الحضارة البابلية وتأثيرها على تدوين كتاب التوراة


نبيل عبد الأمير الربيعي
2021 / 2 / 3 - 11:38     

الحضارة البابلية وتأثيرها على تدوين كتاب التوراة
إنّ لرب إسرائيل اسم متميّز هو (ياهوا)، ذلك الاسم الذي رفضت التلفظ به اليهودية المتأخرة، يشير ذلك إلى أنه جاء من ضمن عالم تعدد الآلهة في بابل. لذا فـ(ياهوا) وجد أصلاً لتمييز ذلك الرب عن بقية الآلهة، فقد اعتبر (ياهوا) إله إسرائيل كما هو الأمر مع مردوخ إله البابليين وكيموش إله المؤابيين القريبين من يهود تلك الفترة بسبب السبي البابلي ليهود مملكة يهوذا وهدم مدينة أورشليم عام 587 ق.م. "ولم يُحتَفَ بـ(ياهوا) كإله أعزب، إذ كانت له أنيسة، عبارة عن آلهة تشاركه حياته، لكن عدد من الكتابات والشواهد أظهرت بجنبه (أشيراح) Asherah وإحدى الإلهات من ضمن المجموعة التي يطلق عليها الساميّة الغربيّة... اثنتان من تلك الوثائق والنقوش تعود إلى القرن السابع والثامن قبل الميلاد إذ نجد العبارات التالية (أبارككم باسم ياهوا الشاهد على ما أقول ورفيقتها أشيراح)، وكذلك هذه العبارة (أبارككم باسم ياهوا ربّ السامرة وباسم رفيقته أشيراح)".
الفكرة التي قادت إلى تمجيد (ياهوا) لوحده ودون تمثيل والتي وجدناها في سفر الخروج ومن ضمن الوصايا العشرة كما في الاصحاح (20) صفحة 2/6. لذلك التوحيد لعبادة إله واحد لم يتم إلا بعد السبي البابلي أي حوالي ستة قرون قبل الميلاد، فتمّ الاعتقاد من قبل كبار المتعلمين اليهود في بابل أنّ هدم أورشليم في السبي البابلي لم يكن دليل ضعف (ياهوا)، بل بالعكس فقد قام ابيهم باستخدام البابليين من أجل معاقبة شعبه الذي لم يطع (ياهوا) ولم يتعبدّ له.
لقد ساهم السبي البابلي بالتعرف من قبل متعلمي اليهود على الدين والاساطير العراقية القديمة، كما لعبت اللغات السامية على اندماجهم وتعرفهم على الثقافة البابلية، ولعبت بابل دوراً جوهرياً في إخراج ذلك الكتاب (التوراة) من شكله البسيط، ومنحه التعقيد الذي شهدته تلك الحضارة. "لذلك انتبه كبار المختصين في دراسات العهد القديم إلى ذلك التأثير العظيم الذي وصل إلى مرحلة نقل فَجَّه، كما نجد ذلك في قضية الخلق والطوفان التي اكتسبته التوراة من الحضارة البابلية جرياً على الاسلوب الذي كتبت فيه قوانين حمورابي. بل نجد أثر ذلك حتى في الشعائر الدينية، والتقاليد والعادات.
ولو نظرنا إلى النقوش والآثار البابلية فسنجد أن نجمة داود السداسية الأضلاع هي نجمة بابلية. وينبغي القول أنّ مفهوم التوحيد تطور فعلاً في العهد الأخميني ومن الزرادشتية عبر إيجادها لفكرة الجنة والنار، إذ قدمت لليهودية ولكل التوحيد فكرة الأمل في الحياة أفضل بعد الموت، وفكرة التوحيد التي تطورت في العهد الفارسي في بابل إلى الشعب المختار. ففي الفترة الفارسية في بابل، لا سيما في الحقبة الأخمينية أصبحت تلك الفكرة القريبة والمتمثلة بوجود إله واحد لا تبصره الأبصار، إله الكون، بيد أن له شعباً يفضله على بقية الشعوب! الفكرة المتسيدة في بحثها عن هوية.
لذلك تمكن فقهاء الدين اليهودي وهم بابليون بسبب النشأة والتربية من صياغة مفهوم الانتخاب والتعيين، قبل ذلك كان الاختيار الألي ينصب على شخص الملك، هكذا فعلت الأيديولوجيات القديمة من سومرية وبابلية إلى كنعانية وفينيقية وحثية. فسفر التثنية رفض أن يشمل ذلك الرب البشرية بعطفه ورحمته، إنه جاء من أجل شعبه اليهودي.
لكن الفكرة الغبية مفادها أن (ياهوا) سلط عليهم البابليين بسبب ابتعادهم عن عبادته! وجدت لها مكاناً في أسفار العهد القديم منها مفهوم الله الواحد والشعب المختار. فقد أوجد لليهود وكل المبررات في أن يشعروا بأنهم شعب الله المختار بسبب عقدة النقص والغيرة والحسد من حضارة بابل ومن التعقيد المدني وفي شتى المجالات.
يُقرأ العهد القديم ككتاب توحيدي، في حين يمكننا أن نرى في سفر أيوب صورة أخرى للرب، حيث يظهر الله عبر التسابيح والصلوات في هذا السفر وهو محاط بكائنات مقدسة. لقد تم وعبر العهد القديم أولاً نقل كنوز الإرث العظيم للأديان الرافدينية وإدخالها في عالم التوحيد، عملية الزواج والمصاهرة تلك لم تجد من يكفرّها، فلولاها لما استطاع التوحيد بكل اشكاله أن يستقيم، ويكفي أن تعود العبارة الوهيم Elohim (إسلامياً تلفظ اللهم) والتي تعني رب وأرباب أيضاً.
كما أن من الدلائل على أن التوراة اقتبست من الحضارة البابلية ما نجده في التوراة من الوصايا العشرة التي أشار إليها في سفر الخروج، ما هي إلا إعادة صياغة ولصق وحذف هنا وهناك لشريعة حمورابي، والإرث الأخلاقي لقدماء العراقيين. كذلك ما هو شائع فإن تسميّة الله بالأب لم تكن ابتكاراً عبرياً، بل نجد أثراً لذلك عند الأوغاريتيين في سوريا وهم أقدم من اليهود بكثير ومن الأقوام المتحضرة. وبعد السبي البابلي لمملكة يهوذا وتهديم المعبد اليهودي عام 587 ق.م بدأ استخدام عبارة الرب كأب لكل الشعب، والذي أصبح ابناً لذلك الرب وأب للبشرية.
لذلك نجد أن اليهود قد حافظوا على هويتهم الجماعية بعد السبي البابلي، ويعود ذلك إلى مجموعة عوامل منها وجود الأساطير، واللغة المشتركة، والذكريات المتخيلة، وتوفر الفرص للتعلم والاستفادة من الثقافة البابلية على نحوٍ خاص، والأخذ بالحرف الفينيقي في الكتابة والقبول باللغة الآرامية والاستفادة منها باعتبارها أكثر قدرة على التواصل والفهم بدرجة أن المسيح نفسه لم يتكلم إلا الآرامية. فضلاً عن أن كتاب العهد القديم لم يكتب من قبل محرر واحد، بل ساهم في صياغته عددٍ من الصعب إحصاءه، وفي عصور مختلفة لا تقل عن خمسمائة سنة، مما سمح بوجود تناقضات وتباين في مستويات السرد، وإنما سمح أيضاً بالاستفادة من ثقافة الحضارة البابلية. لكن أهمية كتاب العهد القديم اليوم جاءت من ارتباطه بالعهد الجديد، فلو لم تكن هناك مسيحية لأصبح العهد القديم غير ذي شأن، ولا يعود إليه إلا أبناء تلك الطائفة.

المصادر
1- فالح مهدي. البحث عن جذور الإله الواحد: في نقد تعدد الأيديولوجية الدينية. بغداد. دار سطور للنشر والتوزيع. ط1. 2018. ص97.
2- سفر الملوك 2: ص24/25.
3- فالح مهدي. الخضوع السني والاحباط الشيعي: نقد العقل الدائري. دار الياسمين. القاهرة. 2015. ص98.
4- فالح مهدي. البحث عن جذور الاله الواحد. مرجع سابق. ص107.
5- فالح مهدي. البحث عن جذور ال"إله. مرجع سابق. ص111.