الله .. في الفلسفة (1)


محمد دوير
2021 / 1 / 6 - 17:40     

هذا البحث .. إهداء: إلي الرفيقة شيماء الصباغ (شهيدة الثورة المصرية) في عيد ميلادها 8 يناير 1984
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقدمة :
ــــــــــ
ما الذي يجعل من"الله" موضوعا فلسفيا، وهو بالأساس قضية متعلقة في أذهان الجميع بالديانات؟ والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تبدو بالنسبة لي صعبة، لأنني أكاد اعتقد أن عملية الفصل التي تمت بين الفلسفة والدين والعلم، إنما خلخلت معها عملية الفهم لموضوع " الله " كأحد الموضوعات التي شغلت العقل الإنساني بشكل عام. وكأننا أمام اتفاق مسبق بتقسيم العمل بين تلك النشاطات الإنسانية الثلاثة " الفلسفة والدين والعلم" لينشغل كل نشاط منهم باحدي القضايا الثلاث المركزية في التاريخ البشري بشكل عام، وأعني بهم"الله– العالم–الإنسان" فاختص الدين بموضوع" الله" وانشغل العلم بموضوع " العالم/ الطبيعة"، وتمحورت الفلسفة حول موضوع"الإنسان". وبشكل مبدئي يبدو لي هذا الفصل تعسفيا. ولست اعني بالتعسف هنا أن ثمة إلزاما قانونيا يمنح الفلسفة الحق في مناقشة موضوع " الله "،بقدر ما أعني أن ذلك المنطق العقلاني الذي به يعقل الإنسان الكون هو نفسه المنطق الذي به يعقل الإنسان وجوده وتفاعلاته في الحياة، وهو أيضا نفس المنطق الذي يجعل من " الله" موضوعا إنسانيا بجدارة، بغض النظر عن الدفع باتجاه عدم قدرة العقل الإنساني علي فهم الطبيعة الإلهية – كما يذهب بعض الفلاسفة -. فما أدافع عنه هنا ليس القدرة علي الفهم، ولكن الحق في البحث عن الفهم، الفهم الإنساني لقضية الألوهية.

.. ومن هذا المنطلق يبدو لي أنه إذا كان من حق الفلسفة البحث في الإنسان: قيمه، تصوراته، مفاهيمه..الخ، فأتصور أن هذا الحق يؤدي بالضرورة إلي مناقشة مصدر تلك القيم" الحق والخير والجمال " أو علتها، ذلك أن دراسة المعلولات في ظل غياب دراسة العلل، أو العكس، لابد وأن يؤدي إلي نتائج غير موفقة. ومن ثم لم تكن قضية" الله " مجرد مغامرة نظرية يلتمس منها الفلاسفة استكمال معمارهم الفلسفي، بل هي بلا شك ظلت قضية مركزية وحيوية ومنظور حاسم في التكوينات المعرفية لدي معظم– إن لم يكن كل– الفلاسفة. إن الله كان حاضرا- حضور سلبي أو إيجابي– بحيث يمكن القول أنه لا توجد فلسفة خرجت عن طرح القضية بصورة ما أو بآخري.

إن "الله" كموضوع ظل قضية مطروحة للجدال والبحث علي مستوي دقيق من المناقشة والبحث في الإنتاج الفلسفي منذ القرن السادس قبل السادس وحتي اليوم، لأن القضية كانت تشكل تحديا كبيرا أمام الفلاسفة في مواجهة تراث عميق ومؤثر من الأساطير والتصورات والمفاهيم حول أصل الكون ونشأته، وإن اتخذت التساؤلات الفلسفية حول" الله" طابعا حضاريا متوافقا مع مستوي التطور الاجتماعي والثقافي والعلمي؛ فمساحات التأمل النظري المستند علي قدرة العقل علي الاستنتاج كانت سمة من سمات الفلسفة الإغريقية منذ طاليس وحتي تلاميذ أرسطو، فيما نضجت التساؤلات بعد ذلك عندما تم تغذية الأفكار الفلسفية بنظرية العلم الحديث، أي حينما استطاع الإنسان امتلاك رؤي تقريبية للنظام الكوني.

ومنذ أن سعي كل من أفلاطون وأرسطو إلي تأطير الفضاء الفلسفي وحسم قضاياه المختلفة في مباحث محددة؛ احتلت قضية الوجود والألوهية مكانة مركزية ومهمة كمبحث يقف علي قمة حالة التفلسف بشكل عام، وتمت تصفية الأفكار الفلسفية ومقولات الفكر المتعلقة بأصل الكون ومعني الوجود وحقيقة الله، عبر جدال واسع وحوار ممتد أغلق بموجبه سقراط ومن بعده أفلاطون وأرسطو فكرة التنوع الفلسفي والحق في التأويل - إلي أن جاء فلاسفة أمثال فرنسيس بيكون وهيوم ..الخ لتفكيك الخطاب الأرسطي ونقده- وأصبحت الفلسفة أكثر وضوحا وتحديدا ولكنها أقل تنوعا وثراء.لقد مارس سقراط بنهجه المستمر دورا غاية في الأهمية بقدرته علي توجيه مسار الوعي الفلسفي نحو حجية اللوغوس ومركزية الإنسان.

ومع انتشار المسيحية في أوربا وتأسيس اللاهوت الديني، تلاقحت الفلسفة مع الدين، وجري توظيف الفكر اليوناني وخاصة فلسفة أرسطو لإضفاء مزيد من العقلانية علي النظرية المسيحية حول الإنسان ومسار البشرية وحدود العلاقة بين الجزئي والكلي،واكتسبت قصة الخلق وصفات الخالق وسماته صورا أكثر وضوحا وتحديدا،ومستوي الوضوح والدقة هنا ليس مرجعه العقل الإنساني حينما يتأمل الكون، بل الوحي الذي سلَّم الجميع بمقولاته كجزء من الإيمان بحقوق الإله علي البشر. ومع انتشار الأديان الرئيسية بسرعات مدهشة،استقرت صورة الإله في شكل ثابت– باختلافات مذهبية بسيطة- ومواصفات محددة، فصار بالإمكان طرح المسألة الميتافيزيقية بصورة أكثر دقة، لذلك سنلاحظ أن موضوع الله كإشكالية وجودية وقضية معرفية لم تجد مقاومة كبيرة في مرحلة العصور الوسطي، فقد تم تشويه الفلسفة الإغريقية في مرحلتها الأولي– ما قبل سقراط - ، وتوظيف الفلسفة الإغريقية في مرحلتها الثانية – ما بعد سقراط - وتحول الفكر الإغريقي إلي تراث إنساني بعيدا عن المساهمة في الإنتاج الثقافي بعد أن احتل اللاهوت المسيحي مكانة الفلسفة بكل ما تحمله كلمة"الفلسفة" من معاني التحرر العقلي والجدل الفكري والتفسيرات المنطقية.

إن الإسهام الإغريقي وبرنامج اللاهوت المسيحي لم يكونا من الكفاية والبرهنة علي حسم القضية والإشكالية بحيث ترسخ المفاهيم التي دونت عن أصل الكون ودور" الخالق " في مسارات هذا الكون، فلم يتوقف البحث العقلي عن إعادة طرح السؤال القديم الجديد، ما "الله" ؟ وهل هو قابل للمعرفة والوعي به أم أن ذلك فوق قدراتنا العقلية ؟ وهل الوحي وما يقوله عن الله كاف لحسم القضية أم أن ثمة رأي أخر يجب أن يقال ؟ تلك التساؤلات كانت تطل من شرفة الحداثة المبكرة ابتداء من القرن الرابع عشر عبر الحركة الإنسانية ثم بعد ذلك عبر مقامات الحداثة وعتباتها المتلاحقة في الصعود، من أجل إعادة النظر في القضية مرة أخري، ولكن وفقا لمكتسبات العقل الحديث الذي كان في طور التشكل والتجديد. بمعني أن القضية اكتسبت دلالات متجددة دائما مع اكتساب الإنسان معارف جديدة سواء في العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية، وهذا ما يؤكد علي أن الحضور الإلهي كان متصلا من حيث الرؤية والوضوح بالحضور الإنساني من حيث شيوع العقلانية والتجريبية كمذاهب فلسفية كبري رسمت ملامح العصر الحديث.

إن الصورة الذهنية عن" الله" وإن ظلت في الحد العام لها واحدة باعتباره" الخالق والمحرك "؛ إلا أنها اكتسبت مضامين جديدة وبراهين متنوعة بين الوجود والعدم مع كل تقدم علمي أو تطور فلسفي،أي أن الإشكال المعرفي "لله"، خضع للوعي الإنساني،وبهذا المعني يمكن أن نفهم كيف أن الله كـ" ذات" تحول إلي"موضوع " للعقل ،مثلما كانت الطبيعة ذاتا فصارت موضوعا عندما اشتبك معها الإنسان لترويضها.

وبناء عليه، فإن دراسة وتتبع التاريخ الفلسفي في سعيه لمناقشة موضوع"الله" يكشف عن مساحات تتسع وتضيق بحسب الظرف التاريخي نفسه، فالقضية منذ أن طرحت علي طاولة النقاش في الرواق الفلسفي وهي تمثل مشكلة كبري، وكانت مسار مناقشات واسعة وجدل لم يتوقف، أدي في بعض مراحله إلي أزمات عنيفة وصراعات دموية أحيانا، فوصل إلي مستويات تبدو مفارقة لأدبيات البحث العلمي وقواعد الحوار الفلسفي، إذ وصف أفلاطون أفكار هيرقليطس حول تلك القضية وغيرها بأنها متهافتة،وفعل أرسطو نفس الشيء تقريبا مع السوفسطائيين، كذلك انشغل ديكارت في بداياته الفلسفية بنقد ونقض كل تجارب الفكر المادية التي تمحورت حول إنكار الألوهية، وربما كانت بعض دوافع هيجل الفلسفية أيضا تنحو باتجاه مواجهة النزعة الفردية ذات السمات المتناقضة مع مواصفات"المطلق" وقدرته، ناهيك عن الصعوبات التي واجهها فلاسفة الاتجاه المادي في القرن الثامن عشر.

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المضمار، وهل تنغلق القضية علي النشاط الفلسفي فحسب ؟ الحقيقة أن هذا ما فكرت فيه قبيل الكتابة مباشرة، وماذا عن" الله" في الأسطورة ؟ وماذا عن" الله" في اللاهوت ؟ كان من الضروري - وفقا لأمانة البحث العلمي وحرصا علي اكتمال الموضوع- مناقشة القضية علي هذين المحورين أيضا، ليكتمل التصور ويستقيم البنيان،ولكنني من غير أهل الاختصاص في المجالين السابقين"الأسطورة واللاهوت"، ولذلك فإنني أتمني أن يتقدم احد الباحثين لطرح رؤيته حول هذه الموضوعات الثلاثة لتعم الفائدة علي الجميع.

يبقي أن أذكِّر بنقطة تبدو شكلية، وهي استخدام لفظة"الله" في هذا البحث،وللحق أقول أن هذا اللفظ برسمه وطاقته اللغوية ليس هو التعبير الدقيق عن المقصود، ولكنه التعبير الشامل الذي يفهم منه بطبيعة الحال جميع الأسماء التي أطلقها الفلاسفة علي "الخالق" سواء كان الرب/ المحرك الأول/ منظم الكون/ المطلق/ اللامتناهي ...الخ.. فإذا كان اللفظ غير دقيق علي مستوي علمية البحث، فهو– علي الأقل– يفي بالغرض من حيث الدلالة.

سؤال أخر، كيف سنتناول تلك القضية، "الله" في الفلسفة ؟ ثمة أساليب متعددة في تناول الموضوع، منها التناول التاريخي والوصفي، بما يحمله من دلالات معرفية تكشف لنا عن عدة أمور أهمها أن القضية ظلت مطروحة علي مسرح الفكر، ربما إلي وقتنا هذا. ومنها المنهج التحليلي النقدي والذي يستند إلي ذلك الحوار الجدلي الذي دار بين الفلاسفة بعضهم البعض، أو داخل كل مدرسة فلسفية من بين المشايعين لهذا الفيلسوف أو ذاك، ولا ينبغي أيضا تجاهل ذلك الصراع- ليس الجدل فحسب– بين الفلاسفة واللاهوتيين سواء كانوا فلاسفة ملحدين أو مؤمنين، فقد ظل اللاهوت يتحفظ بقدر ما علي تساؤلات الفلاسفة الدينية بشكل عام والمتعلقة بـ "الله" كقضية فلسفية بشكل خاص.وبناء عليه سيأتي الطرح متضمنا أكثر من منهج، وإن غلبت عليه روح التأريخ والوصف، بمعني أخر، إنني لا أقصد أبدا تقديم عرض تشريحي للحجج التي قدمها كل فيلسوف، أو أن استعرض نظريته كاملة، فهذا يدفع البحث في الاتجاه غير المحدد له، ولكنني سأُبقي علي حدود الموضوع في ظل ثلاثة تساؤلات:
1- هل ظل الله موجودا كموضوع معرفي في الفكر الفلسفي ؟
2- وهل حدث نموا في الوعي المعرفي به بحيث يمكن القول بأن العقل قدم من البراهين ما يفوق اللاهوت والكتب المقدسة ؟
3- ثم..هل مناقشة موضوع الله، جاء في صالح الإيمان أم الإلحاد ؟
بناء عليه، تتضمن الدراسة عدة محاور سوف نطرحها علي عدة أجزاء متعاقبة، حيث نطرح في المحور الأول إشكالية الوجود و"الواجد" في المرحلة الأولي من الفكر الفلسفي الإغريقي، واعني تحديدا لدي المدارس الفلسفية مثل الأيونية والفيثاغورية والإيلية والذرية والسوفسطائية، ثم نتناول المسار المنهجي وموقفه من المحرك الأول في مثلث الفلسفة اليونانية الأشهر " سقراط ، أفلاطون، أرسطو " في المحور الثاني. أما المحور الثالث فيناقش أعادة إحياء الأفكار الفلسفية ذات الصلة بـ " الله " كإشكالية وجودية، ومنه ننطلق في المحور الرابع نحو التأسيس الثاني للمثالية الأوربية الحديثة علي يد ديكارت وتلاميذه، ثم نعرض في المحور الخامس للأفكار المادية التي انبثقت في القرن الثامن عشر تحت تأثير تطور الفكر العلمي، أما المحور السادس فنناقش فيه أفكار كانط وهيجل ونيتشه وآخرين، ثم ننتهي في المحور السابع إلي قراءة تحليلية تحاول الإجابة من جديد علي تساؤلات البحث.