عودة إلى تحديد سعر الدولار


ييلماز جاويد
2021 / 1 / 22 - 14:35     

أسفي على علم الإقتصاد وبالأخص علم الإقتصاد السياسي إذ حوّله بعض " خبرائنا الإقتصاديين " في هذه الأيام إلى نصوص مجردة يستخرجونها من الكتب الأكاديمية و يأخذونها جامدة مثلما يأخذ المعمار ( الفيتة ) ويقيس بها المسافات عند ممارسته البناء . علم الإقتصاد وبالأخص الإقتصاد السياسي فرعٌ من العلوم الإجتماعية البعيدة عن العلوم الطبيعية والرياضيات والتي تعتمد القياس المطلق المجرّد . لا تجوز دراسة علم الإقتصاد وبالأخص الإقتصاد السياسي بمعزل عن حركة المجتمع وتركيبته الإجتماعية والإقتصادية وإلاّ فأي تحليل يهمل ذلك لا يمكن إعتباره علميّاً بل لغوا فارغاً في أحسن الأحوال أو دسّاً إن كان الغرض منه تحقيق أغراض خفية مقصودة.
في مقالنا السابق (1) ذكرنا أن سبعة ملايين فقط من أصل الأربعين مليوناً من سكان العراق يتأثرون بشكل مباشر بالتغيرات التي تجريها الحكومة على سعر بيع الدولار الأمريكي من قبل البنك المركزي وأن ثلاثاً وثلاثين مليوناً لا يهمهم حتى وإن أصبح سعر الدولار عشرة آلاف دينار وذكرنا كيف أن الشعب العراقي تمكن من تدبير حاله في فترة الحصار الإقتصادي حين بلغ سعر الدولار ثلاثة آلاف دينار .
أسفي على علم الإقتصاد عندما يتطابق رأي " الخبير الإقتصادي " في تعليل آثار زيادة سعر بيع الدولار الأمريكي من قبل البنك المركزي مع رأي تاجر المفرد الذي يخرج علينا في مقابلة تلفزيونية مع إحدى القنوات الفضائية وتظهر من خلفه أنواع بضاعة تجارته وجميعها مستوردة ، ويقول : تجارتنا قد توقفت بسبب رفع سعر الدولار لأننا كتجار مفرد نبيع بضاعتنا بالدينار العراقي بينما لا يقبل منّا تاجر الجملة غير الدولار ، وبالطبع والمعلوم أن تاجر الجملة يدفع قيمة البضاعة التي يشتريها من المستورد بالدولار أيضاً. لا شك أن تاجر المفرد وتاجر الجملة على حق في شكواهم بسبب حقيقة دورهما كوسيطين لنقل البضاعة ، سواءً أكانت مستوردة أو محلّية ، من مصادرها إلى المستهلك بعد دفع كلفة البضاعة وإضافة نسبة متعارف عليها في سوق كل بضاعة ويحققون أرباحهم فلا مصلحة لهم تتأثر بسبب تغيّر سعر الدولار غير إنخفاض الطلب العام على البضاعة المستوردة . من هنا نرى أن مصلحة مستورد البضاعة وحدها هي التي تصبح مهددة ، وهو في الظروف الراهنة أحد المحسوبين على حيتان الفساد فيلجأ بكل الوسائل إلى الوقوف ضد قرار رفع سعر بيع الدولار ونفهم سبب الضجّة الكبيرة التي أثيرت في وسائل الإعلام بإستخدام أقلام مرتزقة مأجورة و" خبراء إقتصاديين " ببغائيين يطبقون معايير درسوها في الكتب ويحاولون تطبيقها بمعزل عن مصلحة أبناء الشعب الصابر على ما حل به بسبب السياسات المالية العوجاء لحكومات ما بعد 2003 .
لا نقول أن الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة برفع سعر بيع الدولار الأمريكي من قبل البنك المركزي هو الشفاء الكامل والحل الأمثل الذي يُخرج العراق من أزمته إلاّ أنه من الواضح أن هذه الخطوة الصحيحة جدّاً على صغرها قد كشفت مدى سطوة الطبقة الفاسدة وتعنتها في الحفاظ على مكاسبها وعمق طمعها في الإستمرار في نهب أموال العراق . لقد كان أولئك الخبراء الإقتصاديون سابقاً يهاجمون سياسة البنك المركزي على بيعه الدولار الأمريكي والآن يهاجمون قرار رفع سعر بيع الدولار وهو خطوة على جزئيتها تؤدّي عمليّاً إلى تقليل كميات الدولار التي ستُباع . فما السبب يا تُرى أن تُقابل بهذا الأسلوب الشرس ليس من وسائل الإعلام فحسب بل وحتى من السياسيين الذين يُشار إليهم بالبنان بسبب فسادهم وصولاً إلى المسؤولين من جميع المستويات وأعضاء مجلس النواب ؟ إنها مصالحهم الشخصية التي أصابها الضرر !
يستند " خبراؤنا الإقتصاديون " في معارضتهم لقرار رفع سعر الدولار على ما سيخلقه من صعوبة لميزان المدفوعات أو الميزان التجاري بينما يتناسون أن ميزان المدفوعات لم يكن يوماً في يسر على الرغم من ما تعرض له ألف مليار دولار من مدخولات العراق خلال السبعة عشر عاماً الماضية من نهب وغسيل أموال ، وأن الميزان التجاري لم يكن أبداً لصالح العراق بسبب السياسة المالية الخرقاء التي إتبعتها تلك الحكومات وسهّلت الوسائل للفاسدين لتهريب العملة إلى الخارج مقابل عقود إستيراد وهمية لم يدخل منها إلى العراق شيء . لم يخطر ببال أولئك الإقتصاديين الحديث عن مدى تناسب الدخل القومي مع الناتج القومي ، فالنظام الفاسد الذي تأسس في 2003 قد جنّد جيشاً عرمرماً لا على أساس الحرفية المهنية بل على أساس المحسوبية ودمج ميليشيات أحزاب المعارضة مضافاً إليه جيش إضافي بإسم الحشد الشعبي ، كل أفراده يستلمون الرواتب والإمتيازات من خزينة الدولة وكذا ما يُدفع إلى الميليشيات غير المنضوية تحت سلطة القوات المسلحة الرسمية ونشاط جميعها لا يُعتبر نشاطاً إنتاجياً . لقد كانت شروط الدول التي إنتصرت في الحرب العالمية الثانية فرض الحظر على اليابان وألمانيا لإعادة بناء جيش لهما أحد الأسباب المركزية التي سهّلت على الدولتين نهضتهما الإقتصادية اللاحقة ، إذ توجّهت الأيدي العاملة التي كان المفروض عليها العمل في الجيش ، إلى النشاط الإنتاجي سواء في الزراعة أو الصناعة أوغيرها ، فأصبحتا من الدول ذات الشأن في الإقتصاد العالمي . مشكلة العراق تتأتى من المثل الشعبي " أعمى يگود أخرس " فالسياسيون المسيطرون على السلطة أثبتوا جهلهم في جميع الميادين عدا السرقة والنهب والإحتيال ، وأكثرية صامتة من أبناء الشعب بسبب تدنّي الوعي بما يمر به البلد على غناه الذي لا يضاهى نسبة لمعظم دول العالم الغنية . لقد كان للقوى الدولية وتدخلات القوى الإقليمية الدور الكبير في إيصال العراق إلى هذه الحالة ومن نتائجها الهجمات على الجماهير المنتفضة في تشرين عام 2019 من قبل القوى الأمنية والميليشيات الولائية وإلحاق الأذى الكبير بها وقتل المئات منهم وإصابة أو إعتقال الآلاف لردعهم وإيقاف إنتفاضتهم التي كانت سمة الوعي الذي طفح على السطح وخلق للسلطة الغاشمة هلعاً غير مسبوق .
أودّ هنا الإشارة إلى بعض الأمثلة لما يكون لرفع سعر بيع الدولار الأمريكي من تأثير :
1. تؤكّد الشروط الأمريكية المفروضة على إيران وتجارتها الخارجية والسماح الممنوح للعراق في إستيراد الطاقة الكهربائية والغاز منها على أن لا يكون الدفع بالدلار الأمريكي بل بالدينار العراقي ، فمن الواضح كم تتأثر هذه التجارة بتغيّر سعر الدولار .
2. إستيراد السيارات الفارهة ومن أحدث الموديلات مع إكسسواراتها وجميع البضائع الكمالية المستوردة المعروضة في المولات تتأثر بإرتفاع سعر بيع الدولار .
3. تتأثر تجارة المواد الإستهلاكية الضرورية مثل اللحوم الحمراء والدجاج والبيض ومنتجات الألبان والخضروات سواء الطازجة منها أو المعلّبة وذلك لإرتفاع أسعارها مع زيادة سعر بيع الدولار لكن ذلك لا يكون إلاّ لفترة قصيرة جدّاً لأن الإنتاج المحلّي ، الذي أصبح بسبب إستيراد تلك المواد غير قادر على منافستها ، سيكون في حالة أفضل وقادراً على تلبية حاجة السوق خلال فترة لا تتجاوز موسماً واحداً أو موسمين .
4. تتأثر تجارة المواد الضرورية الداخلة في الإنتاج المحلّي كالمواد الأولية والمساعدة والبذور المخصّبة والمحسنة ومواد الوقاية ومكافحة الآفات الزراعية وكذلك إستيراد المكائن والمعدات الزراعية منها والصناعية الضرورية لإستنهاض الزراعة والصناعة والبناء ، ومن هنا تأتي مسؤولية الدولة كخطوة مكملة لخطوتها الجريئة إياها بتوفير الدعم لمستوردي هذه المواد وتوفيرها لخلق النهضة المنشودة . يمكن النظر إلى قرار رفع سعر بيع الدولار الأمريكي كأحد وسائل حماية المنتج المحلّي تجاه البضائع المستوردة .
5. وجود الحشد الشعبي ليس بدعة عراقية لا مثيل لها في ممارسات الدول الأخرى ، ففي كثير من دول العالم يوجد ما يماثل الحشد الشعبي وتحت إسم جيش الإنقاذ " Salvation Army " ولكن لا تنحصر مهمة هذا الجيش بالتدريب على السلاح وكأن حرباً ستقع في اليوم التالي ، وكذلك لا يتكوّن هذا الجيش من فصائل تأتمر بأوامر تأتيها من خارج البلد بل أنها وبموجب سياسة حكيمة من الدولة يصار إلى توجيه منتسبيه إلى القطاعات الإنتاجية وبناء البنى التحتية ، ولذلك فإن واجب الحكومة تجاه منتسبي الحشد الشعبي يجب أن يكون بتحفيزهم للتحوّل إلى النشاط الإنتاجي في بناء المدارس والمستشفيات وشق الطرق وبناء البُنى التحتية في المدن حتى ولو كلّف ذلك الحكومة زيادة رواتبهم 50% أو أكثر لضمان تحقيق الغاية الإقتصادية والإجتماعية عن قبول وقناعات وليس بما يشبه الأوامر الفوقية غير المستساغة .
تعتمد قوة إقتصاد أي بلد على إنتاجية أبنائه وليس على ما يملكه من ثروات ، وعلى الحكومة العمل على الموازنة بين الدخل القومي والناتج القومي . إن السياسة الريعية التي إتبعتها حكومات العراق منذ نهاية سبعينات القرن الماضي والإعتماد الكلي في بناء ميزانية الدولة على إيرادات النفط بصورة رئيسية وفي نفس الوقت التمادي في تضخيم المصاريف التشغيلية والتوسع في التوظيف في الجيش والوظائف الحكومية قد خلق حالة من البطالة المقنعة لما تستنزفه من أموال الدولة دون تقديم أي إنتاج حقيقي وبالتالي إنحدار الإقتصاد إلى الهاوية التي وصل إليها . نعم إن رفاهية الشعب بصورة عامة تتعلّق بأن يكون سعر بيع الدولار رخيصاً ولكن ذلك لا يكون إلاّ عندما يكون الإقتصاد قويّاً ورصيناً . ففي ستينات وسبعينات القرن الماضي كان بإمكان العراقي أن يبني داراً على أرض مساحتها أكثر من خمسمائة متر مربع بخمسة آلاف دينار فقط حين كان سعر 3.337 دولارات أمريكية بدينار واحد وكان بإمكان أي عراقي متوسط الدخل أن يشتري عشرة آلاف دولار أمريكي بأقل من ثلاثة آلاف دينار ويسافر للسياحة لأن إقتصاد العراق في تلك الأيام كان رصيناً بسبب كونه منتجاً وأبناؤه يعملون في كافة الأنشطة سواء في القطاع العام أو الخاص. فالزراعة كانت مزدهرة والجمعيات الفلاحية في عون الفلاح والدولة توزّع البكابّات على الفلاحين وتوفر المكننة الزراعية والبذور المخصبة ومواد مكافحة الأوبئة والمصرف الزراعي يقدّم القروض للفلاحين بكفالة جمعياتهم للتوسع في تربية الحيوان وبناء حقول الدواجن . أما في القطاع الصناعي فبالإضافة إلى النشاط الصناعي العملاق في القطاع العام كإستخراج وتصدير الكبريت والفسفور إلى صناعة الحديد الصلب والزجاج والكيمياويات وألأدوية والسمنت والخياطة والألبان والتمور كان هناك نشاط متميّز في القطاع الخاص سواء في المنسوجات والألبان والسكاير والمشروبات الخفيفة والكحولية والزيوت النباتية والطابوق والمواد الإنشائية والتكميلية الأخرى ، بالإضافة إلى ورش التصليح للمكائن ووسائط النقل ، وكذا التوسع الهائل في بناء شبكة من الطرق السريعة التي ربطت معظم مدن العراق ببعضها وبالخارج وبناء الجسور وإنشاء المجمعات السكنية والسدود كسد الموصل وسد الثرثار وإنشاء بحيرة الثرثار وبحيرة حديثة التي تم بواسطتها السيطرة على مياه النهر وتنظيم حركة إرواء المزروعات في جنوب البلد . كل ذلك التطورّ الهائل قد حدث في فترة قصيرة لا تتجاوز العشرين عاماً حتى بدأت الإنتكاسة الكبرى في إقتصاد العراق بإستلام صدام سدة الحكم ومباشرته حروبه العشوائية و ما أعقبها من حصار إقتصادي دام إثنتي عشر عاماً ثم إكتملت حلقة التآمر على العراق بعد 2003 حتى الوقت الحاضر والتي يُراد لها الإستمرار.
إن التآمر على العراق ليس محليّاً فقط بل إقليمياً ودولياً أيضاً ومرتبط عضويّاً بحصول ثورة الرابع عشر من تموز مما أدّى إلى تكالب قوى الثورة المضادة الرجعية بجميع مكوناتها سواء القومية أو الدينية بغض النظر عن مذاهبها ، سواء كانت محلية خسرت مواقعها بسبب الثورة أو إقليمية خافت من تطاير شرارتها إلى بلدانها أو دولية إستعمارية خافت على مصالحها السياسية والعسكرية من جهة وعلى إستمرارية توريد البترول إليها من جهة ثانية. فالعراق مقصود من تلك القوى المتوحّدة في نشاطها التآمري حتى ولو أظهرت أوجهاً كاذبة للخلاف في ما بينها .
(1) https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=704834