ثقوبٌ في ثوب النظام الأمريكي


محمد عبد الشفيع عيسى
2021 / 1 / 21 - 04:34     

تشير الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من عام 2020، إلى ما يمكن أن يقال عنه مجازيا "ثقوب فى "ثوب النظام السياسي الأمريكي". ولعل من أكبر هذه الثقوب أو الثغرات المفترضة ما يتعلق بافتقاد التوازن النسبي الأمثل بين السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية، في إشارة إلى نقص الضمانات الدستورية، وبالأحرى : عدم توفر الضمانات الكافية في الواقع العملي لما دشّنه المفكر الفرنسي من القرن السابع الثامن عشر "مونتسكيو" حول "الفصل بين السلطات. و يتصل ذلك خاصة بعدم وجود "صمام الأمان" التشريعى والقضائي الضروري و الكافي، لموازنة صلاحيات الرئيس الأعلى للسلطة التنفيذية و الذي تعاونه مجرد "إدارة" لا حكومة وفق العرف السياسي الساري، كما يملك صلاحية تعيين نحو ألفين من الموظفين المدنيين خلال ولايته، يمكن أن يدينوا له و لحزبه بالولاء. و برغم تخويل الكونجرس بمقتضى الدستور الأمريكي صلاحية إقرار الموازنات المالية وسلطة إعلان الحرب، إلا أن الرئيس، إن انحرف بسلطانه السياسي الذي يخوّله الدستور له من الناحية القانونية الصرفة، فإنه يمكن أن يجلب ما يمكن أن يعتبر بمثابة "كوارث" على المستويين القومي والعالمي. ولعل من أكثر الأمثلة على ذلك وضوحا كل من الرئيسين "بوش الإبن" خلال ولايتيْه(2001-2009) و "دونالد ترامب" بولايته الوحيدة (2017-2021).
ويقول البعض إن أمريكا، و لأنها "دولة مؤسسات" بحق، فإن ذلك قد قدم حماية لأمريكا مما كان يمكن أن يقع من جرّاء (نزوات) ترامب الأخيرة حول الادّعاء بتزوير الانتخابات، وخاصة ما يتصل بدور محاكم الولايات و المحكمة الاتحادية العليا. ولكن في رأينا، مع فرض التسليم بصحة ما سبق، إلا أن المؤسسات لم تكن حاضرة بالقدر و الكيف الضروريين والكافيين لتحدّ من النزعات "المغامرة" لذلك الرئيس، و خاصة فى الأسابيع الفاصلة من ولايته، بفعل الهزات التي أحدثها ترتيبا على الادعاء بالتزوير، إضافة إلى التهديد بالعدوان العسكري على إيران. نشير أيضا إلى محاولته الأخيرة تعطيل إقرار موازنة وزارة الدفاع عن طريق إساءة استخدامه حق النقض الرئاسي للقرارت والتشريعات التي يصدرها الكونجرس وهو ما لجأ اليه تسع مرات خلال ولايته، لولا أن توفر نصاب الثلثين بمجلس الشيوخ (81 مقابل 13 صوتا) في 2-1- 2021لإفشال محاولته الأخيرة.. إلى غير ذلك مما يمكن أن يقع من مفاجآت "اللحظات الأخيرة".
هذا، وتبرز الثغرة الكبرى فى النظام السياسي الأمريكي فى حالة كون الرئيس يتمتع بأغلبية مريحة (أو بأغلبية دون وصف) فى الكونجرس ، وخاصة فى الغرفة الأولى للشيوخ، من خلال الحزب الذى ينتمى إليه هذا الرئيس، بما قد يمكّنه حتى من الاعتداء المباشر على استقلالية السلطة القضائية عبر تعيين قضاة المحكمة العليا (بعد مشورة وموافقة مجلس الشيوخ) . في هذه الحالة، وهى حالة متكررة على كل حال، يكون الرئيس قادراً على تمرير قراراته وسياساته دون أن يواجه صعوبة كبيرة فى ذلك. وفى حالة ما إذا لم يكن يتمتع بهذه الميزة فإنه قد يستطيع تمرير ما يشاء دون أن يخشى عواقب جمّة، ولعله فى بعض الأحيان يمكنه تنفيذ ما يريد دون أن يحاول الاصطدام بصخرة الكونجرس أصلاً. وقد حدث ذلك فى حالة غزو العراق عام 2003 إذ لم يلجأ "جورج بوش الابن" إلى استصدار "إعلان الحرب" من الكونجرس، وإنما استخدم صلاحياته الرئاسية فى "استخدام القوات المسلحة خارج البلاد". و بلغ الأمر حدّ استعمال جماعات مسلّحة غير منتمية للجسم الرئيسي للقوات المسلحة (مثل "بلاك ووتر") لتقوم بجولات رئيسية فى ميدان الحرب بالعراق، فى مواجهة النظام السياسي القائم، و فى مواجهة المقاومة العراقية بصفة خاصة.
أما دونالد ترامب فقد تخارج من الاتفاق النووى مع إيران، و من اتفاقية باريس للمناخ، ونقل السفارة الأمريكية فى فلسطين المحتلة إلى القدس، واتخذ قراراته الأحادية الموصوفة بسمة الهجومية فى المجال التجارى مع الصين، وغير ذلك كثير، برغم معارضة غالبية "مجلس النواب" المنتمية إلى الحزب الآخر (الديموقراطى) بفضل الاعتماد على "الأغلبية الأوتوماتيكية" فى مجلس الشيوخ .
لا يعنى هذا أن السلطة التشريعية (ذات الغرفتين) تمثل أداة طبيعة دائما فى يد الرئيس، ولعلنا نستمد الدليل على ذلك من الموقف الصارم الكونجرس إزاء الرئيس الأمريكى الأسبق نيكسون، بمناسبة إثارة ما سمّى (فضيحة ووترجيت) الخاصة باستراق السمع (التنصّت) عام 1972 على مؤتمر الحزب (الديموقراطى) فى مكاتبه داخل ذلك المبنى الذى سميت "الفضيحة" باسمه. وقد أُجبر نيكسون على الاستقالة من منصب الرئاسة في نهاية الأمر عام 1974 بعد لأْي.
ولكن الثغرة الكبرى التى كشفتها فترة الانتخابات الرئاسية الأخيرة فى الولايات المتحدة، خلال النصف الثانى من سنة 2020 بالذات، تظل تطلّ بوجهها الكالح، لتشير إلى أمر جلل يغلف اختلالات النظام السياسى الأمريكى من داخله. أما فيما يتعلق بجزئية النظام الانتخابى، فإنه يشير – بصفة دورية كل أربع سنوات – إلى خلل فادح آخر يتعلق بعورات ذلك النظام القائم على مرحلتين، مع التفارق بين ما يسمى "بالتصويت الشعبى" وبين التصويت من خلال "المجتمع الانتخابى" أو "الكليّة الانتخابية". هذا عدا عن ثغرة ماسمّى "بالولايات المتأرجحة" والتى يكون ناخبوها غير محدّدى الانتماء الحزبى فى الانتخاب حتى اللحظات الأخيرة، مما قد يسمح لها بتقرير نتيجة الانتخابات، برغم ما يشوب ذلك من توتّر سياسى عارم .
أما (العاهة الدائمة) فى النظم الدستورية القائمة على "الديموقراطية التمثيلية" فى الدول الغربية، بما فيها النظام الأمريكى، فهى تلك المتعلقة بما يمكن أن نطلق عليه "طغيان الأغلبية البسيطة"( 50% + 1 ) حيث تتمكن هذه الأغلبية الظاهرية من تمرير ما تميل به الأهواء السياسية من (قرارات مصيرية) دون معقّب، كما جرى حتى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة نفسها، التى خسر فيها ذلك المرشح الرئاسي (المشاغب) داخل "المجمّع الانتخابي" برغم حصوله على نحو 74 مليون صوت فى (الاقتراع الشعبى).
و يقولون إن النظم الدستورية الحديثة تتحوط لمثالب التمثيل النيابى، عن طريق آلية "الاستفتاء الشعبى" المباشر. ولكن الخبرات الحديثة تشير إلى أنه يمكن عن طريق استخدام آلية الإعلام الحديثة، التأثير في (اتجاهات الرأى العام) بحيث يمكن تمرير أخطر القرارات (المصيرية) فى حال الحصول على (غالبية بسيطة : 50% +1)، وهذا ما جرى فى الاستفتاء البريطانى على الخروج من الاتحاد الأوروبى (بريكست) عام 2016 على سبيل التخصيص .
ومرة أخرى، تشير حالة النظام السياسى فى بريطانيا – بمقتضى الدستور الشفاهي القائم– والذى يُقدَّم فى الدراسات المقارنة نموذجاً (مثالياً) للنظام السياسى البرلمانى، إلى ثغرة عائدة إلى الانتماءات الحزبية، وخاصة فى ظل نظام (الحزبين) الفعلىّ De facto وليس القانونى De Jure وهى الحالة فى كل من بريطانيا والولايات المتحدة إلى حد كبير. إذ يستطيع رئيس الوزراء فى بريطانيا، فى حال امتلاك حزبه للغالبية فى (مجلس العموم)، أن يمرّر ما يشاء من قرارات أو توجهات للسياسات، دون تعقيب يُخشَى منه كثيراً. وهذا ما حدث فى التصويت البرلماني الذى تم في 20 ديسمبر 2019 داخل مجلس العموم بالموافقة على (الخروج) ولو (بدون اتفاق)، وهو ما سمح لرئيس الوزراء أن يمضى فى خطته الخاصة بالخروج حتى النهاية، وكان له ما أراد ..! وقد جنّبه ذلك حرج الدعوة إلى استفتاء شعبى آخر .
بذلك يبدو لنا و كأن النظام السياسى البرلمانى (النموذجى ..!) فى بريطانيا تشتد فيه سمة (الرئاسية) عبر الزمن ليكون نظاماً (شبه رئاسى) أو لعله "شبه برلماني"؛ وفى نفس الوقت يميل النظام الرئاسي في الولايات المتحدة، الذي يُتّخَذ مثالا نموذجيا للنظام الرئاسي في الكتب المدرسية حول النظم الدستورية و "السياسات المقارنة"، إلى ما (يشبه) النظام الرئاسي بسمات سلطوية Authoritative أو شبه سلطوية. و أما النظام الرئاسي فى فرنسا، وشبه البرلماني فى ألمانيا، فلا تعوزهما الثغرات، إن سمح المقام بتفصيل .
هذا، و لكن الحركة السياسية (لعلنا نقول : الشعبية) فى الدول الأوروبية قد باتت من الضعف والتردّى لدرجة لا تسمح لها بإحداث تصحيح جذرى فى مسار الحياة السياسية والعمل الدستورى فى الدول الغربية، عن طريق تعديل فى المسار الدستورى والسياسى بما يسمح بأخذ (صوت الشعب) مأخذ الاعتبار الواجب، بدءً من وضع القيود على صلاحيات السلطة التنفيذية، مروراً واختيار النظم الانتخابية الأكثر نجاعة بما يسمح بالتمثيل البرلمانى الصحيح، وانتهاءً بتعديل آلية الاستفتاء الشعبى على المستوى القاعدي (من الجذور) بالاستفادة من النموذج السويسرى على سبيل المثال .
وأخيراً ، لا يفوتنا أن نشير إلى ثغرة و ثقب خطير، يتمثل فى النتائج المترتبة على بروز ما يسمى (جماعات المصالح) خارج الأحزاب، من الفاعليات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى المؤثرة سلباً بفعل اختلال التوازن فى توزيع الدخل والثروة في النظام الرأسمالي، عبر الزمن . ويرتبط بجماعات المصالح، النفوذ القوى لجماعات الضغط –"اللوبى"– الذى يتغلغل تفوذها ونفاذها فى صلب النظام السياسى، بما قد ينحرف بهذا النظام عن جادّة التمثيل الصحيح للإرادة العامة.
ولعل النموذج الفجّ لنفوذ جماعات الضغط المنتمية للأقلية اليهودية فى الولايات المتحدة، يقدم تأكيدأ صارخاً على ذلك، وخاصة بما تسمح به آلية تمويل الحملات الانتخابية للرئيس و أعضاء الكونجرس، وآلية العمل "للوبيّات" مع السلطتين التنفيذية والتشريعية بعد الانتخابات.
ذلك موضوع يطول الشرح فيه وكُتِب فيه عدد من الدراسات الرصينة خلال السنوات الأخيرة، وخاصة بصدد نفوذ "اللوبى اليهودى" على السياسة الخارجية الأمريكية إزاء ما يسمونها فى الإعلام الدولى (قضية الشرق الأوسط) ويقصدون بها ما يتعلق بقضايانا العربية العادلة، وفى القلب المركزى منها "القضية الفلسطينية". ولعل من أهم هذه الدراسات ماكتبه "ستيفن إمّ والت" وزميله، حول أثر اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة على السياسة الخارجية الأمريكية.