احتجاجات جانفي 2021 واختلاف المواقف منها في الساحة السياسية التونسية


بشير الحامدي
2021 / 1 / 30 - 18:17     

كالكثيرين تابعت أغلب ما كتب وما قيل في المنابر الإعلامية حول الاحتجاجات التي انطلقت أخيرا كما اطلعت على الكثير مما كتبه ونشره بعض هذا الشباب المحتج على صفحات التواصل الاجتماعي وعموما خرجت ببعض الاستنتاجات سأختصرها في النقاط التالية:
يمكن إجمالا الحديث عن خمسة مواقف ظهرت ووقع التعبير عنها في علاقة بهذه الاحتجاجات:
ـ الموقف الأول هو الموقف الرسمي الذي تعاطى مع الحدث بمنطق التجريم والقمع ومحاولات تبرير ذلك في وسائل الإعلام بأنه الواجب المحمول على قوات البوليس في حماية الأملاك العمومية والخاصة من "عنف المحتجين وتخريبهم" وقد روجت لهذا الموقف كل وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة التي خصصت جزء كبيرا من مساحة نشاطها لأشخاص في علاقة مباشرة بجهاز البوليس ولبعض الناشطين من المجتمع المدني و الإعلاميين القريبين من دوائر البوليس والذي يتقاسمون مع هذا الجهاز موقفه هذا حتى أن الكثيرين منهم سمعناه يتحدث عن حرفية هذا الجهاز في قمع المتظاهرين والمحتجين وهو ما يجعلنا نتساءل عن علاقة مصطلح الحرفية بالقمع ومصادرة الحريات وبالمنع عموما وقد لاحظنا ورود نفس المصطلح حتى لدي رئيس الحكومة في بيانه الذي توجه به للمواطنين وهو خلط مقصود بين مصطلحي قانونية وحرفية تعمدت السلطة و الإعلام استعماله لتبرير تجاوزات البوليس للقانون في مواحهة هذه الاحتجاجات حيث وقع إيقاف قصر و أشخاص لا علاقة لهم بالاحتجاج كما استهداف بعض السكان في مواقع الاحتجاجات بالغازات السامة وهم في منازلهم.
ـ الموقف الثاني هو موقف بعض شخصيات الساحة الحقوقية والثقافية والصحافية والناشطين في جمعيات "المجتمع المدني "وبعض الأحزاب الحداثية اللبرالية. والذي يعتبر موقفا تقليديا من هؤلاء فقد ندد بالتدخل المفرط لقوات البوليس وفي نفس الوقت ندد بالعنف الذي مارسه المحتجون وهو في عمومه موقف تعود هؤلاء وغيرهم من الوسطيين اللبراليين عليه حتى أثناء حكم الديكتاتور. موقف حدوده الموقف اللبرالي الذي يقود مواقف رابطة حقوق الإنسان وجمعية الصحافيين والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية الاجتماعية كما أن أغلب شخصياته هي شخصيات ناشطة في الأطر الرسمية والقريبة من السلطة ـ صحافة ووزارة الثقافة ـ الجمعيات الحقوقية ـ جمعيات المجتمع المدني ـ التي تعتبر إحدى الأحزمة التي استفادت من مسار الانتقال الديمقراطي وهي شخصيات وأطر لها نفاذ اليوم لوسائل الاعلام وتحظى الجمعيات التي تنتمي إليها بتمويل رسمي داخلي وخارجي وشخصياتها أغلبها مرتبط بالخارج بطريقة أو بأخرى كذلك فالكثير منها كان ناشطا أو مازال ينشط داخل الأحزاب اللبرالية ودعم الباجي قايد السبسي وموقفه لا يتجاوز معارضة سيطرة حركة النهضة على مؤسسات الدولة واعتبارها وحدها المسؤولة عما عليه الوضع اليوم في تونس. الموقف الثاني عموما هو موقف مسيج بالدائرة الحقوقية اللبرالية الحداثية التي يدور فيها هؤلاء وبرؤيتهم التي هي في مطلق الأحوال رؤية مناهضة للموقف الداعي لاستئناف الثورة. وهو عموما موقف اليمين الحداثي غير الممثل في السلطة المتموقع اليوم في الدائرة الثانية من المدافعين عن الانتقال الديمقراطي بوصفهم جزء من الطبقة التي استفادت وتستفد منه.
الموقف الثالث هو موقف حزء من اليسار الذي يقول عن نفسه ماركسي لينيني أو ماوي أو قومي الذي بقيت مواقفه طيلة السنوات العشر الأخيرة مكبلة بموقفه من الانتقال الديمقراطي عموما فمن جهة نرى جزءا كبيرا منه مازال يرى نفسه داخل دائرة قوى هذا الانتقال ويتبنى كل آلياته السياسية وتنظيمه المؤسساتي ـ انتخابات ـ دستور ـ استقلال مؤسسات الدولة وأجهزتها ـ الدولة المدنية ـ الحريات العامة والفردية ـ ومن جهة أخرى ينادي بالثورة ويدعم الاحتجاجات ويندد بقمعها ولكنه في نفس الوقت يعمل على ركوبها وقيادتها ودفعها لتبني مواقفه على أمل استثمارها لتعزيز موقعه في الساحة السياسية والتموقع من جديد داخل دائرة قوى الانتقال الديمقراطي وهو موقف يلاقي رفضا كبيرا من قبل المحتجين رفضا لم يتوضح في رؤية سياسية وتنظيمية متجاوزة لهذا اليسار ومتباينة عنه من حيث المهام والبدائل والسياسات.
الموقف الرابع هو الموقف الذي يحاول أن يبنيه طيف من المثقفين الناشطين على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي والذي يحصر دوره في دراسة "ظاهرة" الاحتجاج وطرح الأسئلة حولها ومحاولة تفكيكها وفهم أسبابها ومن هم القائمون بها وماهي الأشكال التي يعبرون بها عن احتجاجهم والتي بقيت في عمومها محاولات حبيسة منهج لا يرى مسألة الصراع في كليته بل لا يراه إلا مجزئا فالمجتمع بالنسبة لهم هو مجموعات سكانية وفئات عمرية وكل مجموعة أو فئة تحركها عوامل خاصة بها فالشباب يحتج لأنه مهمش كفئة ورافض لكل سلطة والنساء يحتججن لأنهن يعانين التسلط الذكوري والحي والحومة تنتفض لأنها سكانها طرفيون مفقرون إلخ ...إن هذا الموقف الذي حدوده تحليل الظاهرة والنظر إليها في جزئيتها يبقى موقف بعيد عن الإلمام بحقيقة العوامل الفاعلة في الواقع بكليتها فالشباب المحتج لا يمكن النظر إلى حركته بمعزل عن الصراع ككل ولا يمكن طرح الحلول له بمعزل عن الحل الشامل للأغلبية ككل فالتهميش اليوم مثلا ليس مقصورا على فئة الشباب في الأحياء الطرفية بل إنه ظاهرة مجتمعية وتمس تقريبا الأغلبية ومن كل الفئات و الأعمار فالعامل مهمش وربات البيوت مهمشات والموظف المفقر مهمش والفئات الريفية الفقيرة بمجملها مهمشة والتهميش هنا المقصود به الإبعاد ومصارة القرار وليس البطالة فقط أو غياب وسائل الترفيه فقد يحصل الشاب على عمل ولكنه سيظل مهمشا مقصيا مبعدا في مجتمع لا يرى القائمون عليه إلا الخمس المرفه ولا يخططون إلا له.
الموقف الخامس والأخيرهو موقف شبكة واسعة غير منتظمة إلى حدّ الآن ينشط أصحابها في غالب الأحيان بشكل فردي ويدفعون في اتجاه تجذير هذه الاحتجاجات حتى تبلغ درجة الانتفاض الشامل بانخراط الأغلبية فيها وينادون بضرورة تنظم هذه الاحتجاجات لتتحول إلى مسار مقاومة يطرح على نفسه مهام إسقاط الانتقال الديمقراطي ويعتبرون احتجاجات الشباب الراهنة حلقة من سلسلة مسار كامل ظل طيلة العشر سنوات الأخيرة يتخبط في عجزه الذاتي التنظيمي والسياسي وينادون بضرورة التسلح برؤية متجاوزة لهذا العجز ترتقي من المطلبية و الإصلاحية إلى الثورة من جديد عبر أشكال من الانتظام مستقلة وديمقراطية وحرة في الحي وفي المعمل وفي الإدارة وفي المعهد والكلية تقطع مع منطق الحركة لأجل الحركة و الانتفاض الذي يكون بمثابة المسكّن لتعود بعد ذلك الأوضاع لما كانت عليه بل من أجل المساهمة الفاعلة في جعل الفاعلين والمعنيين من أصحاب الحق يعون ضرورة تنظيم انتفاضهم والاستمرار فيه حتى فرض حقوقهم.