرين سنة، انتقل بعدها إلى جوار الراحة ونبذ العذاب بسبب حادثة سير خلفتها السرعة الجنونية والهروب من محاسبة القانون تاركا وراءه من كانت سنده ومسكنه، ورضيعة أَهَلَّتْ عليه بسعادة لم يكن يعرفها، وكان حظه منها شحيحا جدا لم يتجاوز حولا ونصف. ونصيبهم منه فتات لا طائل منه.
ويستمر مشعل المعاناة. فمرحبا بها. نموت ونحيا فداءً للمعاناة.