من وحي الهجرة السرية


عذري مازغ
2021 / 2 / 2 - 22:06     

أأهدي هذا النص إلى أخي وشقيقي "أمناي غاندي"
الحكي في النص الادبي ليس تقريرا سياسيا أدبيا، بل هو خروج عن النص بإضافات متخيلة فعليا لكنها مرتبطة بالواقع
في نهر صغير نسميه "ماريغ" (مالح بالعربية) بمنطقة أغبال، كان هذا النهر برغم صغره قد جرفني يوما ما وانا طفل بشكل ما، بعد ذلك أكره الماء، ويعظم خوفي منه عندما سقطت من البغل وهو يقفز على ساقية أخرى لسقي المزارع على ضفاف نهر مربيع وفي منتصف السبعينات تعرضت إلى دفع للوقوع في عمق مسبح بمدينة أزرو ذي المياه القارصة تجرعت فيها كل ماء المسبح وكان لحضور احد اخوالي ممن يتقنون السباحة دور كبير في إنقاذي، فيما بعد ذلك تعلمت السباحة تلقائيا في مسابح العمال المنجميين بتيغزة الجميلة وكان للأمر على نفسيتي وقع جميل مسح عني فوبيا الماء لتعود في منتصف الثمانينات من جديد على إثر غرق غير متوقع حيث هذه المرة كنت اتقن السباحة، حصل ذلك بمنطقة تاغازوت باكادير (لا أميز الآن بين منطقة تاغازوت وتاغزوت في اكادير، لكن بالتحديد أقصد شاطئا خارج مدينة اكادير، يقع شمالها)، جرفني تيار بحري هائل إلى أعماق المحيط واصطدم رأسي بكل رمله من حسن حظي (لانه لو اصطدم بصخور ستكون نهايتي)، واذكر أني عندما استعدت اتزاني وانظر إلى ما فوق، كان سطح الماء بعيدا بشكل حتم أن أصبر أكثر في التنفس، في ذلك التيار مات طفلين توأمين لأسرة لازالت فاجعتها ماثلة امامي حتى الآن، ومن ثم تركت السباحة حتى اواخر التسعينات من القرن الماضي إثر تحدي لم اكن أحب ان اخوضه...، كنا بشاطيء مارتيل ننتظر هدوء البحر لنهاجر سريا إلى إسبانيا، كنا ثمانية أشخاص وبنت ولأول مرة في كل تاريخي أشعر بغربة غريبة هي الأخرى، أن تجمعك الظروف مع اناس لا تربطك بهم أية علاقة إلا علاقة الإنتماء إلى نفس المدينة، لا أخلاق (لأنه في تلك الأيام بقلة زمنها حاول البعض أن يقتحم حيث تنام الفتات أكثر من مرة) ولا حسن تفهم ولا حتى موضوع للنقاش، كانت موضوعاتنا في المنزل الذي وظفه صاحب الحريك لاحتوائنا في انتظار هدوء البحر المتوسطي هي موضوعات الهجرة السرية، أخبار عن نجاح هجرة مجموعة معينة وعن إخفاق مجموعة اخرى، مواضيع سياسية شعبوية من ذاكرة العقل الجمعي، هواجس الحرص من ان نكتشف من طرف البوليس على اننا مجموعة مؤهلة للهجرة السرية وثقافة الطبخ والطماطم على اعتبار أن جنيها في إسبانيا هو العمل المفترض لنا وبعض المقارنات المالية بين البسيطة الإسبانية والدرهم المغربي أو بين الأجور هنا بالمغرب وهناك بإسبانيا وكانت على العموم مقارنات خرافية تمت بعقل مستلب بتعبير نيتشة أو هي مقارنات ميكانيكية تفتقر إلى تحليل التفاوتات على مستوى الدخل الفردي هنا وهناك ومقارنته بالتفاوتات المعيشية هنا وهناك ايضا. وباختصار كبير كنت معزولا تماما من المجموعة برغم أني أعيش معهم، كنت افضل الصمت على ان اعكر ميزاجهم بخرافاتي التحليلية انا ايضا، وذات صباح حصل لي هذا التحدي الذي لم انتظره، كان يوما حارا والبحر فيه هاديء جدا، وكانت المجموعة تتحمم بشاطيء مارتيل التطواني، وعندما مررت بقربهم وتحيتهم، كلمني احدهم بأن أشاركهم متعة السباحة في الشاطيء فتعذرت لأن هواجس الإبحار مخيفة بالفعل، ولم يفهم هذا السيد ظروفي النفسية هذه، قال لي بأني تعيس وعبوس لأني لا اتقن السباحة، وطبعا كان للامر بعض الحقيقية في أن لا تتقن السباحة، فقراصنة "الحريك"، لظروف امنية خاصة يجبرون المهاجرين أحيانا ان يتمموا ما تبقى من مساحة العبور سباحة والهروب من يد الحرس الإسباني أثناء المداهمة قرب شاطيء الوصول وهي من الامور التي تعتبر من ثقافة الهجرة السرية حيث على المهاجر أن يكون عارفا بها ويعول عليها، في هذه البيئة تعلمت الكثير من ثقافة الهجرة السرية حول البحر والإبحار والتبحر (ليس على اساس ثقافة علمية بل على أساس ثقافة الهجرة السرية)، في هذه المجموعة كان معنا شخص فشل ثلاثة مرات في العبور، واكثر من ذلك، كانت واحدة منها فاجعة بكل المقاييس وكان يحكيها لنا بكل جوارحه ويحكي كيف كان محظوظا برغم انه لم يكن سباحا وكيف مر متعلقا بالفلك بكثير من أصدقائه الذين اكلهم البحر ولم يستطع أن يقدم لهم أي مساعدة، وعموما كانت تجربته في العبور لثلاث مرات ملهمة للمجموعة بحيث أصبح مركز إشعاع ثقافي حول الهجرة في المجموعة، هل نصدقه؟ نعم ، لأنه سيهاجر معنا "مجانا" كتعويض له من طرف البحارة او قراصنة الهجرة الذين جربوه في المرة الأولى والثانية وكانوا يطلقون عليه اسم "سيء الحظ" (وضعت كلمة مجانا بين مزدوجتين لأنه عند عبورنا سأكتشف أنه لم يكن تهجيره مجانا بمعنى الكلمة بل كان بمقابل حمولة حشيش ). كان صاحب عملية التهجير يقطن بمدريد، وكانت له حسابات دقيقة في الإنتفاع من الهجرة السرية مع احتمال الخسارة، لكن الخسارة باقل ثمن، وبفضل تقييمه العقلاني ، عوض حمولة 40 مهاجر في "باتيرا واحدة" ب18 مهاجر حتى 25 مهاجر،إثناعشر منهم يغطون تكلفة الرحلة: شراء الباتيرا، جهاز الدفع، وثمن اجر قائدها ومصاريف الوقود، والباقي من المهاجرين الذين سيعبرون "مجانا" هم من المهاجرين الذين فشلوا في عبورهم سابقا، لكن هذه المرة سيعبرون مجانا مقابل حمولة حقيبة حشيش (لا أذكر قيمة حمولتها، لكن كانت فوق 5 كيلوغرامات حشيش) وهذه كانت فائض القيمة لصاحب عملية التهجير القاطن بمدريد والذي كان مجهوده فيها هو فقط مكالمات هاتفية حول متى وأين وكيف الخاصة بالتسليم، يعني كان همه الاساسي هو كيف ومتى واين ستسلم له بضاعته ولا يهمه من الامر إحراق الفلك او غرق المهاجرين أو مداهمة امن السواحل بإسبانيا.
قال لي عنصر من مجموعتنا التي يفترض أن تهاجر: أنت قلق وحزين لانك لا تعرف السباحة، نظرت إليه وإلى الباقين ممن يستحمون وكانوا لا يتقنون حتى عملية الإسترخاء في الماء فقلت له:
ــ اعتقد ان المسالة لا علاقة لها بالسباحة، فالغرق في منتصف البحر لا علاقة له بالسباحة، أحسن السباحين منا سيقتله برد الماء او التيارات الداخلية في البحر أو الجوع إذا استمر طويلا في مقاومة الموج، نعم لدي تخوف من العبور لكن ليس بالحجم الذي تعتقده، واعتقد وحسب ما ارى ان لا أحد منكم يتقن السباحة، أحسنكم يتقن الإنتقال من نقطة إلى أخرى، لكن لا يعرف كيف يسترخي في الماء ويرتاح.. كانت ملاحظة عامة عندما شاهدت افراد المجموعة كيف يستحمون في الشاطيء).
كان هذا الشخص يعرفني وهو على كل حال نسيبي متزوج بخالتي وهو من منطقة جبالة بتطوان، ذكرته بوالدتي واخوالي كونهم ابناء مربيع وكان التحدي في السباحة عند اخوالي هو معاكسة تيار النهر المنحدر، أي ان تسبح ضد التيار وليس معه مع ان مياه النهر خفيفة ليست كمياه البحر، بمعنى ان السباحة فيها أعقد من السباحة في البحر، لم يقنعه ردي كوني ابن عوامة هي أمي ولست اغامر، تمادى في التحدي بالرهان على غذاء للمجموعة كاملة:
ــ إذا وصلت إلى ذلك الكيس البلاستيكي سأعمل الغذاء وإذا لم تتجاوزه انت ستعمل الغذاء
ــ نعم أقبل التحدي لكن لندعه يبتعد اكثر ونقيم عليه
تركنا الكيس يبتعد قليلا بفعل الرياح ثم بدانا التحدي، بدات أنا بالسباحة وتجاوزت الكيس وبقيت انتظر صديقي الذي تحداني بمسافة وراء الكيس، والذي لم يسعه الوقت ليصل إلى موقع الكيس قياسا على نفسه في السباحة، كان يفتقد إلى عملية الإسترخاء بشكل اضطر إلى العودة حيث قياس القد (حيث يستطيع ان يقف على رجليه دون ان يغرق)
ــ يا صديقي، استطيع ان انام في الماء إذا كان البحر هادئا وليست به امواج كما هدوء شواطيء البحر الابيض المتوسط، لكن أعرف أن في وسط البحر وليس شاطئه، هناك تيارات مائية قاتلة تفوق قوتها قوة سباحتك أو سباحتي هذا عن السباحة فقط دون ان نتكلم عن وحوش البحر المفترسة مثل الأقراش.
العبور في البحر بآليات تقليدية هو مغامرة بغض النظر عن جهوزيتها وإلا كان هناك رقم قياسي لعبور مهاجر سباحة في عرض المضيق بجبل طارق: لتكن قطع المساحة بين إسبانيا والمغرب في المضيق مسابقة رياضية تكون فيها الجائزة هي وثائق رسمية ببلد الإستقبال، في التاريخ لم تنظم مثل هذه الجائزة وعموما لا انكر ان شخصا ما قد يفلح في ظروف مناخية خاصة.
نعم عادت إلي نفسي فوبيا الماء باكادير، على الرغم من اني اعيش في إقليم الباسك، على الرغم من انهم هنا يسمون امتداد المحيط الاطلسي عندهم باسم بحر الكانطابريك او خليج بيسكايا، يبقى المحيط الأطلسي ، في وجداني ، مخيفا جدا انطلاقا من حادث تيار المحيط الاطلسي بتاغازوت بأكادير.
أعود الآن إلى ماريغ (النهر المالح بالامازيغية) برغم صغره كان وادا رائعا حوله المروج ، كان وطنا لطيور عديدة (أول مرة في طفولتي عرفت البط، عرفت البط الوحشي بهذا الواد) أول مرة رايت اللقلاق عن قرب رايته ايضا بهذا الواد الصغير، في هذا الواد تعلمت أيضا اغرب المصطلحات الامازيغية، تولدت فصاحتي الامازيغية الاطلسية بهذا الواد، كانت ملوحته ضعيفة إلى حد ما ليست كملوحة البحر، وكان ماؤه يعشقه البقر قبل البشر في تسخيره في زراعة الدرة، كنت في طفولتي راعي صغير، وكان كل الرعاة يلتقون عند هذا الوادي الجميل بخضرته "الاكزديميية" (أغزمير هو نوع من نبات ينتمي إليه نبات "آلي" يصنع منه الحصير ويوجد بكثرة على ضفاف نهر ملويث ويسمى تمييزا على أكزمير ب "آلي" أو ربما يسمى بالعربية "الحلفة" رغم أن الحلفة في الاثاث المنزلي هي طحين نبات"الدوم"، حول ماريغ كانت هناك ألعاب رياضية حول القصف تسمى : تيبنايين" يركبون بنا احجار ثم يقذفونها بالحجارة لاسقاطها: نوع من التدريب الغريزي على