من المغرب تشرق شمس العروبة (الحلقة الأولى) (1/ 2)


حسن خليل غريب
2021 / 1 / 29 - 09:11     

(دراسة عن تطور الأوضاع في الوطن العربي في المرحلة الراهنة)
(في الوقائع والاحتمالات)
الحلقة الأولى
(1/ 2)
كُتبت هذه الدراسة في 26/ 5/ 2019
شمس العروبة ستبقى مشرقة:
تمتاز المنطقة العربية بحيوية لافتة، فهي على الرغم من تعرُّضها لمشاريع التصفية المسبقة التخطيط، فهي ما إن تتهدَّم في أجزاء منها، تعمل الأجزاء الأخرى على الخروج من تحت الركام، وعلى الرغم من إعلان وفاتها لأكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة تبقى حركة العروبة في دينامية دائمة ومتجددة. هذه حقيقة أثبتتها التجارب التي مرَّت عليها منذ آلاف السنين، فيها تعرَّضت الأرض العربية إلى الغزوات الدائمة من الشرق والغرب.
في أحدث حالاتها، بعد أن بدأ التمهيد لغزو غربي جديد باحتلال العراق، كانت آخر نسخة من تلك المشاريع تنص على ضرب العروبة في العمق في تفتيت المجتمع العربي، وذلك عندما بدأ تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.
لقد كان التوقيت للتنفيذ قد أعلنته كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية في إدارة الرئيس جورج بوش الإبن. حينذاك، حطَّت طائرتها في بيروت في تموز من العام 2006، إثر العدوان الكبير الذي شنته قوات العدو الصهيوني على لبنان. ومن على بوابة الطائرة صرَّحت قائلة: (الآن الشرق الأوسط يولد من جديد). ومنذ تلك اللحظة لم يُولد ذلك الشرق الأوسط، بل ما زال في غرفة العناية الفائقة. فتنفيذ الولادة لم يحصل، وعملية التوليد لم تشهد نهاية لها حتى الآن.
ففي المشرق العربي وإن كانت ولادة المشروع عسيرة، فإن بعض بصماتها ما زالت عميقة. ولكن أصحاب المشروع، صهيونية أكانت أم دول غربية، أم كانت دول إقليمية، وأم كانت بعض الأنظمة العربية، لم يفقدوا الأمل، بل هم يتابعون تنفيذ مشروعهم، وإن كان بأقل ما يمكن من النجاح الكامل. وإن تمت معالجة بعض تلك الندوب العميقة في بعض دول المغرب العربي، إلاَّ أن المسارات التي تسلكها يدعو إلى التفاؤل والاطمئنان. وإن عرقلة المشروع في المشرق العربي، وتجاوز مظاهره الحادة في المغرب، هو ما كنا نقصد منه أن القومية العربية تمتاز بحركة دينامية لافتة.

تمهيد في توصيف المشاريع المعادية للمستقبل العربي:
من العراق كانت بداية المؤامرة لتغطية شمس الشروق القومي، فالشمس التي أشرقت منذ أكثر من قرن من الزمن من دول المشرق العربي، كادت تقضي على أحلام الغزاة الاستعماريين والصهاينة في الاستيلاء على الوطن العربي، الذي كان مخططاً له منذ مشروع كامبل بانرمان.
كان العراق يشكل الكوة التي ينساب منها آخر شعاع في شروق شمس العروبة. ومن العراق كان على أعداء الأمة أن يردموا تلك الكوة لتغرق أقطار الوطن في ظلام التبعية والالتحاق بالأمبرطورية الصهيونية، ومن ورائها الرأسمالية العالمية. إذ كانت الإمبراطورية الصهيونية حلماً أيقظته مقررات مؤتمر بازل في العام 1897. وكانت الإمبراطورية البيزنطية تنتظر إعادة إحيائها من لندن، على وقع مؤتمر كامبل بانرمان في العام 1905.
بين ذلك الحلم، وذلك الإحياء، وبعد وضعهما وليدين جديدين – قديمين بانتظار موت الرجل التركي المريض، راحت شمس العروبة تستطع من المشرق العربي لتتحول إلى منارة تغشى من نورها خفافيش الصهيونية والرأسمالية العالمية. فكان القرار الحاسم في إطفاء هذا النور منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين؛ فسُطِّرت مشروعاً متكاملاً بدأ تنفيذه في حرب الخامس من حزيران من العام 1967، مروراً بمشروع تفتيت أقطار الوطن العربي على أوتار مشروع الصهيوني برنارد لويس، واحتلال العراق كإشارة انطلاق لتنفيذ المشروع، ومن ثم تنفيذه منذ العام 2011.
ذلك المشروع عمَّ مشرق العرب ومغربهم ممهِّداً لتمكين حركات الإسلام السياسي، من الوصول إلى السلطة، خاصة أنها الوحيدة التي تحمل فيروسات التفتيت والشرذمة، كما أنها تحمل عوامل الاقتتال الداخلي على قاعدة التناحر بين مقدسات المذاهب، وكان من أهمها حركتان، وهما:
-الأولى: حركة الإخوان المسلمين، المرسوم لها أن تسيطر على هلال سني يرتبط مع تركيا وتفرض سلطتها عليه. بحيث يبدأ من تونس، ليمر من مصر وليبيا، وما كان له أن يتوقف إلاَّ بعد التهام سورية، التي تقع على حدود النظام التركي الجديد. وبها يكتمل الهلال، جامعاً جزءاً من تركة سلفه الرجل المريض.
-الثانية: حركة ولاية الفقيه: المرسوم لها أن تسيطر على هلال شيعي تمكن النظام الإيراني، وارث الحقبة الفارسية والصفوية. وقد امتدَّت خطوطه من العراق وسورية ولبنان، وتجاوبت مع أصدائه حركة الحوثيين في اليمن الذي أخذ ينقلب على كونه سعيداً في حرب ابتدأت ولا يعرف سوى الضالعين في ارتكابها كيف ستنتهي.
خلاصة القول، لما أطلق ممتهنو تفجير الأقطار العربية اسم (الربيع العربي) عليها، فكان سببه ليس أكثر من خدعة تستقطب أنظار الجماهير التواقة للحرية والعيش الكريم، وهذا ما أفلحوا فيه عندما استغلوا حاجة الجماهير الثائرة لحرف أهداف ثوراتها الحقَّة إلى ما يخدم أغراض مشروع برنارد لويس وأهدافه. وأما نتائجه فكانت:
-أثمرت الحراكات التي حصلت في تونس ومصر بتسليم السلطة السياسية فيهما لحركة الإخوان المسلمين التي يدعمها النظام التركي تحت رعاية صهيونية - أمبريالية؛ وبدأوا التمهيد لقيام مثلها في القطر الليبي، لكي لا تبقى سداً يحول دون تواصل النظامين الإخوانيين في تونس ومصر. وكاد المخطط أن ينجح، لو لم تحصل متغيرات عربية قلبت الموازين، رأساً على عقب.
من أهم تلك المتغيرات كانت بإرادة عربية من قبل أنظمة رسمية ابتدأت تشعر بأن حبل مشنقة الإخوان المسلمين أخذ يلتفُّ على رقبتها. فساعدت في إسقاط نظام الإخوان في مصر، ودفعت بقيادته إلى السجون. وأسقطت نظام الإخوان في تونس بضربة ديموقراطية شعبية. وقد حصل هذا الأمر في أقل من سنتين. هذا ولم تصحح مسار الانتفاضات الجديدة فيهما بشكل جذري، بل أعاد إلى الواجهة أنظمة تقليدية يتحكم في مفاصلها إدارت ما قبل إسقاط الأنظمة السابقة لغياب البديل الثوري؛ ولكن كان أهم ما حصل في انتفاضات التصحيح أنها أسقطت أنظمة إخوانية كانت مشاريعها تتجه نحو إعادة الأمور إلى ما قبل بناء الدولة القطرية ذات الأنظمة العلمانية، لتسيطر مناهج الأنظمة الدينية التي تحمل الفيروسات الطائفية، التي وإن كان معظم المجتمع العربي موبوءاً بها، فقد أرادت الرأسمالية الغربية والصهيونية أن تستغلها لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.

في العراق ابتدأت المؤامرة، ومن تحرير العراق يبدأ الحل
ابتدأت المؤامرة في العراق، وقد خُطِّط لاحتلاله من أجل القضاء على شروق الشمس العربي التقدمي المناهض للاستعمار والصهيونية وحركات الإسلام السياسي. واشترك في تنفيذ المؤامرة كل أعداء العروبة والتقدمية والنهوض العلمي. ومن أكثر الجرائم شدة وفظاعة هو مشاركة فئات عراقية ألبستها المؤامرة ثوب (المعارضة)، وما هي أكثر من أفراد وتجمعات اختارت دروب الخيانة للوصول إلى الحكم، فانتقل العراق من ضفة الدول المتقدمة إلى ضفة الدول الأكثر تخلفاً. وإن كانت المقاومة العراقية قد أعاقت المشروع الأميركي – الصهيوني، وألحقت به الهزيمة، فإنها تعمل اليوم على تحرير العراق من هيمنة نظام ملالي طهران الأكثر تخلفاً في إدارة الدول، والأكثر ظلامية من الدول الدينية التي حكمت الشرق والغرب في مختلف العصور.
وعلى الرغم من المتغيرات العربية والدولية، خاصة الخليجية والأميركية، التي أعلنت في الفترة الأخيرة، الحرب على النظام الإيراني، والتي تبدو الآن في أعلى درجاتها سخونة، لا يبدو أن القضية العراقية أصبحت على أبواب حلول قريبة وواضحة. فالقضية العراقية تمر الآن بمرحلة رمادية يظهر فيها الوضع وكأنه على أبواب ضرب الدور الإيراني في العراق؛ ولكن ما يتم من خطوات على الأرض لا يوحي بأن تطورات الأوضاع تسلك الطرق السليمة التي تؤدي إلى حلول تصحح الأخطاء الأميركية فيه التي أعلنها دونالد ترامب قبل نجاحه في الانتخابات الأميركية، وبعد اعتلائه كرسي الرئاسة. فحربه التي يشنها على النظام الإيراني الآن تحمل معالم المساومة معه أكثر مما تحمل حلولاً جذرية، فهو يريد منه أن يستمر في دوره ولكن على أن تكون مساحات هذه الدور تتظلل بخيمة الاستراتيجية الأميركية. وأما عن مواقف الدول الخليجية، فهي ما زالت تراهن على بناء علاقات ودية مع أركان (العملية السياسية)، متوهمة بأنها سوف تنافس التأثير الإيراني. وأما واقع الحال فهي، بوسائلها تلك، أعجز من أن تنافس ذلك التأثير لأكثر من سبب وسبب. وبهذه الوقائع وفي الوقت الذي تتوهم فيه تلك الدول بأنها ستضمن الحماية لنفسها من خطورة الدور الإيراني، فإنها تخطو أكثر من خطوة إلى الوراء تعود إلى بداية احتلال العراق. حينذاك شاركت تلك الدول في احتلال العراق جنباً إلى جنب النظام الإيراني وهي تراهن على حماية أميركية لأمنها طالما ظل الأميركيون في العراق.
إن ما تراهن عليه دول الخليج الآن، كما نحسب، لا يتميَّز بشيء عما كانت تراهن عليه منذ احتلال العراق. وأما السبب فلأنه أشد ما نخشى منه، أن تدفع باتجاه إعادة هيمنة القرار الأميركي على أي قرار آخر في العراق، وعلى رأسه القرار الإيراني. وهي تعتبر ذلك أفضل وضع يمكنها أن تحصل عليه، وهي جاهزة لأن تدفع مئات المليارات ثمناً للحماية الأميركية. وبذلك نعتبر أن ما أوحت به مواقف تلك الدول ضد إدارة أوباما، حينما سلَّم العراق للنظام الإيراني، قد تبخَّرت، لائذة بإعادة الوضع في العراق في عهد ترامب إلى مرحلة ما قبل العام 2010. وفي هذا ما فيه من إعادة الأوضاع إلى نقطة الصفر.

جسر الهوة بين النظام والمعارضة الوطنية في سورية:
وأما عن الوضع في سورية، وإن استكانت الأوضاع فيها إلى الهدوء النسبي بعد أن انحسرت موجات العنف العسكري والأمني والاجتماعي بفعل تحولات دولية وعربية عديدة، فإنها الآن تقف على عتبة حلول سياسية لا يظهر أنها قادمة على حلول سريعة. فالقضية السورية الآن ما تزال موضع شدٍّ وجذب بين شتى أصناف القرارات الخارجية، والحاضر فيها كل القرارات باستثناء القرار السوري، سواءٌ أكان من جهة النظام أم كان من جهة المعارضة. وهذا مبني على القاعدة التي تقول: إن الذي يموِّل تلك الحروب هو وحده الذي يستطيع أن يوجِّه مساراتها، ويحصد نتائجها. ولأنه لا تمويل من تلك القوى لأسباب إنسانية وأخلاقية، بل دافعه توظيف ذلك التمويل للحصول على فوائد أكبر، فمن المنطقي أن يتم تحميل النظام والمعارضة مسؤولية ما يحصل لسورية من أضرار فادحة.
لقد ارتمى النظام بأحضان دولية وإقليمية صادرت قراره تحت ذريعة دعمه في مواجهة عشرات الدول والمنظمات الإرهابية. ولعلَّ علاقته بالنظام الإيراني أكثرها خطورة، وذلك عائد إلى سبب رئيسي لا علاقة له بمصلحة سياسية أو اقتصادية فحسب، بل له علاقة بمشروع مذهبي عنصري استيطاني توسعي يعمل لذاته من أجل إحكام السيطرة الكلية والشاملة على الدولة السورية كجزء متمم لإمبراطورية فارسية يعمل على إعادة إحيائها. والأخطر منه هو وسائل التنفيذ فيه لأنه يتم تحت ستار التمهيد لدولة (الإمام المهدي المنتظر)، وهو عبارة عن دولة دينية مذهبية الاتجاهات. ويدعم هذه الحقيقة الإعلانات المتواصلة من قبل أكثر من مسؤول إيراني باعتبار دمشق أحد عواصم عربية أربع بسط النظام الإيراني سيطرته عليها.
واما عن أطراف المعارضة فقد بلغت أوضاعها في أسوا حالاتها؛ وذلك يعود إلى أنها بلغت عشرات الأطراف المتنازعة. وكل واحدة منها ترتمي في أحضان دول عربية أو دولية أو إقليمية تتلقى المعونات منها ودور كل منها أن تشكل غطاءً شعبياً سورياً، وتشكل ستاراً يحجب الرؤية عن الفاعل الحقيقي. إن فصائل المعارضة وتياراتها أصبحت أسيرة مموليها، الذين سيقطعون الدعم عنها إذا ما حاولت التمرد على التعليمات الصادرة إليها. وهي بمثل هذا الواقع دخلت النفق المسدود الذي دخل فيه النظام. وهي وإن حازت على بعض الحصص في الحل السياسي، الذي سوف يراعي مصالح الممولين، لكن حصصها لن تراعي الحدود الدنيا لمصلحة الدولة السورية، سواء أكان الأمر متعلقاً بوحدة الأرض والشعب، أم كان متعلقاً بمصلحة الشعب في حقه بالديموقراطية أو حقه في العيش الكريم.
وإذا كانت أبواب الحلول مقفلة حتى يأمر المسيطرون على أطراف الصراع على الساحة السورية بفتحها، وهم لن يأمروا بذلك طالما لم يصلوا إلى تقسيم الحصص بينهم. وهذا بموازين القوى العسكرية على الجعرافية السورية. ولذلك يحتدم الصراع العسكري في المناطق الآمنة على الرغم من الاتفاق عليها. وعلى الرغم من أن تلك الموازين مالت لمصلحة النظام ستبقى الساحة السورية مشرَّعة الأبواب على شتى الاحتمالات طالما ظلَّت الأطراف الداخلية خاضعة لتأثير القوى الخارجية، سياسياً ومالياً ودعماً عسكرياً.
وأما البداية فيما نحسبه تأسيساً لحلول قد تجدي، وإن كانت حساباتنا لا تنهي الأزمة بشكل سريع، بل بشكل بطيء، ولكنها على الأقل ستفتح كوَّة في الجدران المقفلة. وتستند حساباتنا إلى المبادئ التالية:
-أن يبدأ كل من النظام والمعارضة بسحب البساط التدريجي من تحت أرجل أي تدخل خارجي مشبوه.
-مستفيدة من التجربة الليبية، التي وإن كان الجزء السليم من المعارضة الليبية قد استفاد من وعي مبكِّر لخطورة ما كان مرسوماً لمستقبل ليبيا، فإن بداية الوعي هذا يجب أن يجد حظوظاً على الساحة السورية؛ على أن يتم توحيد بعض فصائل المعارضة على قواعد تخوين من يستقوي بالخارج من دون مسوَّغ شرعي وقانوني.
-وضع أهداف وحدة سورية، أرضاً وشعباً، في اولويات الطرفين. على أن تتحصَّن تلك الأهداف بالاتفاق على دستور ينهي نهج النظام المخابراتي، والعمل على تحكيم المبادئ الديموقراطية التي وحدها تضع حداً لشمولية النظام واستئثاره بالحكم.