الموقف من صعود الصين والصراع الأمريكي -الصيني!


توما حميد
2021 / 1 / 25 - 09:40     

ليس هناك شك بان الصين هي القوة الصاعدة في العالم. ان نمو الاقتصادي الصيني يتم بوتيرة يجعل من الصين ظاهرة هذا العصر الاقتصادية. في الحقيقية تعتبر تجربة الصين الاقتصادية، الاكثر تطورا ونجاحا في تاريخ البشرية. نمى الاقتصاد الصيني كمعدل، ثلاثة اضعاف سرعة النمو الاقتصاد الأمريكي والغربي في اخر 25 سنة. والمستوى المعيشي للفرد الصيني في ارتفاع، اذ ازداد الدخل الفردي بين 2000 و 2019 بمقدار 700%. وبينما بقت الأجور الحقيقية راكدة في أمريكا منذ 1973 تزداد الأجور في الصين بمعدل يفوق 10% في السنة. وكشفت اخر التوقعات بان حجم الاقتصاد الصيني سيفوق الاقتصاد الأمريكي في 2028 وربما في 2027 اي قبل التوقعات السابقة بسنوات.

وقد أصبحت الصين مصنع لإنتاج البضائع لكل العالم. لم تبال أمريكا كثيرا بتحول الصين الى مصنع لإنتاج البضائع الرخيصة وكثافة الايدي العاملة لكل العالم، مادام بقت امريكا متفوقة في الصناعات كثيفة الرأسمال والتكنلوجيا. ولكن الان تتسابق الصين للسيطرة على التكنلوجيا عالميا. وتتحدى الصين أمريكا في ميدان تكنلوجي بعد اخر مثل شبكات جي 5 و 6، والروبوتات والذكاء الاصطناعي وتكنلوجيا الطاقة الهوائية والطاقة الشمسية والاتصالات والنقل. وعكس الدعاية الغربية، يتمتع نظام الحكم في الصين رغم كل مساوئه حسب الاستفتاءات التي تقوم بها المؤسسات الغربية بدعم شعبي كبير وخاصة فيما يتعلق بطريقة ادارته للاقتصاد. في استفتاء اجرية عام 2016 كان 94% من الصينين بين عمر 12-15 سنة متفائلين حول مستقبل الصين مقابل 64% في أمريكا، في حين ان 88% من البالغين في الصين كانوا متفائلين حول مستقبل الصين في حين كان 56% فقط من الأمريكيين البالغين متفائلين حول مستقبل أمريكا.

كون الصين القوة الصاعدة في العالم، يعني بانها تتحدى أمريكا على النفوذ عالميا على الأقل في المجال الاقتصادي. وما يثير قلق أمريكا والغرب وما يزيد من حجم هذا التحدي هو الصعود التكنلوجي السريح للصين والمتزامن بالسعي للسيطرة على التقنيات الرقمية، كما ان النمو الاقتصادي الذي حققته الصين يجيب على واحدة من اهم المشاكل التي تواجه اغلب دول العالم وهي القضاء على الفقر، وبهذا قد تمثل نموذج لمعظم دول العالم التي تعتبر الخروج من الفقر همها الأساسي. فبحلول 2015 رفعت الصين حوالي 850 مليون شخص من الفقر. وفي الوقت الذي تعتمد الولايات المتحدة على التهديد والقوة الفظة والانقلابات التي تنظمها وكالة المخابرات المركزية تختار الصين لحد الان الدبلوماسية والعلاقات القائمة على المصالح التجارية والاستثمارات.

لهذا ان التفوق الأمريكي الذي استمر تقريبا لقرن هو في خطر. ان العلاقة بين الصين كقوى عظمى صاعدة وبين أمريكا كقوة عظمى في مرحلة الافول قد دخلت مرحلة حاسمة. ليس بإمكان أمريكا والغرب لجم الصين وقد أصبح هذا الامر واضحا رغم إصرار اليمين الأمريكي على هذا الخيار. اذ فشلت كل السياسات التي اتبعها ترامب لوقف الصعود الصيني. على سبيل المثال لم تعد أي وظائف في مجال التصنيع الى أمريكا ورغم التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب على البضائع الصينية لقد فاق العجز التجاري مع الصين في شهر تشرين الثاني 2020 اكثر من 68 مليار دولار وهو اكبر رقم منذ 14 سنة.

ان التحدي وخاصة الاقتصادي الذي تمثله الصين لمكانة امريكا هو السبب الأساسي للعداء الأمريكي للصين. إضافة الى حاجة المجمع الصناعي العسكري في أمريكا لوجود عدو خارجي بحيث يبرر صرف أكثر من ترليون دولار سنويا على الصناعات العسكرية وحاجة الطبقة الحاكمة في أمريكا لعدو خارجي لتبرير عرض قوتها العسكرية ومن اجل توحيد الغرب تحت قيادتها. ويعتبر عدم مثول الصين للسياسات النيو ليبرالية والشروط والقيود التي تفرضها على الاستثمارات الأجنبية خاصة في القطاعات الحيوية وعدم فتح أسواقها بشكل كامل امام الشركات الاجنبية سبب اخر للتوتر بين البلدين.

ان الأسباب العلنية التي تقدمها الادارة الامريكية للتوتر مع الصين والحرب التجارية معها مثل سوء معاملة مسلمي الايغور وقمع الاحتجاجات في هونك كونك هي حجج سخيفة. فسجل أمريكا نفسها تجاه السود هو ليس بأفضل. كما ان اغلب حلفاء أمريكا ليس اقل قمعا من الصين. ليس الخلاف بين أمريكا والصين خلاف أيديولوجي رغم ادعاءات الغرب. من جهة اخرى ان الحجج الأخرى التي تساق مثل العجز التجاري الكبير لصالح الصين وتفريغ أمريكا من التصنيع، وسرقة التكنلوجيا والتجسس على أمريكا والتلاعب بالعملة هي حجج غير مقنعة. ان العجز التجاري لصالح الصين وانتقال الوظائف في مجال التصنيع الى الصين هو من نتائج ومتطلبات الاقتصاد الرأسمالي العالمي. اذ ان 50-60% من البضائع التي تصدرها الصين الى أمريكا تنتج من قبل الشركات الامريكية التي نقلت الإنتاج الى الصين سعيا وراء ايدي عاملة رخيصة. كما ان انتقال التكنلوجيا الغربية الى الصين تمت برغبة الشركات الغربية دون ان يرغمها أحد على هذا الامر. قدمت الصين عرضا للشركات والرساميل الأجنبية مفاده بإمكانكم الاستثمار في الصين والاستفادة من الايدي العاملة الصينية المنضبطة والرخيصة والوصول الى الأسواق الصينية الضخمة والتي تنمو بشكل هائل مقابل نقل التكنلوجيا الى الصين. وقد تم نقل التكنلوجيا ضمن عقد لم تجبر الصين أي شركة غربية الدخول فيه. كما ان سرقة اسرار التكنلوجيا والملكية الفكرية بشكل غير قانوني من خلال التجسس والقرصنة هو امر تقوم به كل الدول الرأسمالية وليس هناك أي دليل بان الصين تقوم بهذا العمل أكثر من أمريكا نفسها. ان المحاكم في الدول الغربية مليئة بالقصايا المتعلقة بسرقة الاسرار الصناعية والملكية الفردية والتكنلوجيا بين الشركات الرأسمالية الغربية نفسها. ان اتهام أمريكا للصين بالتلاعب بالعملة هو ليس سبب الصراع، وليس له أي أساس على الأقل في اخر 20 سنة، لذا فقد اتفق البنك النقد الدولي مع الصين في رفضها لهذا الاتهام. وليس هناك دليل بان الصين تقوم بغرق الأسواق الامريكية والعالمية بالبضائع المدعومة من قبل الحكومة الصينية بأسعار اقل من أسعارها الحقيقية. كما تقوم الولايات المتحدة بشكل مستمر بدعم صناعاتها مثل الزراعة والبنوك وصانعي السيارات على حساب دافعي الضرائب.

ان اتهام أمريكا للصين بتهديد مصالحها عسكريا في وقت ان جيشها متواجد في بحر الصين الجنوبي وفي كل انحاء اسيا ويحاصر الصين بقواعد عسكرية مدججة بألاف الصواريخ من كل الجهات هي تهمة سخيفة.

كل الطبقة الحاكمة في أمريكا متفقة في اعتبار الصين أكبر خصم استراتيجي وبالتالي في معاداتها للصين. لهذا لم نجد احتجاج يذكر من الحزب الديمقراطي في ولاية ترامب على الإجراءات التي اتخذها ضد الصين مثل فرض التعريفات الجمركية على البضائع الصينية وفرض العقوبات على بعض الشركات الصينية وغيرها.

ان الفرق بين إدارة جو بايدن وإدارة ترامب في طريقة التعامل مع الصين بسيطة. ربما ستكون نبرة إدارة بايدن اكثر تحضرا وقد يكون هناك تعاون في مجالات مثل مواجهة التغير المناخي الا ان العداء الأمريكي سيستمر وستستمر الجهود لوقف الصعود الصيني. فرغم وصف بايدن للصين، عكس ترامب، بانها منافسة وليست خصما ويتحدث عن التعاون والمنافسة بدلا من المواجهة، الا انه قال سوف يبقي على بعض السياسات التجارية والتكنلوجيا الصارمة لإدارة ترامب، هذا رغم وضوح حقيقة ان الطريقة التي بإمكان أمريكا مواجهة الصين لن تكون من خلال العداء لها بل عن طريق مواجهة المشاكل الهائلة التي تواجه أمريكا داخليا مثل فشل النظام الصحي، التأكل البيئي، ركود المستوى المعيشي، عدم المساواة التي وصلت الى ابعاد فلكية الخ.

رغم عدم وجود أي توهم بالصين من حيث طبيعة نظامها الرأسمالي الذي يحركه منطق الربح والذي شيد من خلال الاستغلال الوحشي للطبقة العاملة وكونها أكبر مصدر للرأسمال على المستوى العالمي وما يعنيه هذا الامر من استغلال الطبقة العامل خارج حدود الصين تحت شروط انتاج امبريالية، الا ان صعود الصين وبروز عالم ثنائي او متعدد الأقطاب هو امر إيجابي بنظرنا من زاوية مصالح الطبقة العاملة العالمية والقوى التقدمية في ارجاء العالم. ان وجود عالم يسوده أكثر من قطب يضع عراقيل امام الغطرسة والبلطجة التي تمارسها أمريكا ضد الدول التي لا تقبل بسياساتها وضد القوى والأنظمة التقدمية واخرها الانقلاب الذي قامت به ضد نظام موراليس في بوليفيا. لقد كان النظام العالمي الأحادي القطب الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة واحدا من اسوا المراحل التي مرت بها البشرية وخاصة بالنسبة لدول كانت ساحة للتدخلات العسكرية الامريكية مثل أفغانستان و العراق وسوريا وليبيا. انتهاء هذه الفترة سوف تزيد مساحة المناورة امام القوى التي تود شق طريق لا يتماشى مع مصالح الطبقة الحاكمة في أمريكا.