الديمقراطية الأمريكية وخطر الترامبية؟!


محمد حسن خليل
2021 / 1 / 18 - 17:46     

اجتاح المتظاهرون المؤيدون لترامب مبنى الكابيتول مقر الكونجرس يوم الأربعاء السادس من يناير عام 2021 أثناء انعقاد الكونجرس لإقرار نتيجة الانتخابات في محاولة لمنع إقرار فوز بايدن، وقاموا بمطاردة أعضاء الكونجرس، والمطالبة بشنق مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي ورئيس اجتماع الكونجرس، والدعوة لقتل نانسي بلوسي رئيسة مجلس النواب. ورغم النجاح في تحرير مبنى الكابيتول وإصرار المجلس على العودة للانعقاد وإتمام مهمته بإقرار انتخاب بايدن للرئاسة وهاريس نائب الرئيس في حوالي الرابعة فجرا إلا أن آثار هذا الحادث داخل أمريكا وفى أرجاء العالم كلها لم تتوقف.
والنغمة السائدة في الصحف الأمريكية والعالمية المنتقدة لما حدث هي التنديد بهذا التهديد الخطير (غير المسبوق، تقريبا) للديمقراطية الأمريكية والدعوة للحفاظ على الديمقراطية الأمريكية المتميزة. وبهذا فهذا النقد لا ينتقد فقط حادث الاجتياح، ولكن الرسالة المضمرة هي الدفاع عن الديمقراطية الأمريكية المثالية والإصرار على استعادتها ووأد مثل هذا العنف.
ضمن تلك التصريحات ما ورد على لسان مستشار الأمن القومي الأمريكي: "لا يوجد عنف في ديمقراطيتنا، إنها مشاهد صادمة مخزية واعتداء على الديمقراطية الأمريكية". ولكن العلاقة بين الديمقراطية والعنف ليست بالوردية كما توحى لنا مثل تلك العبارات، بالذات في بلد بدأ بالعنف وإبادة خمسين مليونا من السكان الأصليين (الهنود الحمر) ثم ثنى باستعادة العبودية والعنف ضد العبيد.
ولكن تلك الديمقراطية الأمريكية المزعومة لم يقلقها إطلاقا قمع تحركات شعبية ضخمة وعدم الاستجابة إلى مطالبها مثلما حدث عندما رفضت الاستجابة لحركة شعبية ومظاهرة مليونية للأمهات مطالبة بحظر بيع الأسلحة بدون قيود وأصر الكونجرس على الانحياز لمصلحة شركات السلاح على حساب تزايد حوادث العنف والقتل حتى في داخل المدارس. كما أن تلك الديمقراطية الزائفة اتسعت للسماح بقمع حركة المعارضين لحرب فيتنام رغم اجتياحهم الكونجرس. وأصرَّ الكونجرس على شن الحرب على العراق عام 2003 رغم مظاهرات الشعب الأمريكي في 630 مدينة أمريكية، ضد الحرب. وفى الوقت الحاضر شهد عهد ترامب اقصى عنف للشرطة ضد الزنوج والأقليات وتطورت النزعات والمنظمات الفاشية مثل "الأولاد الفخورين" proud boys وغيرهم.
إذن ما الجديد فيما حدث باقتحام الكونجرس؟ لا تعترف أغلب الصحافة الرسمية والمتحدثين الرسميين بأن العنف ضد الشعب مثل تلك الأمثلة السابقة، ولكن من المُحَّرَم عندهم استعمال العنف من داخل القوى السياسية الحاكمة في أمريكا ضد مؤسسات الحكم فهذا مما يضر بكيان وصورة الدولة المصنوعة في العالم! وكما يجرى التعتيم على حقيقة دور العنف في المجتمع الأمريكي تأتى المداراه أيضا للجذور العميقة لأسباب ما حدث من عنف عندما يعطون السبب الأساسي لشخصية ترامب.
ورغم وجود دور لشخصية ترامب فيما حدث فإنه يجب البحث عن الأسباب الأعمق فيما حدث في جذر التناقضات في المجتمع الأمريكي التي أوصلت الأمور إلى هذا النحو، فقد أيد خمسة وسبعون مليونا من الناخبين ترامب، وبالطبع ليس كلهم من مؤيدي العنف، فشعبية ترامب بعد تلك الأحداث انخفضت إلى نسبة 45% فقط بين من أعطوه أصواتهم، ولكن هؤلاء المؤيدين أيضا ليسوا بالقلة حيث يبلغون نحو أربعة وثلاثين مليونا!
جذر الأزمة في تناقضات المجتمع الأمريكي. يعيش النظام الأمريكي أزمتين مترابطتين: أولا الأزمة الاقتصادية الخاصة بالركود التضخمي منذ عام 1971 والتي تشهد موجات تصاعد مثل عام 1997 وعام 2008، وثانيا أزمة تراجع دور أمريكا عالميا اقتصاديا وسياسيا. فبعد عقدين من سياسات العولمة تمثلت الأزمة أمام الولايات المتحدة والعالم كذلك فيما أدت إليه العولمة من زيادة الفقر والبطالة وتدهور مزايا دولة الرفاه الاجتماعي وتسليع الخدمات وارتفاع أسعارها، وتزايد التمايز الاجتماعي بين أقلية شديدة الثراء وأغلبية شديدة الفقر. وعلى المستوى الخارجي برز أمام الولايات المتحدة تحدى بروز قوى عالمية جديدة بالذات روسيا والصين.
وتميزت بالذات فترة العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين بتصاعد النقد للاتجاه العولمى التقشفي السائد، من اليمين (الشعبوية) واليسار داخل إطار النظام القائم (النزعة الكينزية أو الاشتراكية الديمقراطية). وينبغي الالتفات إلى خطورة تصاعد الاتجاه الشعبوي على العالم كله وليس على نطاق الداخل الأمريكي وحده، فأصول الشعبوية هو الاتجاهات النازية والفاشية.
تسعى الشعبوية الأمريكية إلى أن يجرى تحميل مساوئ الوضع الحالي، ليس إلى سلوك الطبقة الرأسمالية الحاكمة، ولكن على المهاجرين الأجانب والأقليات السوداء واللاتينية، وكذلك للسلوكيات المرتبطة بالعولمة مثل فتح التجارة الخارجية فتدعو للسياسات الحمائية بفرض الرسوم الجمركية على السلع الأجنبية، ومثل معارضة الاتجاه إلى نقل المصانع الأمريكية للخارج في آسيا وأمريكا اللاتينية للاستفادة من عمالتها الرخيصة (نزعة نزع التصنيع أو deindustrialization)، ويهدد ترامب بفرض ضرائب على الشركات المستثمرة في الخارج لإجبارها على إعادة مصانعها للأراضي الأمريكية.
يتوافق هذا الاتجاه مع قطاع من الطبقة الحاكمة ذات الاستثمارات الأمريكية في الداخل في مواجهة الاتجاه العولمي الساعي لأعلى ربح من خلال هجرة رأس المال، ويسعى لحرف مسار السخط الشعبي إلى المسار الذي يخدم مصلحته.
ولكن بالطبع هناك دور العنصر الشخصي لترامب في ذلك المسار. إن مجيئ ترامب من داخل الطبقة الحاكمة الأمريكية ولكن من خارج المجمع الصناعي العسكري، جعل برنامجه يتعارض مع الدولة العميقة المعبرة عن المجمع الصناعي العسكري في نقاط هامة على رأسها وجود دعوات لخفض الإنفاق العسكري الأمريكي (يبلغ حاليا حوالى ثلاثة أرباع ترليون دولار) ولهدم حلف الأطلنطي. قاد النظام الأمريكي معركة تطويع كبيرة في أوائل فترة تولى ترامب تحت سيف عزل الرئيس نتيجة لما قيل حول تواطؤه مع التدخل الروسي لمحاولة إنجاحه في الانتخابات.
نجحت الدولة العميقة في فرض تغيير سياسة ترامب والعودة لزيادة الميزانية العسكرية والتخلي عن مشاريع تقليص أو حل الحلف الأطلنطي. وبالطبع يتسع النظام الأمريكي لبعض الاختلاف في السياسات بما لا يمس بالمصالح الإمبريالية العميقة للطبقة ككل. لا يتضح هذا فقط من اتساعه للاختلافات مع الاتجاه الشعبوي بعد تقليم أهم أظافرها الضارة به، ولكنه يتسع أيضا للمعارضة اليسارية من داخل النظام للاتجاه العولمي كما يتضح في مثال بيرني ساندرز وكتلته التي تضم سبعة وثلاثين عضوا بالكونجرس، والتي تدعو إلى احترام حقوق الأقليات ونبذ التمييز، كما تدعو للاشتراكية، وهي تسميته لاتجاه تدخل الدولة لضمان حقوق جماهيرية في التأمينات الاجتماعية والتعليم والصحة، أي السياسة الكينزية المعروفة باسم الاشتراكية الديمقراطية. ولجأ بايدن إلى التحالف مع هذا الاتجاه للتغلب على معارضة الشعبوية المتنامية في المجتمع الأمريكي.
ولكن بالطبع هناك بصمة شخصية ترامب على ما تلى من مسار سياسي كما تبدى في تأييد ترامب للإرهاب اليميني مثل جماعة براود بويز، كما تبدى في المحاولة الحمقاء لمنع تولى بايدن عن طريق اقتحام الكونجرس. ولعل المثال التاريخي لحادثة اقتحام الكونجرس هو ما عرف بانقلاب حانة البيرة الذى دبره هتلر عام 1923، وهو خطة خرقاء للاستيلاء على السلطة في ألمانيا تم إجهاضها والحكم بالسجن على هتلر لخمس سنوات قضى منها حوالى العام في السجن، ولم يصل إلى السلطة كما هو معروف إلا بعدها بعشر سنوات بدءا بالفوز في الانتخابات وانتهاءً بتولى منصب المستشارية وحل البوندستاج (البرلمان الألماني).
تدخلت الدولة ضد هذه الخطة الخرقاء بقوة كما تبدى في إصرار الكونجرس على استئناف الاجتماع بعد النجاح في معركة تحرير الكابيتول! ولكن هذا لا ينبغي أن يشغلنا عن أن جوهر المعركة هنا هو مستقبل الاتجاه الشعبوي ذو الأفق النازي سواء بترامب في الحزب الجمهوري أو بدونه في حال نجاح الحزب الديمقراطي في منع ترامب من ممارسة السياسة عن طريق العزل، فمستقبل الحكم في أمريكا قضية تهم العالم كله يتأثر بقوة بتصاعد مثل تلك النزعة وليس الداخل الأمريكي وحده.
18/1/2021