لنقرأ ماركس وانجلز معا 4


ثامر الصفار
2021 / 1 / 12 - 23:48     

ماركس يلتقي بالطبقة العاملة
في رسالة الى صديقه أرنولد روغه في أيلول عام 1843 يكتب ماركس «إنني أشير إلى النقد القاسي لكل ما هو موجود، نقد لا يرحم ولا يخاف من النتائج ... ولا يخاف من الصراع مع السلطات القائمة».
يعود هذا المزاج القتالي الذي نلمحه في الأسطر السابقة الى اضطراره لترك المانيا واللجوء الى فرنسا بعد ان أغلقت السلطات الألمانية الصحيفة الرينانية التي كان يعمل فيها بصفة محرر. لكنه من ناحية أخرى كان سعيدا بزواجه من جيني ويستفالن، بعد قصة حب طويلة، وهما الآن بانتظار طفلهما الأول.
خلال الصيف كتب ماركس سلسلة من الرسائل والمقالات قاطعا بها صلاته بأرباب عمله الليبراليين السابقين، ومقيمّا بقايا الحركة الهيغلية الشابة. وبحلول نهاية العام، سيخضع تفكيره لتحول جذري.
على أثر موجة القمع التي قامت بها السلطات الألمانية، وخيبة امل الهيغليون الشباب في إجراء أية إصلاحات، بدأ الأخيرون بتسليط نقدهم على الدين باعتباره أصل كل الشرور. حتى نجد لودفيغ فيورباخ يجادل في كتابه جوهر المسيحية، بأن الله كان «اختراعا للإنسان».
ذهب ماركس في الاتجاه المعاكس (كما فعل آخرون مثل فريدريك إنجلز وميخائيل باكونين)، حيث جادل بأن الفلسفة وحدها لا تملك القدرة على تغيير العالم. فقط العمل السياسي القائم على تبني المظالم الاقتصادية والاجتماعية لأناس حقيقيين هو الذي يمهد الطريق نحو الثورة.
في مقال كتبه عام 1843 بعنوان حول المسألة اليهودية هاجم ماركس صديقه الهيغلي الشاب برونو باور، بسبب معارضة الأخير توسيع الحقوق المدنية لليهود في ألمانيا. فقد أدى نبذ باور لكل الأديان إلى تجاهله السؤال الملموس المتمثل في التمييز ضد اليهود من قبل الدولة المسيحية في ألمانيا. يكتب ماركس: إن باور «يطالب ... بأن يتخلى اليهودي عن يهوديته، وأن تتخلى البشرية بشكل عام عن الدين، من أجل تحقيق الانعتاق المدني». وكتب أيضا: ان «الانعتاق السياسي، بالطبع، خطوة كبيرة إلى الأمام». بمعنى، حتى لو لم يؤد الفوز بالحقوق المدنية لليهود في ألمانيا الى القضاء على جميع أشكال التمييز، فإن ذلك ليس سببا للتقليل من أهمية الفوز بإصلاحات جزئية.
ثم يكتب محذرا من أنه «لا ينبغي لأحد أن يتوهم حدود الانعتاق السياسي». وهذا يعني أنه حتى لو فزنا بحقوق مدنية محدودة، أو حريات محدودة، سيتم التضييق عليها، عاجلا أم آجلا، بسبب حالة عدم المساواة المتأصلة في أي نظام قائم على الملكية الخاصة، وسيجد هذا النظام مجموعات جديدة لقمعها وطرقا جديدة لوأدها.
نلاحظ هنا، مسعى ماركس لشرح العلاقة بين النضال من أجل إصلاحات جزئية وصولا الى تغيير النظام بأكمله. وهي معالجة جديدة تختلف عن معالجات معظم معاصريه. كان يطمح في هذا المقال الى تأكيد حجته بإن اليهود والمسيحيين بحاجة إلى النظر إلى ما وراء الدين، إلى نظام الملكية الخاصة ليدركوا سبب معاناتهم في هذا العالم.
لمعرفة المزيد عن أوضاع اليهود في المانيا انظر كارل ماركس وولادة المجتمع الحديث، دار المدى 2020.
في مقال آخر، كتبه بعد حول المسألة اليهودية مباشرة، وهو مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل، المقدمة، فتح ماركس أفقا جديدا، حيث يشير الفيلسوف الفرنسي ميشيل لوي الى أهمية هذا العمل قائلا: «لقد وصلت رحلة ماركس الشاب إلى نهايتها. فقد تحولت الفلسفة النقدية، التي لم تعد تعتبر نفسها غاية في حد ذاتها، إلى ممارسة ... وكان للبروليتاريا الفرنسية دورا حاسما في هذا التطور». فبماذا تختلف المقدمة عما سبقها من كتابات لماركس؟
بداية، يقلب ماركس الإيمان الهيغلي بأن التاريخ وكل نشاط بشري هو مجرد إسقاط لعملية أن يصبح الله أو الروح مدركا لذاته. ثم يسير على خطى فيورباخ ليكتب: أن «الإنسان يخلق الدين، أما الدين فلا يخلق الإنسان». بعدها نجده يدلي بواحد من أشهر تصريحاته «ان التشوه الديني هو في الوقت نفسه تعبير عن التشوه الفعلي واحتجاج على هذا التشوه الفعلي. ان الدين إنما هو زفرة الخليقة المضطهدة، قلب عالم عديم القلب مثلما هو روح النظم عديمة الروح. الدين هو أفيون الشعوب».
وبعيدا عن كل التفسيرات الخاطئة لهذه الأسطر، كان ماركس يشرح أن الدين ليس ظاهرة لا أساس لها أو حمقاء. بل هو «احتجاج على التشوه الفعلي» الذي يضرب جذوره في الظروف الاجتماعية. طالب ماركس بأن يتحول «نقد الدين إلى نقد للحق [القانون]، ونقد اللاهوت إلى نقد للسياسة». كان هدفه الحقيقي هو تحرير الشباب الهيغليين من هوسهم الأحادي الجانب بالمناقشات اللاهوتية والفلسفية المجردة.
فالأفكار وحدها لن تطيح بالأرستقراطية الألمانية وبشرطتها ورقابتها، فيكتب: «ان سلاح النقد لا يستطيع بالطبع أن يحل محل نقد السلاح، يجب الإطاحة بالقوة المادية بقوة مادية؛ لكن النظرية تصبح أيضا قوة مادية ما ان تستحوذ على الجماهير».
هذا المقطع مهم جدا وعلينا فهمه. ماركس كان محبطا بسبب عجز الحركة الليبرالية في ألمانيا عن الدفاع عن نفسها أمام قمع الدولة ورقابتها، لهذا توصل الى ضرورة وجود «قوة مادية»، أي حركة اجتماعية قوية، للإطاحة بالقوة المادية للنظام، وضرورة وجود نظرية يمكن ان تصبح قوة إذا ما استحوذ عليها عدد كافٍ من الناس.
فما نوع هذه القوة؟ خصوصا وان ماركس الآن يعيش في باريس المكتظة بالطبقة العاملة، والنوادي السياسية المنظمة. يأتي الجواب: «في تكوين طبقة مقيدة بسلاسل راديكالية، طبقة من طبقات المجتمع المدني، طبقة [طبقة من الناس] هي في حل من جميع الممتلكات، طبقة ذات طابع عالمي بفعل معاناتها العالمية ... [طبقة] لا تستطيع أن تحرر نفسها دون أن تحرر نفسها من جميع مجالات المجتمع الأخرى.... طبقة خاصة هي البروليتاريا». هذه هي «القوة المادية» التي كان يبحث عنها ووجدها بعد ان نظر الى قاع المجتمع، الى أولئك الذين لا يملكون سوى قيودهم.
لقد وضع ماركس في هاتين المقالتين بعضا من أهم اللبنات الأساسية لنظريته عن الانعتاق البشري: إن أمراض المجتمع متجذرة في الملكية الخاصة؛ يجب أن يتحول نقد الدين الى عمل سياسي ملموس يهدف إلى تغيير الظروف الاجتماعية، ولا يمكن للأفكار الثورية أن تفوز إلا إذا تجسدت في «قوة مادية»، والبروليتاريا، شغيلة اليد والفكر، هي الطبقة التي يمكن أن تقود هذا التحول.