لنقرأ ماركس وانجلز معا 5


ثامر الصفار
2021 / 2 / 10 - 22:10     

المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844
لنتذكر ان ماركس كان قد عرّف البروليتاريا، في مساهمة في نقد فلسفة هيغل للحق، المقدمة، بأنها «طبقة ذات سلاسل راديكالية» وأنها هي القادرة على تكوين قوة مادية في مواجهة قوة النظام. لكنه، حتى تلك اللحظة، لم يكن قادرا على الإجابة على ثلاث تساؤلات مهمة: كيف نشأت البروليتاريا تاريخيا؟ ولماذا هي مقيدة بسلاسل راديكالية؟ وكيف ستبدو الثورة التي تقودها هذه الطبقة؟ لهذا سعى الى تقديم إجاباته على هذه التساؤلات في مؤلف آخر هو المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844.
بعد وصوله الى باريس برفقة عروسه في ربيع عام 1844. أمضى ماركس وقته في ثلاث أمور: التحضير لميلاد طفلهما الأول، التعرف على الحركة العمالية النابضة بالحياة في المدينة، دراسة أعمال أهم المفكرين الاقتصاديين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ريكاردو، سميث، سيسموندي، ساي وغيرهم، ليعالج الحرج الذي واجهه سابقا في عدم معرفته بالاقتصاد.
في نيسان 1844، بدأ في كتابة التعليقات على مقاطع طويلة من هؤلاء المؤلفين في دفاتر الملاحظات كأساس لما كان يأمل أن يصبح سلسلة سريعة من المقالات أو الكتب. وكان هدفه دمج نقد الفلسفة الهيغلية وتاريخ الحركة العمالية الأوروبية وفهم الاقتصاد الرأسمالي. وقد عرفت دفاتر الملاحظات هذه فيما بعد باسم المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844.
لم تُنشر المخطوطات باللغة الألمانية حتى عام 1932، وقد أُهملت بسبب صعود الفاشية والحرب العالمية الثانية، لكنها عادت الى الظهور والانتشار خلال الستينات مع صعود الحركات الجماهيرية.
فماذا تقول المخطوطات؟
علينا أولا معرفة أنها لم تصل الينا كاملة، فالعديد من صفحاتها نهشتها مخالب الزمن. إلا أن المتبقي منها حوى على بعض إدانات ماركس، الأكثر إثارة، للتأثير المدمر للرأسمالية على روح وجسد وعقل الناس. إضافة الى تأكيده على الحاجة إلى ثورة دنيوية لإعادة الوحدة بين الإبداع والتعاون والاهتمام وإمكانات الحب التي تشكل ما يسميه «نوع البشر» - أي ما هو جوهري حقا في الطبيعة البشرية، الذي مزقه الاقتصاد الرأسمالي.
يبدأ ماركس قسما بعنوان «العمل المغترب» لا بنقد الدين أو الفلسفة، بل انه ينطلق «من حقيقة اقتصادية فعلية. أن العامل يزداد فقرا كلما زادت الثروة التي ينتجها» ويوضح ان دراساته قادته إلى تشخيص مرض خاص بالرأسمالية، أطلق عليه أسم «الاغتراب».
يبدأ ماركس بعلم النفس. ويحدد أن الشعور بالغرق يعرفه كل من شعر بأن روحه قد استنزفت، ساعة بعد ساعة، أسبوعا بعد أسبوع، عاما بعد عام، من خلال وظيفة يكرهها - أو حتى وظيفة يحبها، لكن هناك من يمتص بهجتها (مدراء جافين، تمييز جنسي أو عرقي، أو تخفيضات في الميزانية أو العملة). فيكتب ماركس حول اغتراب العمل في ظل الرأسمالية:
«ان العمل برّاني بالنسبة للعامل، أي أنه لا ينتمي إلى طبيعته الجوهرية؛ لذلك، فهو في عمله لا يؤكد ذاته، بل ينكرها، ولا يشعر بالرضا، بل بالتعاسة، لا ينمي طاقته الجسدية والعقلية بحرية، بل يقتل جسده ويدمر عقله. لذلك يشعر العامل بنفسه فقط خارج العمل، وفي العمل يشعر أنه خارج نفسه. يشعر بأنه في مكانه عندما لا يعمل، وحينما يعمل فأنه ليس في مكانه. وعليه، فإن عمله ليس طوعيا، إنه عمل إجباري ... إنه لا ينتمي له، وإنما لآخر... ان العامل يشعر فقط بحرية نشاطه في وظائفه الحيوانية - الأكل والشرب والتكاثر، أو على أكثر تقدير في مسكنه وملبسه».
كم منا يعيش هذه الحالة التي يصفها ماركس؟ هل هناك أسوء من ان نجبر على العمل عند آخرين دون ان يكون لدينا أدنى حق بالسيطرة على ظروف العمل؟ ولا يتبقى لنا إلا القليل من الوقت للقيام بما يجعلنا نشعر بالحرية والسعادة. هل رأيتم فيلم شارلي شابلن الأزمنة الحديثة؟
لكن ماركس يحدد مشكلة أكبر لأن العمل ليس مجرد نشاط من أنشطة بشرية عديدة. بالأحرى، إن العمل التعاوني الجماعي هو ما يجعل البشر مختلفين عن الحيوانات الأخرى:
«ينتج الإنسان حتى حين يكون متحررا من الحاجة الجسدية، ولا ينتج حقا إلا متحررا منها ... لهذا يشكل الإنسان الأشياء ايضا وفقا لقوانين الجمال ... هذا الإنتاج هو كيانه النشط، ومن خلال الإنتاج، تظهر الطبيعة على أنها عمله وواقعه. لذلك فإن موضوع العمل هو تجسيد [تموضع] لحياة الإنسان كنوع: لأنه يكرر نفسه لا فكريا حسب – كما في الوعي – بل وأيضا في النشاط، في الفعل، وبالتالي يرى نفسه في عالم خلقه. لذا فان العمل المغترب ينزع عن الإنسان حياة نوعه عندما يفصله عن موضوع إنتاجه».
في ظل الرأسمالية، ينقطع الارتباط بين العمل الاجتماعي والأشياء التي ينتجها الناس - نحن مغرّبون ليس عن المواضيع التي ننتجها فقط، التي تسلبنا قدرتنا على «رؤية أنفسنا في العالم الذي نخلقه»، بل ايضا عن العملية الجماعية التعاونية التي ننتج بواسطتها هذه المواضيع. إننا لا نفقد وقت الفراغ فقط للقيام بالأشياء التي نحبها حقا، بل نفقد ايضا سيطرتنا على ذلك النشاط الخاص الذي يجعلنا بشرا - أي العمل. وعليه فإن خلاصة ما يود ماركس قوله، إن المشكلة ليست التموضع (عملية العمل ونتاجه) في حد ذاتها، بل في اغترابنا (فقداننا) السيطرة على عملنا وتشويه وجودنا كنوع.
لكن لماذا يحدث هذا؟ يؤكد ماركس على الضرر الروحي أو النفسي الناجم عن الاغتراب، لكنه يحدد بشكل قاطع ان السبب الأساسي يكمن في العملية الاقتصادية (الجانب الثاني من الاغتراب)، حيث يسيطر الأغنياء على الطبقة العاملة عن طريق تكديس الملكية الخاصة والسلطة السياسية. أي أنها علاقة اقتصادية موضوعية تؤدي إلى الشعور النفسي بالخسارة وليس العكس. يكتب:
«ان العمل ينتج للأغنياء أشياء رائعة - لكنه ينتج للعامل الحرمان. إنه ينتج القصور- وللعامل الأكواخ، ينتج الجمال - وللعامل التشوه. يستبدل العمل بالآلات، لكنه يلقي ببعض العمال إلى نوع همجي من العمل، ويحول البعض الآخر إلى آلات. إنه ينتج الذكاء، وللعامل الغباء والحماقة».
الآن، إذا كنتم قد توصلتم معي بعد قراءة الفقرة السابقة الى ان ماركس يوجه إدانة قوية لسلطة الرأسماليين على الطبقة العاملة، تكونوا قد توصلتم أيضا الى انه، لغاية تلك اللحظة، يرى أن الطبقة العاملة ضحية. بمعنى انه لايزال يرى فيهم «قلب» التغيير الاجتماعي ولكن ليس «رأسه». وبالتالي كيف سيتمكنون من تغيير ظروفهم؟