حتمية اللاإنجابية


عبدالله محمد ابو شحاتة
2021 / 2 / 4 - 09:46     

فكرتي بخصوص الحتمية اللاإنجابية

1

يقول العقل اللاإنجابي في وقتنا الحاضر محدثاً نفسه ( إني أولد ثم أعيش حياة قصيرة آخرها العدم ، أولد ومحكوماً عليا بالموت ، وبعيداً عن غائية الميتافيزيقا الوهمية وذاتية الوجودية المبالغ فيها ، تظل الحياة بلا قيمة حقيقية ، لا هي شر كما تصفها الميتافيزيقا التشاؤمية ولا هي خير أو سبيل لخير آخر أسمى كما تصفها ميتافيزيقا الأديان ، ولا قيمة لها في عودة نيتشة الأبدية التي كان حتماً سيفزع منها شوبينهاور ، إن الحياة ما هي إلا انعدام قيمة وحياد ممل ، وإذا كانت الحياة عبث لا طائل منه يكون إنجاب الحياة هو الأكثر عبثاً ، فعل غريزي بدائي لا طائل من ورائه ، حتى أنني سوف آخذ حجتي إلى نطاق آخر تماماً واقول أنه لو حتى افترضنا صحة الأديان و الحياة الآخرة فسيظل الانجاب فعل يحوي مقامرة ليس لها داعي ، فلعلي أنجب طفل يكون مصيره فيما بعد العذاب الأبدي )

هكذا يتحدث العقل اللاإنجابي في وقتنا الحاضر ، ولكن هذا سيختلف بشكل تام عن عقول المستقبل ، فعقول المستقبل المتحررة من إرادة البقاء لن تكون في حاجة لأن تسوق الحجج ضد الانجاب ، بل إن أمر اللاإنجابية سيكون بالنسبة لها بمثابة شيء بديهي ، وهذا ما ستوضح فكرتي كيفيه حدوثه .

2

لابد لقطار الحضارة الإنسانية من نهاية كما لكل شيء نهاية ، فكما أن قوانين الوجود تخبرنا بالصراع بين التجمع والانحلال ، وأن كل شيء في الوجود يتجه إلى الانحلال ، فبالتالي النوع الإنساني أيضاً يجب أن يكون متجهاً إلى الانحلال ، فالقوانين ذاتها التي تحكم الكون تحكمنا ، وما فرضيات الذات المنفصلة عن العالم وخلودها في عالم آخر إلا نوع من الوهم الطفولي الناتج عن غياب الشعور بالترابط السببي بين الذات والعالم الموضوعي ، وكما ان حياة الفرد البشري تخضع لذات قوانين التجمع ثم الانحلال الذي يمثله الموت ، فكذلك هي حياة النوع البشري بأكمله لابد أن تكون لها نهاية تنحل عندها ، واسباب نهايتها حتماً تحملها في داخلها منذ ولادتها على هذا الكوكب ، كما أن كل شيء أيضاً يحمل بداخله اسباب فنائه ، ولكني لم أكن ارى بوضوح تلك الاسباب الذاتية التي تقود البشرية إلى نهايتها ، ولكن رغم ذلك كنت متأكد على كل حال من وجودها ، هذا قبل أن تتضح لي أخيراً فكرة ( الحتمية اللاإنجابية )

3

ان الفكرة التي سأقدمها بالطبع لا تدين لي بالأصالة الكاملة ، بل إنها قائمة بشكل مباشر على فكرة هربرت سبنسر في أن الكائن كلما ارتقى قل نسله ، كما أنها تُدين أيضاً لفكرة التناقض الجدلي عند ماركس ، والتي تقول بأن كل شيء يحمل عوامل هلاكه في داخله .
ولكن ما فعلته اني نسقت تلك الأفكار في بناء واحد لأستخلص منه فكرة جديدة واحدة عن الغاية النهائية التي تسير إليها الحضارة الإنسانية ، أو دعنا نقول النقطة القصوى للحضارة ، وتلك هي طبيعة كل فكرة جديدة ، فلا توجد أفكار تخرج للوجود من لا شيء ، بل لابد أن تكون مستوحاة من أفكار سابقة عليها و بالطبع ليست فكرتي تلك بمعزل عن هذه القاعدة ،
4

إن فكرتي تقوم بشكل أساسي حول أن نهاية الحضارة الإنسانية بالاإجابية أمر حتمي الحدوث ، ولا يفرق هنا أن تكون مؤيداً للاإنجابية أم لا ، فسواء أكنت مؤيد لها رافض فإن تحققها أمر حتمي ، فلا يُغير تأييدك أو رفضك لها أي شيء ، فلا يهم إن كنت مؤيداً ام رافضاً لوجود الجاذبية لأنها في جميع الأحوال ستؤثر عليك وستكون خاضعاً لها ، والواقع أني أنا نفسي لم أكن أقف من اللاإنجابية سوى موقف الحياد ، ولكن الأمر هنا يعني بإظهار الحقائق الموضوعية ولا علاقة له باللأهواء الشخصية ، فالأمر هنا معني بالأمانة العلمية في عرض ما تبادر إلى ذهني من حقائق ، وسأبين فيما هو قادم كيف يمكن أن يكون انتهاء رحلة قطار الحضارة في محطة اللاإنجابية أمر حتمي ، كما سيتضح لنا أيضاً بشكل جلي أثناء عرض تلك الفكرة كيف نشأت ميتافيزيقا الأديان والحياة بعد الموت ( خلود الذات) .

إن الصعوبة الكبرى في فكرتي تلك هي ارتباطها بفلسفات عدة تبدو متعارضة، كما أنها تتشعب بشكل كبير وتتعدد صلاتها ، ولكني كعاشق للإختصار والوضوح سأحاول عرضها بإيجاز وتبسيط قدر الإمكان .
5

إرادة البقاء ، هي القوة المحركة للحياة ، هي غاية الكائن الحي ، وهي العامل الاساسي في أي تغيير وتطور للكائنات الحية ، وكما قال داروين فالتطور غرضه الأساسي هو البقاء ( بقاء الأصلح ) ، فالحياة صورة لغريزة البقاء ، الحياة غريزة بقاء متجسده ، وما بقية الغرائز إلا صور مختلفة لغريزة البقاء ، فغريزة الطعام و حب الذات ورغبة التفوق وكافة الغرائز الدنيا وما ينبع منها من تشابكات لرغبات أكثر تعقيداً لا تهدف في جوهرها إلا لبقاء الفرد و الغريزة الجنسية وغريزة الأمومة هي غرائز نابعة من أرادة البقاء في النوع ، فإرادة البقاء تتجاوز الفرد لتشمل الأنواع والحياة بكافة أشكالها .
ولا يجب أن يحدث خلط هنا عند حديثنا عن إرادة البقاء ، فيظن شخصاً ما بشكل سطحي أني أتحدث عن إرادة عاقلة ، فمغالطة الأنسنة تلك كانت ولا زالت ملازمة للجنس البشري ، إنها مغالطة تجعله يتخيل وجود عقل كعقله خلف كل الاشياء والظواهر ، فهكذا كان يتخيل القدماء آلهة تقف وراء كافة الظواهر الطبيعية من مطر ونبات وبرق ورياح...الخ ، فعندما أتكلم هنا عن إرادة البقاء التي تحرك الحياة لا أقصد بها بالطبع نوع من الآلهة أو القوى الغيبية ، بل قوة مادية بحته ، فلا يعني قول أن كوكب الارض يتحرك حول الشمس بفعل الجاذبية أن الجاذبية عبارة عن إرادة واعية ، وهكذا فإرادة البقاء نفهمها كإرادة تجمع وحفظ في الكان الحي ، في مقابل الموت ( الانحلال ) .
6

و لكي تُحقق إرادة البقاء غايتها في استمرار النوع فإنها تحتاج في ذلك إلى التطور البيولوجي حتى تتمكن من التغلب بشكل أفضل على العقبات التي تقف في وجه استمرارية الكائن أو تُعرضه للانقراض ، ولذلك فهي تعمل دائماً في سبيل تطوير بنية الكائن الحي الجسمانية والعقلية تحقيقاً لهذا الغرض ( بقاء النوع ) ، فالإنسان مثلاً استطاع بتطوره العقلي تطويع البيئة لصالحة وتفادي المخاطر التي تهدد بقائه ، ولكن تطور القدرات العقلية الذي تستعمله إرادة الحياة في المحافظة على بقاء النوع هو ذاته يقضي عليها ، لأن العقل حينما يتطور بشكل كافي يصل إلى مرحلة تسمح له بالتحرر من إرادة البقاء والعمل ضدها ، فالإنسان على سبيل المثال بإمكانه أن يتحرر من إرادة البقاء وينهي حياته بالانتحار ، أو يتحرر منها باتخاذه موقف للإإنجابية ، على العكس من الأنواع الدنيا والتي لا يمكنها القيام بذلك ، وهكذا تحمل إرادة البقاء بذرة فنائها في داخلها ، فهي لكي تستمر تحتاج لتطوير العقل ولكن العقل حين يتطور بشكل كافي يقضي عليها ، ولذلك فالعقول الكبرى دائماً تستطيع كبح غرائزها بعكس العقول الدنيا التي تكون طوع الغريزة ، وهكذا يكون تطور العقل يقابله بالضرورة ضعف في غريزة البقاء والعكس ،.
لقد قال سبنسر " كلما زاد تطور الكائن قل نسله " ثم دلل على عمل هذا القانون داخل النوع البشري ، بأن الجُهال غالباً يكون نسلهم أكثر من ذوي الثقافة ، ولكنه جانبه الصواب في محاولة تفسيره للأمر بأن المجهود العقلي يقلل خصوبة الأفراد ، فالأمر ليس له علاقة بالخصوبة ، فالواقع أن تطور العقل واتساع مداركه عند حد معين يتسبب في إضعاف إرادة االبقاء.


7

ولذلك فإرادة البقاء في مرحلة معينة من تطور العقل تحاول عرقلته بالميتافيزيقا ، لأن تطوره أكثر يسبب فنائها ، وهذا بالطبع يفسر ظهور ميتافيزيقيات كالدين والحياة الآخرة والثواب والعقاب ، فجميع تلك الميتافيزيقيات عبارة عن محاولة من إرادة البقاء للحد من تطور العقل وإبقائه تحت السيطرة قدر الإمكان ، فتلك الميتافيزيقيات تخدم إرادة البقاء بشكل مباشر من خلال التشجيع على الإنجاب ، تحريم الانتحار ، إعطاء معنى وهمي للحياة من أجل الترغيب فيها ، لكن كل تلك المحاولات يمكنها فقط أن تبطئ من تطور العقل لا أن توقفه تماماً، فالعقل على كل حال ماضي بثبات لنفي تلك الميتافيزيقيات ، و سينفيها حتماً ، ووقتها لن تجد إرادة البقاء مفر من الاستسلام لقوة العقل المتنامية ، والتي ستصل حتماً للحد الذي يتحرر فيه العقل تماماً من إرادة البقاء.
وسيكون تحرر العقل من إرادة البقاء في النوع أولاً ، لان إرادة البقاء في النوع أضعف حتماً من إرادة البقاء في الفرد ، ولذلك فالاإنجابية هي المأل الاخير وليس الانتحار ، أي أن الانسان يستطيع اتخاذ موقف اللاإنجابية بسهولة أكثر من الانتحار ، فتكون بذلك اللإإنجابية بمثابة محطة أخيرة لقطار الحضارة .
( أعتقد هنا ان الأمر أصبح أكثر وضوحاً و لكننا لا نزال نحتاج لتوضيح أكثر و نحتاج لأن نسوق بعض الأدلة أكثر )

8

في قانون وحدة وصراع الأضداد يوضح لنا ماركس كيف أن الشيء الواحد هو عبارة عن أضداد متصارعة ، وأن سر هذا الصراع نفسه هو سر بقاء الشيء ، فداخل الكائن الحي على سبيل المثال صراع بين الموت والحياة ، فالكائن الحي لا يمكنه البقاء بدون موت خلاياه وتجددها بشكل مستمر ، فنجد هنا أن الموت مبني على الحياة والعكس ولا يمكننا بأي شكل فصلهما ، ولذلك تبقى تلك الأقوال التي تتحدث عن أمكانية تحقيق الخلود للإنسان بواسطة التطور العلمي المستقبلي والتي تُطلق في بعض الأحيان من مختصين في المجالات الطبية ، تبقى مجرد أقوال فارغة لمعارضتها لأبسط قوانين سير الكون ، فالتجمع والانحلال هما أضداد أساسية متلازمة لا يمكن فصلهما ويشكلان أساس الوجود ، فحتى الكون نفسه يسير إلى الانحلال الحتمي كما نعلم من القانون الثاني للديناميكيا الحرارية ، و التجمع والانحلال موجودان كذلك بالضرورة في الكائن الحي ، التجمع يتمثل في إرادة البقاء والانحلال يتمثل في الموت ، والتطور العقلي هو عامل ترجيح لكلاً منهما ، ففي بداية تطوره يشكل عامل تجمع يخدم بقاء الكائن ، و في نهاية تطوره يصبح عامل انحلال، و هذا الادعاء هو أساس فكرتي الذي إذا قبله القارئ اتضحت أمامه الفكرة بأكملها بشكل جلي ، والحقيقة أن كون العقل يمثل في أحد أطواره أداة انحلال مضادة لعمل غريزة البقاء هو أمر ليس بالصعب إطلاقاً إثباته ، ولقد دللت عليه في الأسطر السابقة بمثال لا يقبل شك ، وهو أن السلوكيات المضادة لإرادة البقاء كالانتحار و للإنجابية لا يمكن أن توجد إلا في الأنواع المتطورة عقلياً بشكل كافي كالإنسان ، كما أن التطور العقلي يُفسد عمل الغريزة حتى بشكل غير مباشر ، فعلى سبيل المثال ، تجعل إرادة البقاء الجنس ممتعاً كمُحفز للتكاثر وبالتالي بقاء النوع ، ولكن التطور العقلي يُفسد أثر هذا الحافز بجعله ممارسة الجنس ممكنة بدون الانجاب . وعلى هذا المنوال يعمل العقل كقوة مضادة لإرادة البقاء .

9

لقد أدرك كارل ماركس دور تطور قوى الإنتاج في تغيير علاقات الإنتاج وتطويرها بشكل يتجه نحو الاشتراكية ثم الشيوعية في النهاية ، ولكني أعتقد الآن أنه كان يحتاج إلى تعميم نظرته أكثر ،فما غفل عنه ماركس هو أن صراع قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في ظل التطور الاقتصادي ليس إلا صورة من صور الصراع الأكبر بين العقل و إرادة البقاء. ، فتطور قوى الإنتاج يكون بفعل تطور العقل ، ومحاولة عرقلتها من الطبقات المسيطرة هو فعل إرادة البقاء متمثلة في غريزة التملك وحب الذات ، ولحتمية تطور العقل المستمرة فإن تطور قوى الإنتاج يستمر وبالتالي سقوط الأنظمة الاقتصادية القديمة يستمر ، ويتحرر الإنسان بتطوره العقلي أكثر فأكثر من صور إرادة البقاء الدنيا كغريزة التملك ، وبالتالي نتجه إلى مجتمع اكثر مساواة ، وهو اتجاه طبيعي من نزعة التجمع لصالح نزعة الانحلال ، فيمكننا القول إنه قانون ديناميكا حرارية اجتماعي ، فكما أن الطاقة في الكون لديها نزوع للتوزع بالتساوي وبالتالي الموت الحراري ، فالنوع الإنساني أيضا يخضع لنفس الشيء بفعل التطور العقلي ، حيث أن النوع الإنساني لديه نزوع المساواة وبالتالي الانحلال نتيجة غياب الدافع والتحرر من إرادة البقاء ، وبالتالي انحلال النوع وفنائه بواسطة أولى صور التحرر من إرادة البقاء وهي االلاإنجابية.

تساؤلات
قد يسألني شخصاً بارتياب إن كنت اعتقد حقاً أن نهاية النوع البشري بالاإنجابية أمر سيتحقق بشكل حتمي أم أنه مجرد افتراض محتمل الحدوث .
و ردي على هذا هو اني اعتقد بحتمية تحقق فناء النوع بالإانجابية ، إلا في حالة إنقراض البشر بفعل كارثة طبيعية قبل تطور العقل بشكل كافي للتحرر من إرادة البقاء وهو ما أستبعد حدوثه ، ويمكنني التدليل على هذه النتيجة بشكل بسيط عن طريق تسلسل الاطروحات التالي .

- الانجاب عمل إرادة البقاء .
- تطور العقل يضاد إرادة البقاء .
- استمرارية تطور العقل أمر حتمي .
-اذاً لابد أن تتحقق اللاإنجابية في مرحلة معينة من مراحل تطور العقل .
و بالرغم من أن بعض القضايا السابقة لا تزال بحاجة إلى تدعيم أكثر بالأدلة ، ولكننا إن قبلنا تسلسل الحقائق السابق يصبح استنتاج انحلال النوع البشري بالاإنجابية أمر حتمي ،
سؤال آخر قد يُطرح من البعض ، وهو لماذا إذاً احارب الميتافيزيقيات والماورائيات ، طالما أنها تساعد على حماية النوع الإنساني من الانحلال ؟
وجوابي ببساطة أن فناء النوع البشري وانحلاله أمر حتمي ، والميتافيزيقا والاديان بتأثيرها الرجعي لا تفعل أكثر من تأجيله ، ولكنها أيضاً تسمم واقعنا وتجعله أكثر جهلاً ومعاناة مما يمكن أن يكون عليه بدونها ،
إننا في هذا الأمر نشبه عجوزاً يخاف الموت بشكل دائم ، فيفسد عليه هذا الخوف حاضرة ومستقبلة ، فيخسر بهذا كل شيء ، فلا خوفه منع الموت وفوق ذلك أفسد عليه حياته ، فأحرى به أن يستمتع بكل لحظة يعيشها متجهاً دون خوف نحو نهايته ، وكذلك يجب أن تتجه البشرية بشموخ نحو نهايتها البعيدة ، مستخلصة أفضل ما في حاضرها ومستقبلها ومحاربة لكل انحطاط ميتافيزيقي .