البطل الإشكالي شهادة


محمد علي سليمان
2021 / 1 / 22 - 20:26     

علاقتي مع الكتابة علاقة غريبة، كثيراً ما أبدأ القصة وأكتب منها عدة صفحات ثم يجف نبع الإلهام، وأكثر الأحيان أبقى أكثر من سنة أفكر بتلك القصة ولا أقدر أن أضيف حرفاً واحداً، تشعرني الورقة البيضاء بالخوف، وأظل أحدق بذلك البياض وقتاً طويلاً بلا جدوى. ثم فجأة يزهر ربيع الكتابة في داخلي، وأبدأ العمل حتى تنجز القصة. في أكثر الأحيان أبدأ من موضوع أحب الكتابة عنه، أو من حادثة يمكن أن تقوم عليها قصة، أو من شخصية يمكن أن تكون منطلقاً لقصة، وفي أحيان أخرى أحاول أن أكتب قصة من لا شيء، قصة لا أعرف من أين تبدأ، وهذا جرني إلى أن أبدأ القصة من اليوميات، وهذا ما أدخلني إلى عالم خرافات ذاتية.
واكتشفت من خلال طبيعة كتابة القصة عدم جدوى مخططات مسبقة للقصة: عدد الفصول، ومما يتألف كل فصل، وتطور الأحداث حتى النهاية. لقد وجدت أن مخططاً لقصة المفروض أن تتألف من ستة فصول، كل فصل يتألف من عشرين صفحة، وتنتهي بصرخة الفنان مونك. لكن الذي حصل أن الفصول الستة استهلكت كلها في الصفحات العشر الأولى من القصة. ثم كالعادة توقفت القصة زمناً طويلاً، ثم وجدت نفسي أتابع الكتابة، وانتهت القصة كما خططت لها، لكن بأحداث جديدة، وما بقي منها هو تلك الصرخة في مواجهة كون يجسد الخوف والرعب.
لا أريد أن أكتب التاريخ، التاريخ مكانه خارج الأدب. ليس أن الأدب لا يستخدم التاريخ، ولكن لا يجب أن يلتهم التاريخ الأدب. لكننا على مدى تاريخنا كنا نعيش لحظات تاريخية، ولا يمكن أن يكتب كاتب خارج تلك اللحظات التاريخية. كما أن القصص والروايات تتناول تلك اللحظات التاريخية، وهل يمكن العيش خارج الزمان والمكان، خارج التاريخ، ويظهر الأدب أحياناً وكأنه يؤرخ لتلك اللحظات التاريخية. لكن ما يجدر أن يفكر فيه كاتب هو ما بعد تلك اللحظات التاريخية، أما في زحمة تلك اللحظات التاريخية يمكن أن يتناول الكاتب أحداثاً تتعلق ربما بمدينة فاضلة، وربما بشخصيات خارقة تساهم في بناء تلك المدينة الفاضلة، فالمدن الفاضلة هي حلم، واقع رائع تحلم البشرية أن يأتي للخروج من مملكة الظلام، ذلك إنها هي التي تصنع الأمل، تصنع قدر الإنسان على هذه الأرض. لكنني أفضل شخصيات أقل بطولة، وأبحث عن شخصية إنسان عادي يعيش حياة عادية في مدينة بحرية صغيرة، يقرأ الكتب ويتنزه في شوارع الخريف دون أن تخيفه الأشباح التي تزدحم داخل المدينة، وتلك الأشباح التي تزدحم في داخله أيضاً، لكن بلا جدوى، فالجحيم أصبح في داخله، لأنه كان يعيش داخل الجحيم، وكأن هناك لعنة أصابت هذا العالم العربي الذي خرج حقاً من التاريخ. وما يزعجني دائماً إنني أصبحت أسير تلك الشخصية، شخصية " خرافات ذاتية " التي تعيش على حافة الهاوية، ولا تخرج من متاهة إلا لتدخل إلى متاهة أخرى، متاهة أصبحت تحمل الأبدية. ويزعجني أكثر أنني لا أقدر أن أهرب منها. ثم قلت لنفسي لأكتب عن تلك الشخصية كل القصص، إنها تستحق أن يكتب عنها أكثر مما كتبت، وهي في النهاية الشخصية التي تشكل محور الأدب الحديث. ولكنني أحياناً أسأل نفسي هل هذا البطل، بطل قصصي، هو بطل إشكالي نموذجي، حيث يتمتع هذا الشكل _ رواية البطل الإشكالي كما يقول جولدمان " بوضع خاص في تاريخ الإبداع الثقافي، إنها حكاية البحث المتدهور لبطل لا يعي القيم التي يبحث عنها داخل مجتمع يجهل القيم ويكاد أن ينسى ذكراها تقريباً.. ومن خلال بحثه المضطرب ينتهي البطل الإشكالي إلى وعي استحالة الوصول وإعطاء معنى للحياة "، ووجدت أنه يمكن اعتبار بطل قصصي كذلك، ويمكن أن أقول بصدق إنه يعبر عن جيل كامل، هو جيلي. ويمكن أن أقول أيضاً إنني لم أؤمن لا بالبطل الإيجابي أو بالبطل السلبي، بل بالبطل في مواجهة ذاته وواقعه الاجتماعي. ذلك أن التشاؤم هو حالة ذاتية _ اجتماعية كما هو التفاؤل، ومرتبط، بشكل عام، بالظروف الاجتماعية، ذلك أن الإنسان في حياته الاجتماعية يضطر إلى مواجه قدره ومصيره: بروميثيوس ابن البنية الاجتماعية ما قبل الرأسمالية واجه قدره وسرق النار من أجل الإنسان، لكنه لم يقدر على صنع مصيره وكان عقابه العذاب الأبدي. أما فاوست ابن البنية الاجتماعية الرأسمالية فقد واجه قدره، وصنع مصيره.
لقد أصبحت القصص والروايات تركز بشكل رئيسي على الجنس في عصر ما بعد الحداثة، وقررت ألا تقوم كتاباتي القصصية على الجنس، فليس بالجنس وحده يعيش الإنسان. ورغم أن الجمال لعنة تصيب المرأة، لكن لا بد لبطلة قصصي أن تملك الجمال، أو لنقل نوعاً من الجمال، وإلا كيف سأنظر إلى وجهها كل يوم بل كل لحظة من لحظات كتابة تلك القصص. لكن هناك امرأة تخيفني، الذي يراها يأخذه سحر وجهها، شيء غريب في ذلك الوجه يشدك إليه حتى أنك لا تريد أن تفارقه رغم أنك تشعر أنه سوف يحولك إلى حجر. هل أفكر بالساحرة في أوديسة هوميروس التي كانت تمسخ الرجال الذين توقعهم في حبائلها إلى حيوانات. وأقول لنفسي إنني كتبت قصة عن سيدة جميلة تحاول أن تدمر بطل إحدى قصص " خرافات ذاتية " في إحدى تلك المحطات الخاصة من حياته، وإنه في محطات حياته الأخرى كان دائماً يجد في طريقه مثل تلك السيدة الجميلة التي تجعله في مأزق: بين أن يهرب منها ومن صندوقها الخشبي مثل ذلك الصندوق القابع في أقبية الفاتيكان، خوفاً من أن تجره إلى ذلك الصندوق الذي يمكن أن يطبق عليه في ظلمة أقبية أخرى. ولكنني أقول لنفسي أيضاً إن السيدة الجميلة تلك شخصية قصصية هي الأخرى، ويكتب الأدباء عنها دائماً لأنها موجودة في الحياة، أو ربما لأنها هي الحياة. وأعتقد إنه من الضروري الإشارة إلى أنني اتبعت طريق بلزاك وفوكنر وهمنغواي حول العالم القصصي، فبلزاك التزم بشخصيات تشكل عالمه، كان يعيد اللجوء إليها في روايات أخرى، وكان يحاول أن يتابع تلك الشخصيات في تطورها الروحي والمادي من رواية إلى رواية أخرى، لكن فوكنر كان يتلاعب بالشخصية من رواية إلى رواية أخرى، بحيث يكون البطل منافقاً في رواية ونصف مخبول في رواية أخرى. لكنني أقرب إلى هيمنجواي، فهيمنجواي كان يتكلم عن ذات الشخصية في مراحل عمرية مختلفة، من الطفولة إلى الشباب والكهولة، إنها ذات الشخصية التي تحمل نفس الجروح الروحية والمادية. إن بطل قصص خرافات ذاتية يظهر في قصص مختلفة، بطل يحمل نفس الجروح الروحية والمادية، لكن الأمكنة والأزمنة والظروف الاجتماعية، تختلف من قصة إلى أخرى، يبقى الشخص الإشكالي هو هو لكن الحياة الاجتماعية تختلف بين قصة وأخرى بحيث يتم إلقاء مزيد من الضوء على تلك الشخصية الإشكالية.
وكتابة القصة ليست عملية سهلة، إنها كالنحت في الصخر، ولكن أحاول دائماً أن أخرج قصة لا تعقيد فيها، قصة تبدو وكأنها انسابت مثل نهر، الشكل يخدم المضمون، والمضمون يخدم الشكل. ودائماً أشعر أن هناك شيئاً ما ينقص القصة لكنني لا أعرف ما هو، فكثيراً ما أعمل على " اكتمال " القصة فنياً وفكرياً، ورغم عدم شعوري بذلك " الاكتمال " للقصة، أصل، في النهاية، إلى شعور بالرضى، ولو بشكل نسبي، في أنني كتبت قصة يمكن أن تنال رضى القارئ العادي والناقد المحترف، وقبل ذلك تكون قد نالت رضاي الشخصي.