الأجنحة


اخلاص موسى فرنسيس
2021 / 1 / 29 - 09:29     

انتهى الوقت، كانت ساعة الغروب والسماء تستعير من الشمس خيوطها السلسة، لتخلع على الشفق الدفء والألوان. كانت الهضبة تطيل المكوث في مواجهة الريح، تتزيّن بلازورد الشعاع الهابط فوق البحر. أجلس على كتف الوادي، والنخيل تهدهده الريح، يتمايل وكأنّه عازف كمان خارج من عمق الوادي، تشهق الأغنية، وتخيّم رعشة من البرودة على المساء. ما زلت أحملق في المرئي أمامي، أصغي إلى إيقاع الصوت الآتي من الغيب، وكأنه فارس يمتطي صهوة فرس أصيل، أو خارج من عمق أساطير الصحارى العربية، في عينيه "حزن نبوي" يسكن الكهوف، يلفّ في يديه أواخر وريقات الحياة. بدأت الظلمة تجتاح الأرض المبلّلة بمطر أمس، العصافير تزقزق من بعيد معلنة قدوم الليل. ضممت الكنزة الصوفية أتقي لسعة البرد، وجلست أتّأمل الأغصان تعانق الريح ممزوجة بضجيج السيارات المسرعة. يشبهني كثيراً هذا الغصن الشارد، توقّفت الماكنة البشرية ساعة الشفق، وما زال الملّاح الخارج من البحر، يرتدي قبعة سوداء، فكرة تنساب من بين يدي، أحاول صوغه بكلمات على الآلة الكاتبة، امتداد لتلك الحضارات القديمة، سارية تخفق بوجه الريح، ونحو شطآن المساء يلوّح بيده، مخرجاً من حقيبته آلة الهارمونكا، يبثّ فيها من روحه، فتأتي الألحان جذوة من حياة، تنساب مذهبة محمرة، تتماوج، وتصدح مثل نواقيس الكنائس القديمة، تتلألأ، تصخب مثل النوارس، مثل تيار في غور البحر، يلج الفراغ، يملأه من همس الآلهة، عندليب يغرّد في صومعة الليل، ليس ثمّة ثالث بيننا سوى حلم يجمعنا. في الأفق الممتدّ فوق المدينة، وعلى السفح المقابل من الكرة الأرضية، متعثرين بسور المسافة، يتفجّر الحنين حين يسدل الليل ستاره، مثل امرأة تسدل شعرها الأسود على جسدها الغضّ الأبيض، يعزف ألحاناً طفولية، فيخرج القمر من خلف الجبل، يخيّم بنوره الفضيّ على الجبال، يتأرجح مع صوت الهارمونكا. في حضرة هذا الجنون أخاف الوقوع في حبّ الحياة الخارجة من بين الشفتين، ومثل تلميذة أخاف أن تجرفني دوامة العيون. كيف لهم أن يتّهموا الشتاء بفصل الموت، أغرق فيه بالحياة، وأغوص في عتمة الغابة، أبحث عن ظلّه، أسير بلا هدى، أنتظره يخرج من المرآة في يدي، أفكّر بالغد، وأفكّر بالطير الحائر المحلّق فوق رأسي. أبتعد، أهرب من تلك المسوّدات القديمة. عندما ينام الهواء على سطح البحر، سأعود للتجول في الغابة، أطرد الحيرة، وأغلق على طيفك عينيّ. مرة أخرى رائحة الأرض بعد المطر توقظ فيّ الحنين، تمتزج برائحة الصنوبر والحطب المحروق، تناديني فألوّح له خجولة، أحمل قلبي بيد مرتبكة إلى بستان الرغبات المعصومة، أقرضها وأنفاسنا ملتهبة والابتسامة مسروقة، أرفعها على مذبح المستحيل، ينفخ دخان أنفاسه في حديد الهارمونكا، يبعث فيها الحياة، يسأل سنونوتين مسافرتين إلى الربيع الآتي ، تبادلنا معهما العمر والأجنحة.