تونس:الثورة تحدث ولكن يبقى التأسيس للتغيير الجذري هو المشكلة الكبرى الأولى التي تواجهها فإما تنجزه و إما تعجز عنه ولكنها تبقى مطالبة به في ظروف أخرى وفي ظل شروط جديدة


بشير الحامدي
2021 / 1 / 22 - 20:12     

في الوقت الذي كان فيه النشاط الجماهيري المستقل في أوجه عقب ترحيل الديكتاتور في 14 جانفي 2011 وفي الوقت الذي كان فيه ممكنا توجيه هذا النشاط الذي بلغ أوجه في اعتصامي القصبة 1 و2 ودفع الجماهير إلى العودة للجهات والمحليات وتأسيس هيئات للقرار ديمقراطية ومستقلة وتفكيك مؤسسات النظام ومباشرة عملية إدارة وتسيير ودفاع ذاتية شاملة لكل مناحي الحياة كانت ضرورية للبدء في تنفيذ مهمة التغيير الجذري للنظام التي عبّر عنها شعار المسار الثوري تعبيرا فصيحا بشعار الشعب يريد إسقاط النظام والمرور من مهمة يريد إلى مهمة مباشرة البناء الجديد غاب كل ذلك لتعوضه مهمة المجلس التأسيسي التي كانت صيغة كتبية متخلفة لبرالية ليسار تربّى على الترسّب في الماضي وعلى نقل التجارب التي وقعت في بقاع أخرى و أزمنة أخرى وثورات أخرى صيغة نجحت الثورة المضادة في استثمارها ومثلت لها طوق النجاة من موجة تجذر كانت ستطيح بها و بإمكانية ترميم النظام التي كانت تعمل على تفعيلها كبديل عبر حكومتي الغنوشي الأولى والثانية وعبر الهيئات الانقلابية التي أسستها وعلى رأسها هيئة بن عاشور.
لقد تمكنت هذه القوى وعلى امتداد سنوات الانقلاب المنقضية من تفتيت مسار 17 ديسمبر وتذرير قواه وقد نحجت في ذلك أيما نجاح فلقد تمكنت من تحويل الصراع من صراع ضد النظام إلى صراع داخل النظام أي من صراع طرفاه الأغلبية التي أسقطت بن علي والأقلية الممثلة لنظامه إلى صراع داخل الأقلية التي باشرت منذ هيئة بن عاشور ترميم هذا النظام أي إلى صراع داخل منظومة الحكم المنقلبة على مسار 17 ديسمبر وتحديدا بين جناحيها الأقوى النهضة من جهة والتيار اللبرالي الحداثي من جهة أخرى.
الأقلية هذه لم تعد هي ذاتها الأقلية التي عرفناها سنتي 2011 و2014 لقد ظهرت سنة 2021 أقلية مشتتة متنازعة متصارعة وكما ينطبق هذا الأمر على جناحيها الأقوى النهضة والشق اللبرالي الحداثي ينطبق أيضا على معارضيهما من القائلين عن أنفسم ماركسيين وماويين وقوميين وهوما يؤكد فشل السياسات التي وقع ترتيبها منذ هيئة بن عاشور وتبنتها هذه القوى ويعكس كذلك الأزمة المستمرة لعملية ترميم النظام ولما سمي بمسار الانتقال الديمقراطي وسياساته التي أصبحت الأغلبية تقول عنها أن سياسات بن علي كانت أرحم منها.
لقد تجلى فشل هذه الأقلية وحسم الغالبية العظمى من الشعب في سياساتها وفي رموزها في اختيار أغلبية ممن ذهبوا للانتخابات قيس سعيد وهو اختيار يؤكد أمرا واحدا وهو الحسم في رموز هذه الأقلية الذي يعني أولا وأخيرا الحسم في مسار الانقلاب وفي سياساته. سعيد لم تصنعه دوائر أجنبية ولم تصنعه مجموعات مرتبطة بهذه الدوائر ولم يأت من الفضاء السيبيري وتآمر المتحكمين فيه بل جاء من أغلبية في الداخل شكلت وعيها إخفاقات سياسات الانتقال الديمقراطي ورأى في الانتخابات الرئاسية إمكانية لتغيير هذه الأوضاع جمهور انخرط في اللعبة الانتخابية لا من موقع الأيديولوجيا ولا من موقع الحزب ولا من موقع الطبقة ولم يكن اختياره مبنيا لا على فهم ووعي بمشروع بديل ولا على وعي حسم في النظام الذي ينتج البؤس والجوع والإقصاء بل على وعي حدوده رفض رموز المنظومة وبحث عن تغيير كيفما كان أي بذلك المنطق الذي نعرفه جميعا والمترسب في وعيينا الجمعي والذي كثيرا ما ننساق إليه عندما تنسدّ الآفاق ويصير الحاضر أشبه بالكارثة والذي يعبر عنه المثل الدارج " تبديل السروج فيه راحة"
كذلك فاختيار قيس سعيد لا يعكس لا من قريب ولا من بعيد أن هذه الكتلة الجماهيرية التي رشحته هي كتلة Antisystème فالمشروع الذي صوتت له هو مشروع في أصله مشروع ضبابي ومشروع محكوم بتناقضاته الخاصة حيث يطرح تغيير منظومة الحكم ولو في جانبها التشريعي باعتماد آليات المنظومة نفسها وقوانينها نفسها وعبر مؤسسة محكومة بعجزها الموضوعي عن قيادة وتنفيذ أي تغيير بحكم صلاحياتها المحدودة بالدستور الذي يرى صاحب المشروع نفسه أن لا إمكانية للتغيير من خارجه. وها أن تجربة عام من وجود سعيد في قصر قرطاج وتجدد الاحتجاجات وبداية تحولها إلى عملية انتفاض شاملة تثبت كل هذا الذي ذكرنا.

هؤلاء هم أعداء انتفاضة 2021

عصابة الانقلاب أفرادا وكتلا وطبقة لم يعودوا أعداء محتملين أو يقع تحديديهم نظريا إن الجمهور الواسع صار يعرفهم ويدركهم ليس كأشباح ورموز فقط بل لقد حتم عليهم الصراع أن يخرجوا رؤوسهم من كهوفهم ويطلوا بقاماتهم فتبينهم من أيديهم و وجوهم الملوثة بدماء الشهداء وبدمائه وعرقه وكدحه و إبعاده وبأسلحتهم التي يشهرونها عليه لقد صار معهم وجها لوجه: إنهم التحالف الطبقي المكون من البرجوازية الوكيلة السمسارة العميلة المرتبطة ومن حثالة رأس المال المتوسط الفاسد الذي أنتجه تراكم مرّ على رقاب الخدامة والمستهلكين ومن بيروقراطية في أجهزة الدولة الإدارية والسياسية ومن بيروقراطيو المنظمات المهنية الدائرة في فلك رأس المال المكونة من لفيف من المرتشين والطفيليين المتمعشين من الصفقات الوسخة والفساد والتهريب والوكالة ومن السلم الاجتماعي والبيع والشراء في حقوق الجماهير المفقرة والمستغلة التي ظلت تتوسع وتتعمق دائرة بؤسها واستغلالها باستمرار.
هؤلاء هم من نطلق عليهم مافيا المال والسلاح والاعلام. إنهم كذلك البيروقراطيات الحزبية والجمعياتية والنقابية المعادية لكل إمكانية للتغيير الجذري إنهم تلك التنظيمات الممولة والمرتبطة برأس المال وبمراكز نفوذ سواء حكومات أو شركات أو بنوك إنها تلك التنظيمات التي حالت دون تجذر مسار 17 ديسمبر ووقفت في وجهه وحولت الثورة إلى انتقال ديمقراطي وانتخابات والمحاسبة إلى مصالحة والصراع ضد القديم الفاسد الى وفاق معه.
إنها الأقلية المنظمة والمنضبطة لقرارات مافيا المال والسلاح والإعلام التي قادت الانقلاب والتي بيدها كل القرار السياسي والعسكري والمخابراتي هذه المافيا هي مجموعة ذات نفوذ لا حدود له تستمده من سيطرتها على موارد البلاد وثرواتها وكل وسائل الانتاج ومن وكالتها للقوى الاستعمارية وعمالتها لاستخبارات الأمريكية والفرنسية والصهيونية وغيرها وتحكمها المباشر في بيروقراطيات العسكر والبوليسية أي من امتلاكها أساسا للمال والسلاح.
هؤلاء هم أعداء الشباب المنتفض اليوم الذين بيننا والذين لا سلاح لنا في مواجهتهم غير أن نقاومهم على كل المستويات دون هوادة فهؤلاء هم النظام والاطاحة بهم هي التنفيذ العملي للمهمة التي استشهد من أجلها المئات مهمة: إسقاط النظام.
الشباب المنتفض اليوم يحمل خطابا جديدا. خطاب جذري في تحديد المسؤولين عن بؤسه والكتلة الجماهيرية المنتفضة اليوم تجاوزت في حركتها كل الأطر الفوقية الرسمية وغير الرسمية إن ما يجري اليوم هو التجسيد العملي لمهمة الاستقلالية التي أخفق فيها عنصر 17 ديسمبر الذي ثار. إنهم يجسدون بالفعل مهمة الاستقلال الذاتي التنظيمي والسياسي التي ظل القائلون بها منذ ديسمبر 2010 يتعثرون في تجسيدها وأكثر من ذلك لقد أحيوا أيضا تلك المهمة التي ظهرت في ديسمبر 2010 وسريعا ما غابت مهمة الدفاع الذاتي في أبسط أشكالها. الشباب المنتفض هذه الأيام يعرف أعداءه بدقة ولا يمكن تركيعه أو المناورة عليه بالأيديولوجيا إنه يدشن مسار افتكاك الحقوق بكل ما في الكلمة من معنى كل الحقوق: الحق في العيش في مجتمع عادل الحق في العيش في مجتمع متحرر الحق في سيادتهم على قرارهم الحق في سيادتهم على ثروات بلادهم الحق في كل قرار يهم مستقبلهم. إنه يجسدون حركة قطعت بشكل جذري مع الانقلاب ومع المنقلبين حكومة وأحزابا وجمعيات ونقابات وحسمت مع المقولات التعويمية الفضفاضة لكل الفوق الفاسد المنقلب ولكل أولئك الذين برروا لانخراطهم في مسار الانقلاب والتشريع له أو موّهوا باستقلالية جوفاء وثرثرة بائسة عن اختلافهم عن السائد ثرثرة أشبه بلوثة مرضية لذوات عاجزة عن الفعل ومستكينة لسحر الجملة الجوفاء وللقديم المتهاوي.

من المؤكد أن ما وقع في 17 ديسمبر لن يعاد

ما دفعنا للعودة لهذه الفترة من التاريخ والتذكير بها هو المآلات التي انتهت إليها ثورة 17 ديسمبر وانحصار مشروع التغيير الجذري وعجز الأغلبية المعنية به عن استئنافه طيلة العشر سنوات الأخيرة أو حتى فرض استقلاليتها التنظيمية والسياسية عن قوى الثورة المضادة وعن سياساتها. ولكن لا شيء يبقى على حاله أو يمكن أن يتقدّم في مسار مستقيم فالإخفاقات يمكن أن تكون مؤقتة كما أن انتصارات قوى الانقلاب لا يمكن أن تكون دائمة إننا لا يمكن أن نستحم في النهر مرتين والماء في ثنايا الصراع الطبقي لا يمكن أن يستمر راكدا إلى ما لانهاية وتلك حكمة قديمة أثبتها التاريخ ومازالت حيّة.
أكيد أن أوضاع 2011/2010 ليست هي أوضاع 2021 وأن خبرة الأغلبية اليوم ليست هي خبرتها سنتي 2010/2011 .في 2010/2011 تمكنت الجماهير من التوحد حول هدف واحد هو " يرحل بن علي " ووصلت نقطة اللاعودة في تحقيق ذلك ولأن مهمة إسقاط رأس النظام لم تكن وحدها لتحقق مهام التغيير الجذري سهل على حرّاس النظام الانقلاب على المسار والحركة برمتها وربطها بما سمّي بمسار انتقال الديمقراطي. فعلى عجز الجماهير وقتها وفيما بعد على الربط بين مهمتي ـ يرحل بن علي ـ والشعب يريد إسقاط النظام وعلى تجاوز شعارات ـ التشغيل استحقاق ـ والمجلس التأسيسي ـ والحريات السياسية ـ التي وقع تبنيها من قبل قوى الثورة المضادة وتحقيقها بما يخدم مصالحها وارتباطاتها واستمرار النظام تأسس واستمر الانقلاب وتأسست سياساته الحالية التي أصبحت محل معارضة من قبل الأغلبية الساحقة ومن قبل تلك الكتلة الطبقية النشطة التي فجرت الثورة قبل عشر سنوات.
يبدو الوضع اليوم متقدّما كثيرا عما كان عليه سنة 2011/2010 من حيث النشاط ومن حيث المهام المطروحة على الجماهير فمهمة اسقاط النظام المسقطة في أول المسار ها هي تعود إلى الواجهة بوصها المهمة التي دونها تتعذّر كل مهام التغيير الجذري الأخرى. مهمة إسقاط النظام اليوم تشترط تجاوز العجز الذي ولده وقف مسار 17 ديسمبر في حدود الشعار الديمقراطي والدستوري إلى اقتحام مجال الحق في الثروة وفي الموارد ووسائل الإنتاج وتسييرها ذاتيا لصالح الأغلية عبر مجالس محلية لا امتيازات مادية أو سياسية لأعضائها. الطور الثاني من مسار 17 ديسمبر يتقدّم نحو إنجاز هذه المهام فقد كانت سنوات الانقلاب العشر الماضية كافية للوقوف على كل هذه الحقائق. قد تتعثر الحركة لكن التاريخ لا يمكن أن يتوقف والنظام لن يستمر إلى ما لا نهاية في الخروج من أزماته بمزيد إنتاج الأزمات والحركة بدورها ستلفظ عجزها وتخلص نفسها من الميّت فيها وتتقدم متجاوزة كل المسارات التي تشدها لعجزها ومراوحتها في نفس المكان والرهان اليوم هو في التحاق كل المقهورين [البطال الخدام الموظف المعدم ربات البيوت شباب المعاهد والجامعات الفقراء في الأرياف وفي أحزمة المدن...] بهؤلاء الشباب المنتفضين والحسم مع مسارات الحوار والوفاق وخوض معركة السيادة على قاعدة شروطها الجديدة التي لا يمكن أن يؤمنها غير الإستمرار في الانتفاض وفرض الجديد على القديم الفاسد على كل الأصعدة.