أميركا .. والشيوعية (5)


فؤاد النمري
2021 / 1 / 9 - 19:51     

أميركا .. والشيوعية (5)

في الثامن عشر من ابريل 45 كتب ستالين رسالة إلى ونستون تشيرتشل يقول فيها (I am deepIy afflicted by the loss of president Franklin Roosevelt as being the unswerving friend to the Soviet people)
أي أن ستالين كان شديد الألم لفقدان الرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت الصديق الصدوق للشعوب السوفياتية . ليس من عادة ستالين أن يكشف عن مشاعره بصورة فاضحة مثل التعبير عن ألمه العميق لفقدان صديق الشعوب السوفياتية الصدوق فرانكلن روزفلت لولا أن هناك أمراً جللاً يتجاوز فقدان روزفلت . الجلل هو خلافة ترومان لروزفلت ؛ استبدال صديق الاتحاد السوفياتي الصدوق فرانكلن روزفلت بأعدى أعداء الاتحاد السوفياتي هاري تومان .
حدس ستالين لم يخطئ على الإطلاق، فمنذ اليوم الأول الذي سلمت فيه غائلة الموت كرسي الرئاسة الأميركية لمجر م الحرب عدو الإنسانية (misanthropist) هاري ترومان سارع هذا المجرم إلى نسف كل نهج روزفلت السلمي والإنساني واستبداله بنهج عدواني آثم أشبه بنهج هتلر . كان تروماىن أكثر غباء وكرهاً للإنسانية من هتلر ليتعظ بمصيره أو حتى من عجزه العسكري الفاضح في مواجهة اليابان رغم استخدامه للسلاح النووي إلا أنه مع ذلك أرسى نهجاً سياسياً معادياً يقوم على تخصيص كل مقدرات أميركا لمقاومة الشيوعية – تلك هي مدرسة هتلر، ترومان أكمل بحق رسالة هتلر !
وكأنه من طبائع الأمور أن يخلف القادة العظام خلفاء صغار بائسون، فخلف رجل السلام والديموقراطية فرانكلن روزفلت، أعظم الرؤساء الأميركيين، هاري ترمان الذي لن ينسى التاريخ إنحطاطه غير الآدمي وقد دمر مدينتين مدنيتين هيروشيما وناغازاكي بقنبلتين ذريتين دون دواعٍ حربية لازمة ؛ وخلف القائد البولشفي الأعظم يوسف ستالين الموسوعي بشهادة تشيرتشل رجل مثال في الغباء هو نيكيتا خروشتشوف العدو الفعلي للشيوعية ؛ وخلف القائد الأعظم لحركة التحرر الوطني العالمية جمال عبد الناصر رجل وصولي وانتهازي خؤون هو أنور السادات .
لئن كان روزفلت أعظم رؤساء أميركا بنوازعه السلمية والديموبقراطية فقد جاء خليفته ترومان أسوأ رؤساء أميركا بنوازعه الحربية والعدوانية . اتفق روزفلت وستالين في مؤتمر يالطا في 25 فبراير 45 أن يساعد الإتحاد السوفياتي الولايات المتحدة في حربها على اليابان وسيمنح روزفلت الإتحاد السوفياتي 10 مليارات دولار كمساعدة في إعادة إعمار ما دمرته الحرب . توفي روزفلت في 12 ابريل وخلفه ترومان . وبعد انتهاء الحرب وعقد معاهدة بوتسدام للتسوية في نهاية بوليو حينذاك نجح الأميركان في تفجير أول قنبلة ذرية في التاريخ فأحسّ ترومان أن بإمكانه أن ينتصر على اليابان دون حاجته للمساعدة السوفياتية . إذاك اقترف جريمة قصف مدينة هيروشيما اليابانية بالقنبلة الذر ية في السادس من أوغست وانتظر ترومان المتوحش 72 ساعة استسلام اليابان، ولما لم تستسلم أمر بقصف مدينة ناغازاكي بالقنبلة الذرية الثانية في 9 أوغست لكن اليابان لم تستسلم وحاربت أميركا حتى الثاني من سبتمبر وما كانت لتستسلم آنذاك لولا أن الاتحاد السوفياتي هاجمها بقوى باطشة قتل خلال عشرين يوما فقط (10 – 30 أوغست) أكثر من مليون جندي ياباني واحتل الجزر الشمالية لليابان . الإتحاد السوفياتي هو من سلّم اليابان المهزومة للقوات الأميركية قبل أن يكون لهذه القوات جندي على التراب الياباني وكان ذلك تطبيقاً لاتفاق روزفلت – ستالين .
كل ذلك لم يجدِ مع عدو الشعوب ترومان ومنها شعب الولايات المتحدة نفسه فأرسى منذ اليوم الأول لولايته سياسة الحرب على الشيوعية وتكريس كل مقدرات أميركا للحرب على الشيوعية الأمر الذي قضى بحرمان الشعب الأميركي من عوائد عمله . فمن قال لترومان أن الشعب الأميركي يجهد ليلاً نهاراً في مؤسسات الإنتاج ليقاوم الشيوعية !؟ بل إن راية مقاومة الشيوعية يقرؤها رافعوها على أنها الدفاع عن النظام الرأسمالي وحمايته لكن العكس هو الصحيح فالنظام الرأسمالي يعمل أولاً وأخيراً من أجل الإغتناء بفائض القيمة لكن ترومان قرر أن يستنفذ مجمل فائض القيمة الوطني في مقاومة الشيوعية ويبقى الرأسماليون على الحصيرة بلا فائضٍ للقيمة الأمر الذي انتهى بهم إلى الإنهيار في العام 1971 .

ما إن سلّم الإتحاد السوفياتي اليابان المهزومة للإدارة الأميركية قبل أن يكون لها جندي واحد على أرض اليابان في الثاني من سبتمبر 45 حسب اتفاق ستالين – روزفلت حتى شرع ترومان يلح على الإتحاد السوفياتي بإعادة جميع الأجهزة والمعدات المعارة أو المأجورة لديه ودفع أجورها . ومثالاً للحقد والإنحطاط لترومان شبيه الآدميين كانت السفن المستعادة تحرق تماما حال عبورها الحدود البحرية السوفياتية، كما تم تحطيم مئات من عربات الشحن الكبيرة حال عبورها الحدود البرية السوفياتية . ستالين قام بما وعد به صديقه روزفلت وهزم اليابان لحساب الولايات المتحدة لكن ترومان لم يفِ بوعد روزفلت بمساعدة الإتحاد السوفياتي بعشر مليارات دولار وحسب بل حولها إلى مشروع مارشال لمقاومة الشيوعية في العام 47 وزاد عليها فانفق 12.5 ملياراً لمقاومة الشيوعية في دول غرب أوروبا حيث أخذت شعوبه تميل لصالح الإشتراكية السوفياتية . وفي العام 47 شكل ترومان وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) في التجسس على الشيوعيين وحبس أنفاسهم وقد تركت هذه الوكالة بصمات قذرة في مختلف دوائر الفكر والثقافة في أميركا . المكارثية (McCarthysim) 1949 – 54 وهي صفحة العار في تاريخ أميركا لم تكن في حقيقتها غير بنية ترومانية كان من تداعياتها جريمة إعدام الزوجين المحبين جوليوس وإثيل روزنبورغ في 19 يونيو 1953 وقد أثار إعدامهما ضجة عالمية وما زال الشعب في أميركا يحتفي بذكراهما . ما هو جدير بالملاحظة في مثل هذا المقام هو أن الرأسماليين أقل عداء للشيوعية من "الإشتراكيين الديموقراطيين" وللدلالة على ذلك فإن ونستون تشيرتشل في خطابه عن الستار الحديدي في العام 46 أمام الرئيس ترومان في مدينة فولتون لم يطالب ترومان بغير تحالف ثقافي أنجلو سكسوني في وجه الحضارة السلافية التي يحملها المشروع الشيوعي . غير أن ترومان لم يرَ في التحالف الذي يدعو إليه تشيرتشل غير تحالف الضعفاء وهو يريد تحالف الأقوياء العدواني المسلح، ووجد ضالته في حزب العمال البريطاني وقد صوت له الإنجليز كيسار استحساناً لدور الاتحاد السوفياتي في الحرب دون أن يعلموا أن وزير خارجية الحكومة العمالية إرنست بفن (Ernest Bevin) ليس إلا عميلاً مأجوراً للمخابرات الأميركية . في ابريل 49 أعلن تشكيل حلف شمال الأطلسي المعادي للشيوعية . إذّاك رد ستالين على تحالف الأطلسي ساخراً منه ومستهيناً به إذ قال .. "لن نحاربكم لكننا سنتغلب عليكم بالمنافسة السلمية" .

الحملة الصليبية في الحرب على الشيوعية تركت الرأسمالية الأميركية بلا رأسمالية أي بدون فائض القيمة العام الذي كان يستهلك في الحرب على الشيوعية وهو ما إقتضى فيما اقتضى نقل الإنتاج البضاعي إلى بلدان شرق آسيا مثل النمور الستة التي كانت تضج بالثورة الشيوعية فكان أن انتهى النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة عرين ترومان وكان إفلاسها في العام 1971 حين عجزت عن توفير الغطاء لنقودها وفقدت بذلك أهم شروط سيادتها الوطنية . في العام 1961 حاول الرئيس جون كندي (John Kennedy) مساءلة جدوى السياسة الترومانية فدبر مكتب التحقيقات الفدرالي اغتياله وألحقه باغتيال أخيه روبرت لذات الشأن . في العام 1969 وصل ريتشارد نكسون كرسي الرئاسة تحت شعار وقف الحرب في فيتنام فوجد خزائن المال مفرغة تماما فما كان منه غير الإرتداد على نهج ترومان من أجل إنقاذ بعضاً من السيادة الأميركية فاعترف بالصين وزارها ليشتري بضائعها بالدولار المتهاوي . وما يلزم التأكيد عليه في هذا السياق هو أن الفضل لما تتمتع به الولايات المتحدة اليوم من نفوذ يعود لنكسون واتفاقه مع خصم ماوتسي تونغ وهو دينغ هيساو بنغ على أن تنتج الصين مهما أنتجت من بضاعة وستبادلها الولايات المتحدة بالدولار بأفضل الشروط . ومد نكسون جسور الصداقة مع الاتحاد السوفياتي وزار موسكو ثلاث مرات في عامي 72 و 73 يحمل في كل منها سيارة فاخرة لصديقه ليونيد بريجينيف . وهكذا انتهت حملة ترومان المسعورة ضد الشيوعية إلى صداقة الولايات المتحدة مع قطبي الشيوعية الاتحاد السوفياتي والصين .
عبر التحقيقات المكثفة في أسباب إنهيار الاتحاد السوفياتي برزت حقيقة لا مراء فيها وهي أن حملة ترومان ضد الشيوعية أطالت من عمر الاتحاد السوفياتي وبدل أن ينهار في السبعينيات تأخر انهياره حتى التسعينيات .
انهار الاتحاد السوفياتي لأنه كان أقوى دولة في العالم وهو ما سنبحثه في الحلقة القادمة .

(يتبع)