مأزق ديمقراطية الرأسمالية الأمريكية


رضي السماك
2021 / 1 / 23 - 15:56     

كانت فترة حكم الرئيس الجمهوري الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب بتنصيب خلفه الديمقراطي جو بايدن أصدق فترات الحكم في تاريخ الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين على الأطلاق في التعبير عن كل ما تزخر به الطبقة الرأسمالية الحاكمة وتتصف به من موبقات لا أخلاقية ولا إنسانية جسدها على نحو خلاق منقطع النظير نموذجه الذي لم يكن سوى الإبن الشرعي لهذا النظام وإن جاء كما قيل من خارج المؤسسة الحاكمة . فبفضل سنوات حكمه دخلت ديمقراطية الطبقة الرأسمالية الحاكمة في مأزق تاريخي وتكشفت أمام الملأ بلا رتوش جوهرها الحقيقي كديمقراطية مفصلة ومصممة آلياتها في خدمة مصالحها بالدرجة الأولى . إن مجرد وجود نظام ديمقراطي تسمح آلياته بوصول رجل أعمال ملياردير - كترامب مجنون بعظمته وهو ضحل سياسياً وغير كفؤ إدارياً يشرك صهره ومقربية في سلطات البيت الأبيض ؛بل ولم يتوان لحظة واحدة طوال عهده عن إعلان انحيازه السافر لأسوأ الفئات في طبقته وأكثرها تطرفاً وجشعاً هذا في حد ذاته فضيحةبامتياز لهذا النظام ، ثم أن ينهي فترة حكمه بتوجيه ضربة إلى سمعة نظامه السياسي الذي لطالما تشدق بتقاليدها وأعرافها الديمقراطية في الممارسة بها لعقود طويلة ؛ بدءاً من عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية وزعمه بتزويرها رغم اقرارها رسمياً وقضائياً بصحتها ثم ضبطه متلبساً بالجُرم العلني المشهود بتحريض بلطجيته من العنصريين على اقتحام المؤسسة البرلمانية في مشهد ارهابي انتهى بمقتل خمسة أشخاص بينهم شرطي ، فخروج من البيت الأبيض معززاً حراً بما يليق بمكانته كرئيس جمهورية مبجل بطائرة الدولة دون القبض عليه لتقديمه على الفور للمحاكمة ، كل ذلك ليس سوى مسخرة وفضيحة كبرى اخرى لنظامه الذي جاء به للبيت الأبيض . ولك أن تتخيل للحظة واحدة لو كان المسؤول عن تلك العملية الارهابية لو جرت في غير ذلك المكان ، لكن في ظروف مشابهة ، مواطن عادي ينحدر من الطبقات الفقيرة أو المتوسطة ؛ لا سيما إذا ما كان من السود فهل كان يفلت بسهولة من القبض الفوري عليه إن لم يكن مصيره القتل الفوري ؟ أو ليس ذلك يفضح بجلاء الأنحياز العنصري والطبقي الذي يتميز به هذا النظام الرأسمالي ؟
والحق فإن سنوات حكم ترامب الأربع كانت أشبه بحقبة تاريخية مديدة لما أحدثه من انقلاب جذري في سياسات بلاده وجسدها في قرارات كانت أشبه بالصدمات غير المعهودة في السياستين الداخلية والخارجية خلال كل عهود الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين على السواء منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945، ورغم طابع التسرع التي اتخذ فيها تلك القرارات بتشجيع وتحريض من غلاة اليمين العفن في حزبه وطغمته الحاكمة ، فقد قام سلفه بايدن فور تنصيبه بألغائها في ثوان بجرة قلم من توقيعه، ومن أبرزها: إعادة تثبيت انضمام أمريكا إلى اتفاقية باريس للمناخ ، عودة الانضمام لمنظمة الصحة الدولية، وقف العمل بالجدار على الحدود مع المكسيك، الغاء قرار حظر دخول مواطني ست دول إسلامية للبلاد، قرار بحماية أطفال المهاجرين من الترحيل وهو القرار الذي صادره ترامب ، وهي قرارات تشكل بمجملها عاراً على نظام ما فتيء يتشدق بالديمقراطية وحقوق الإنسان ؛ فكيف سمحت إذن آلياته الديمقراطية لترامب بذلك ؟
وإذا كانت حزمة قرارات بايدن اللاغية لقرارات العار التي اتخذها سلفه قوبلت بترحيب محلي ودولي باعتبارها تتفق والمعايير الإنسانية والديمقراطية، فإنها هي الاخرى تتسم بالعوار لعدم شموليتها القرارات الصادمة المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي لم يجرؤ كل أسلافه الجمهوريين والديمقراطيين على اتخاذها، ومن أبرزها الاعتراف بالقدس عاصمة لأسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، الاعتراف بضم الجولان السوري المحتلة لها نفسها، غض النظر عن الاستيطان ومباركته صراحة أو ضمنياً . وبهذا فإن قضية الشعب الفلسطيني تُعد الخاسر الأكبر من إصلاحات بايدن، لأنه ببساطة لا يجرؤ المس بمكتسبات جديدة نالتها حليفة بلاده المدللة إسرائيل والتي لطالما وعدها أسلافه بها في بدايات حكمهم ولم يفوا بوعودهم ثم تملصوا بتسويفها لتعارضها الصريح مع قرارات الشرعية الدولية. مهما يكن ثمة تحديات كبرى اخرى تواجه إصلاحاته الواعدة على الصعيد الداخلي، ذلك بأن التركة الترامبية ثقيلة، في مقدمتها تخفيف وطأة كارثة " كورونا " التي أستهتر بها سلفه وأودت بحياة ما يقرب من نصف مليون إنسان داخل أمريكا ، وتوحيد البلاد الممزقة بين اليمين بقاعدته العريضة المشمولة بأحط الفئات العنصرية والإجرامية بمختلف أنواعها وبضمنها المنادية بتفوق العنصر الأبيض ، واليسار بمختلف قواه الليبرالية واليسارية الراديكالية المعبرة عن الفئات الاجتماعية الدُنيا والسود والتي طال تهميشها . والحق فإن ما أفسده الدهر هو أطول من حقبة حكم مثيرة للجدل أنقضت ، بل هي منذ أكثر من قرن ونيف على صعود الرأسمالية الأميركية إثر تحولها إلى مرحلة الأمبريالية ومن ثم بروز بلاده كدولة عظمى على الساحة الدولية بما يصعب على بايدن المضي قُدماً في إصلاحاته بقرارات ترقيعية مالم تكن جذرية دستورية إنسانية تتصف بأدنى مستوى ممكن -على الأقل - من المساواة السياسية والاجتماعية وتتخلى بموجبها الطبقة الحاكمة عن نزعة الهيمنة والاستحواذ والتسلط في الداخل والخارج .