معاناةُ مَن في رفعِ سعرِ الدولار ؟


ييلماز جاويد
2021 / 1 / 6 - 14:17     

تحديد سعر بيع الدولار موضوع يتعلق بالسياسة المالية للدولة ، أي الحكومة العراقية ، ولو أن المتعارف عليه أن يكون من مهام البنك المركزي . الدولار المودع في البنك المركزي والوارد من بيع النفط أو أي مصدر آخر هو ملك الدولة وليس ملك البنك المركزي ، وبالتالي أودّ الردّ على اللغط الذي يثيره الكثير من " الخبراء الإقتصاديين " حول ما يسمّونه تدخّل وزير المالية بمهام البنك المركزي ، إذ الأصل دائماً : أن مالك البضاعة صاحب الحق في تحديد سعر بيعها .
تناول الكتاب والخبراء الإقتصاديون والسياسيون قرار الحكومة برفع سعر بيع الدولار الأمريكي من 1190 ديناراً للدولار الواحد إلى 1460 ديناراً. وكانت خلاصة الحجج التي إستندوا عليها في تحليلهم والوصول إلى الرأي الذي أبدوه هو " أثر القرارعلى مصلحة المواطن . " !
لم يُعرّف أي كاتب أو خبير أو سياسي ما المقصود ب " المواطن " !
أنا لا أعوّل على رأي خبير أوسياسي سواء كان موظفاً بوظيفة مدير عام أو مستشاراً أو كان نائباً في البرلمان أو أي كاتب يكتب لقاء ثمن لأن هؤلاء قد توفرت لهم أسباب الحياة المرفهة فلا يجدون في المواطن إلاّ مَن تتشابه ظروف حياته معهم ؛ ثلاث وجبات غنية في اليوم لا تنقصها الفواكه المستوردة و لا المشروبات الكحولية أو الذهاب إلى المطاعم الفاخرة التي تكلّف وجبة النفر الواحد ثلاثين ألف دينار أو ربما أكثر ، تسوّق أرقى الملابس المستوردة من المولات للعديد من المرات في السنة ، السفر إلى خارج البلد للسياحة أو زيارة الأهل ، دفع تكاليف دراسة أولادهم خارج البلد أو تكاليف معيشة عوائل مزدوجي الجنسية منهم . هؤلاء هم الذي يحتاجون الدولار ويرغبون أن يكون سعره رخيصاً . نعم هؤلاء هم أيضاً مواطنون ، وأنا لا أنكر ذلك و لا أبخل عليهم أن يتمتعوا بما لديهم ، ولكن تُرى كم نسبة عدد هؤلاء إلى عدد سكان العراق ؟
قد يكون عدد هؤلاء مليوناً أو مليونين وإذا سمحنا للمبالغة فلنضيف إليهم مليونين آخرين وثلاثة ملايين من التابعين فيبقى عندنا من سكان العراق الأربعين مليون نسمة ثلاثة وثلاثون مليون من الناس لا يتوفر لهم ولعوائلهم ما قد توفّر لسبعة ملايين .
من الثلاثة والثلاثين مليوناً من العراقيين أناس ليس في مقدورهم شراء الملابس لأولادهم و لا شراء الفاكهة إلاّ عندما يكون لديهم ضيوف ، هناك عوائل ليس بمقدورها شراء اللحم حتى مرة في الأسبوع ، هناك عوائل وجبات أكلهم الثلاثة في اليوم في جنوب العراق خبز وبصل أو خبزٌ وتمر فقط وقد تتوفر لديهم وجبة سمك ، وفي الشمال وجباتهم خبز وشاي أو خبز مع " الشنينة " و ما عدا ذلك يعتبر من الكماليات التي قد تكون في سعتهم توفيرها في مناسبات الأعياد .
لم ينتفض العراقيون في التاسع عشر- الخامس والعشرين من تشرين 2019 بطراً بل من أجل الحياة ، من أجل الكرامة والعزة والمساواة . المنتفضون ؛ بنات وأبناء أكتوبر 2019 هم أبناء وبنات العراقيين الذين تدبّروا أمرهم أيام الحصار الإقتصادي الذي فُرض عليهم لما زاد على عشرة أعوام ، إذ كان صدّام حاكم ذاك العهد يدخّن السيگار الكوبي وحاشيته يعيشون عيشة مترفة ، كما يفعل حكامنا اليوم ، وأبناء الشعب يخبزون خبزهم في البيت ويزرعون بعض الخضروات في زاوية من أرض دارهم ، ويربّون دجاجات ليوفروا لأولادهم البيض واللحم ويقايضون الزائد منه لشراء الشاي والسكر والزيت . نعم .. تدبّر الشعب أمره ولم يبالي حتى أصبح سعر الدولار الأمريكي ثلاثة آلاف ديناراً ، بل أن الأمر لم يكن يهمه حتى لو أصبح الدولار بعشرة آلاف .
لقد كان الغرض من فرض الحصار الإقتصادي كسر شوكة الشعب العراقي وفرض الذلّة عليه ولكن جاءت النتائج عكس ما تم التخطيط لها ، فقد توجّه الإقتصاد العراقي إلى تنمية النشاط المحلّي وعلى الخصوص الزراعي لسد حاجة أبناء الشعب .
" خبراؤنا الإقتصاديون " الذين يهوّلون ما يسمّونه " زيادة معاناة المواطن بسبب رفع سعر بيع الدولار " إنما يتباكون عملياً على مصالحهم ومصالح أمثالهم ، فهم أصحاب المصلحة في شراء الدولار رخيصاً ، أما أكثرية أبناء الشعب فليس له مصلحة في ذلك بل بالعكس فإن رفع سعر الدولار سيشجّع الأنشطة الإقتصادية الصناعية والزراعية المحلية ويزيد الطلب على تشغيل الأيدي العاملة وخريجي الجامعات العاطلين عن العمل حالياً بسبب السياسة المالية الخرقاء التي إتبعتها الحكومات السابقة ، وفي يوم سنصل مرحلة عدم وجود بطالة و كذا الإكتفاء الذاتي من المنتجات الضرورية و لا نحتاج إلى إستيراد الطماطة والبامية ولا اللبن والجبن وغيرها التي قُضي على إنتاجها مقابل المستورد منها من البلدان المجاورة ، فالقطاع الخاص كفيل بسد حاجة المواطنين في فترة لا تتجاوز الموسم الواحد أو موسمين ، فلتتفرّغ الحكومة لإستيراد المواد الضرورية جداً كالبذور المحسنة ومواد مكافحة الآفات الزراعية والأسمدة التي لا يمكن تصنيعها في البلد والمواد الأولية التي تحتاجها الصناعة المحلية وتوجّه دولاراتها لبناء البنى التحتية ودعم الإقتصاد المحلّي بدل بيعها إلى الذين يهربونها بحجج إستيراد " بضائع " بصفقات وهمية .