الصين بعد ماو


هشام عقيل
2021 / 1 / 31 - 19:44     


الصين بعد ماو

ترجمة وإعداد: هشام عقيل

[في 11 مايو 1977 سلم شارل بيتلهايم رسالة استقالته لجمعية الصداقة الصينية-الفرنسية التي كان يترأسها. يحلل بيتلهايم في هذه الرسالة، بشكل عام ، مجرى الصراع الطبقي في الصين بعد رحيل ماو تسه تونغ؛ وعلى ذلك لاحظ – بشكل مبكر – بأن الحاصل في الصين هو الرِدة إلى النظام الرأسمالي] .

الأصدقاء الأعزاء،

تعلمون بأن الأحداث التي تلت وفاة الرئيس ماو شكّلت مصدر قلق شديد بالنسبة لي. فمثل العديد من أصدقاء الصين توجستُ الخطر الذي يحوم حول مستقبل الاشتراكية في الصين منذ اعتقال القادة الأربعة الذين لعبوا دوراً محورياً في الثورة الثقافية، كما أن جميعهم – بإستثناء تشيانغ تشنغ- حظوا على ثقة ماو تسه تونغ.

لا يمكن أن تعدّ التهمة الموجهة لهؤلاء الأربعة، القائلة بأنهم حاولوا أن يقودوا إنقلاباً على النظام، تهمة مقنعة على الإطلاق. نحن نعلم، في العادة، بأن الزمر التي تنجح في قيادة إنقلاب على نظامٍ ما غالباً تتهم القادة القدماء بمحاولة الاستحواذ على السلطة عن طريق القوة.

إن مخاوفي وشكوكي تشتد عند العواقب السياسية لهذه الأحداث خصوصاً بعد أن قام اثنين من القادة المعتقلين، ياو ون-يوان وتشانغ تشون-تشياو، بمساهمات هامة – رغم أنها غير مكتملة – لتحليل الأساس الطبقي للرِدة الرأسمالية في الصين.

… إن الطريقة التي تمّ فيها “نقد” القادة الأربعة، ولا يزالون إلى يومنا هذا يتعرضون له، لا تمت بصلة إلى تعاليم الرئيس ماو. في المواد المنشورة ضد هؤلاء الأربعة لا نجد تحليلاً ماركسياً، بل – بالأحرى – لا أكثر من القذف والتشهير؛ وهذا المستوى الهابط لا يبين سوى عدم قدرة القيادة الحالية للحزب الشيوعي الصيني على حمل أي نقد جاد للخط السياسي التابع للقادة الأربعة.

تحمل الحملات المضادة لهؤلاء الأربعة تهماً لا تنطبق عليهم، بل إنها -على العكس- تنطبق على ممارسات القيادة الحالية نفسها! نقرأ بأن “تزييف” الصور، التزييف المنسوب للقادة الأربعة، تثبت بأنهم كانوا في مثل الوقت “متآمرين منحطين وانتهازيين متعطشين لسلطة الدولة والحزب”. بلا شك لا بد من إدانة تزييف الصور، لا وبل كل أشكال تزييف الحقائق التاريخية؛ لكن هذه الممارسات هي الطاغية عند القيادة الحالية، وهذا واضح في عددي نوفمبر- ديسمبر 1976 لمجلة ( الصين تنهض) حيث ظهرت الصور المزيفة علناً.

التهم الموجهة ضد الأربعة تنكر كل مقومات الماركسية. على سبيل المثال، التوبيخ الذي ناله تشانغ تشون-تشياو لمحاولته حمل تحليل طبقي للمجتمع الصيني الحالي ورغبته في تطوير الماركسية لا يعبر سوى عن إنكار صريح للاشتراكية العلمية وتحريفية تبشر بثورة مضادة.

أما التهم الأخرى فهي غير واقعية أو، إن قبلنا بها، ستجعلنا جدياً نشك في أخلاقية أسلوب حياة الكوادر القيادية للحزب الشيوعي الصيني. مثل إتهام القادة الأربعة بأنهم لا يدفعون لوجبات الطعام في المطاعم التي يرتادونها؛ أو الرسالة المزعومة التي ارسلت إلى تشاينغ تشنغ بشأن “الفستان الامبراطوري” الذي قامت بطلبه.

أخيراً، ثمة تهم لا تعدو كونها مبالغات تشوه الوقائع؛ إنها لا تتعدى كونها تزييفاً صريحاً. هكذا، في الأشهر القليلة الماضية قالت الصحف والمجلات بأن الأربعة عاشوا حياة بورجوازية انتهازية وفاسدة. تكتب الصحف والمجلات بأن وانغ هانغ – ون هو ممثل نموذجي للبورجوازية الجديدة؛ كما أنها تقول بأن الأربعة كانوا أشبه بملّاك الأراضي وبورجوازيين، وبالتالي كرّسوا حياتهم كلياً للطريق الرأسمالي. إنهم يحاولون إظهارهم كأعداء الحزب الشيوعي، والطبقة العاملة، والشعب الصيني بأكمله؛ كجواسيس، وتوابع للأطراف الأجنبية، ومستوردي الأدوات المطلوبة للعملاء السريين، بالإضافة إلى استيراد السلع المرفهة. تكتب هذه الصحف والمجلات بأنهم بددوا أموال الدولة بغية الإضرار بالتراكم الاشتراكي لإشباع رغباتهم المادية. كما إنها اتهمتهم بكونهم عملاء الكومينتانغ.

إن كانت هذه التهم صحيحة وواقعية فذلك سيجعلنا نشك في مقدرات القيادة الحزبية وفي يقظة ماو. في هذه الحالة، سيكون علينا أن نتوقع بأن بعض أو كل القادة الحاليين يعلمون كعملاء الكومينتانغ و”يتجسسون لصالح العدو”.

لكن إذا كانت هذه التهم غير صحيحة، كما أعتقد أنا شخصياً، فإنه من المستحيل أن نثق بقادة يعملون على خداع الشعب عبر تصفية المعارضين لهم؛ لا عبر اللجوء إلى تفسير أسس الخلافات، بل عبر اللجوء إلى القذف والهجوم.

في ظل هذه الظروف، لا يسعنا سوى أن نستنتج بأن الوفاء الظاهري للخط السياسي التابع لماو تسه تونغ عند القيادة الجديدة هو لا شيء سوى غطاء يهدف لتمويه خط مناهض له. في الواقع، حين تفحصتُ النصوص المنشورة في الصين في الأشهر الماضية، بالإضافة إلى ملاحظة ما يحصل في الممارسة الفعلية، استنتجتُ بأن الخط التحريفي هو الذي يتنصر حالياً. فإن الحزب تخلى عن نقد تينغ هيساو بينغ، فنسمع دعوات ترجع الأولوية للإنتاج بدلاً من الثورة. كما أن مبادئ مثل النظام والإنضباط تمّ التشديد عليها، وهكذا يخسر الشعب حقه في التعبير عن رأيه الصريح، ناهيك عن حقه وواجبه في التمرد على السياسات البورجوازية. أما القضايا المتعلقة بوضع المرأة في الانتقال الاشتراكي فتمّ إنكارها تماماً؛ ولا نجد أي مكان للصراع ضد الحق البورجوازي. كما أن قضية تواجد البورجوازية في الحزب الشيوعي نفسه تم تفاديها تماماً، وتمّ استبدال الصراع الطبقي بالصراع ضد القادة الأربعة.

باختصار، نقد هؤلاء الأربعة يعبر عن موقف تحريفي لا ثوري، إذ إننا لا نجد أي مكان للتفرقة ما بين الخطأ والصواب في أقوالهم وأفعالهم. وبالتحديد، تمّ استغلال اخطاء هؤلاء القادة لإنكار تحليلاتهم الصحيحة، وهذا المنهج مناهض لمتطلبات المادية الديالكتيكية؛ ويعزز هذا، بدوره، الأفكار البورجوازية.

إن ما نراه يحصل في الصين يؤكد النزوع نحو التحريفية في السياسات الحالية: فضوابط المصانع أصبحت قهرية وقمعية شيئاً فشيئاً. كما إنه تمّ عملياً التخلي عن سياسة الباب المفتوح في مجال التدريس. معنى هذا هو بينما تقوم القيادة الحالية بتمجيد الثورة الثقافية في أقوالها فإنها في حقيقة الأمر تلغي كل ما حصدته الثورة الثقافية.

أما بالنسبة للسياسة الخارجية فإنه تمّ التخلي عن مبدأ الصراع ضد القوتين العظمتين في العالم -الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي – ليحل محله مبدأ الصراع ضد الامبريالية السوفيتية وحدها. نتيجة لذلك اختفت الإدانات الموجهة للإمبريالية الأمريكية بشكل تدريجي؛ فإن تدخلاتها أو تدخلات حلفائها في حياة الشعوب الأخرى أصبحت في أعين القيادة الصينية الحالية كأفعال “إيجابية”. هذا واضح في حالة الأحداث التي حصلت في زائير. حين تتجابه قوتان امبرياليتان وجهاً لوجه أنه من غير الصائب أن تختار أن تقف في صف واحدة منهما ضد الأخرى. هكذا، الممارسات الدولية الحالية للحزب الشيوعي الصيني تضر بصورة ومكانة الصين عند شعوب العالم، وبالتحديد شعوب العالم الثالث. في الواقع، هذه السياسات تنصب مباشرة في مصلحة الإشتراكية – الإمبريالية.

هذا هو حكمي الذي أنا مضطر أن أتبناه وفقاً للحاصل في الواقع الصيني الآني. لا نملك العديد من المعلومات لنعرف بالضبط مقدار قوة الأطراف المناهضة للخط السياسي الحالي. بلا شك هذه الأطراف موجودة، وهذا ما تشهد عليه درجة الممارسات القمعية الحاصلة في الأشهر الماضية. إنه من المستحيل التنبؤ تحت أي ظرف، ومتى بالضبط، سترجع الصين إلى خطها الاشتراكي ثانية.