مداخلتي الرئيسية للقاء الحواري الأول لتجمع مصير


عديد نصار
2021 / 1 / 3 - 23:33     

بداية دعوني أشكر تجمع مصير على هذه البادرة المهمة، فالتواصل والحوار وتشارك الرؤى والأفكار وغربلتها كان ولا يزال وسيبقى الأسلوب الأنجع لتلمس الواقع واستخلاص العبر لتحديد الخيارات والمسارات التي يفترض أن نتوسل لتحقيق الأهداف التي نناضل من أجلها.
ودعوني أطري على اختيار مصطلح "ثورات" و"انتفاضات" في هذه الدعوة، بدلا من مصطلح "الربيع العربي" الذي درج الكثيرون على استخدامه منذ البداية.
- مصطلح "الربيع العربي" ربما يؤشر على أن أسباب هذه الانتفاضات مجرد أسباب سياسية ترتبط بالاستبداد وما نتج عنه من كم للأفواه وقمع للحريات، وبالتالي اعتبار أن الهدف من الانتفاضات كان الحريات والديمقراطية وتداول السلطة.. وهنا دعوني أذكر أن بلادنا العربية ومنذ الاستقلال عانت من الطبيعة الاستبدادية للانظمة الحاكمة، وخلال كل تلك العقود لم نشهد أي شكل من اشكال الانتفاضة التي نشهدها منذ سنة 2010.
لذلك علينا أن نبحث في الأسباب المادية التي أشعلت الانتفاضات، هذه الأسباب التي تجلت في الشعارات الأولى التي رفعت في تونس وفي مصر وفي باقي البلاد العربية وعلى رأسها: "التشغيل استحقاق يا عصابات السراق" و "شغل، حرية، عدالة اجتماعية"، ما يؤشر الى أن الأسباب الحقيقية التي دفعت الكتل البشرية الضخمة للانفجار كانت بدرجة أولى أسباب تتعلق بلقمة العيش. التعايش مع الاستبداد ممكن، لكن يتعذر التعايش مع فقدان أسباب الحياة. وها هو الشعب التونسي يطلق صرخته: نريد أن نشتغل كي نعيش، ولم يقل نريد ديمقراطية وحرية ومساواة جندرية.. ولو ان هذه المطالب باتت ركنا أساسيا بعد أن ارتقى سقف المطالبات من المعيشي الى السياسي ولكن عبر شعار : الشعب يريد اسقاط النظام!. وبالتالي فهي انتفاضات ثورية وثورات شعبية وليست ربيعا أو ثورات ملونة. منذ انطلاقتها سُميت ثورة الشباب، فمن أشعل فتيلها شاب ومن حملها واندفع فيها شابات وشبان وقد جاءت ردّا على انغلاق الآفاق أمام الشباب لعلها تفتح أبواب المستقبل .. للشباب..

- اختصر الشاب محمد البوعزيزي في ثورته ذات سيدي بوزيد الأسباب والدوافع المباشرة وغير المباشرة وكذلك أسلوب المواجهة السلمية للانتفاضات الشبابية والشعبية عبر الوطن العربي سواء في موجتها الأولى وتدحرجها عبر البلاد العربية أم في موجاتها المتلاحقة والتي لن تتوقف طالما الدوافع والأسباب لازالت قائمة، بل وتتفاقم كل يوم على امتداد البلاد العربية من المغرب الى المشرق.
- فالأسباب المادية التي دفعت محمد البوعزيزي الى الثورة تمثلت في انغلاق سبل الحياة أمامه وهو الشاب الخريج الذي يمثل هنا شريحة واسعة من الشباب خريجي الجامعات المعطلين الذين اتسعت دائرتهم لتمثل نسبة كبيرة من الشباب العربي الذين لم يكن لهم مكان على خارطة النظام الاقتصادي النيوليبرالي الذي اعتمدته القوى المسيطرة منذ عقود والقائم على الريوع والمضاربات والتبعية للخارج وتقاسم نهب الموارد المحلية معه، بعد أن قوضت قواعد الاقتصاد التشغيلي المنتج للسلع الزراعية والصناعية.
- أما السبب المباشر، المعنوي الذي شكل شعلة الثورة فهو الإهانة والإذلال الذي أصاب الشاب فكان مصادرة عربة الخضار التي اعتمدها مصدرا متواضعا للعيش يقيه وأسرته الجوع والذي استتبع بصفعة الشرطية له حين أراد أن يتقدم بشكايته للقيمين على السلطة المحلية.
- هنا تضافر عاملان يتشارك بهما كل الواقع الذي يعتمل في القاع الاجتماعي العربي ويتصدى للشباب الذين بدل أن تنفتح أمامهم آفاق الطموح، تنغلق في وجوههم سبل الحياة: هذان العاملان هما: الإفقار والإذلال. والمسؤول واحد: أنظمة أسرية مافيوية ناهبة تحتقر شعوبها وتمسك بكل مفاصل الدول وأجهزتها ومؤسساتها واقتصاداتها.
- ولا يشذ لبنان عن ذلك مهما تشدقت قوى النظام بالديمقراطية ومهما قيل ان شعبه يتمتع بحريات واسعة. فالديمقراطية اللبنانية لا تشبه الديمقراطية في شيء والانتخابات التي لا تسفر عن تداول للسلطة على مدى ثلاثة عقود على الرغم من كل الكوارث التي أصابت البلاد ليست انتخابات. لبنان يرزح تحت سيطرة ائتلاف مافيوي لقوى تعتمر العباءة الطائفية والمذهبية وتفرض، بل تغتصب التمثيل السياسي للطوائف والمذاهب باعتبار رعاياها أتباعا لهذه القوى، ومن يخرج من تحت العباءة يخوّن ويكفّر وينبذ، ويقع عليه الحرم من أن يستفيد من زبائنية النظام في الوظيفة العامة و الخاصة وفي سائر الخدمات التي لا بد لك من أن تكون محسوبا على هذا الزعيم أو ذاك كي تحصل عليها.
- هذا الائتلاف الذي ينظر الى الدولة كغنيمة والى المواطنين باعتبارهم أتباعا وجد في الطائفية حصنه الحصين (لولا الطائفية لسحبونا من بيوتنا: نبيه بري تعليقا على انتفاضة 2015)، كما وجد في حزب الله وسلاحه راعيا وحاميا.

تجربة الشباب اللبناني في مواجهة ائتلاف قوى السلطة منذ سنة 2011:
كان ائتلاف القوى المسيطرة في لبنان قد تمكن وبدعم وتوجيه من نظام الوصاية الأسدي من استتباع أدوات العمل النقابي وإخلاء الساحة تماما من العمل الشبابي والطلابي خلال تسعينات القرن الماضي كما وأخضع وسائل الاعلام والأحزاب والقوى التي طالما رفعت شعارات التغيير، فباتت الساحة خالية من كل أشكال العمل الوطني التي تتيح للشباب وللقطاعات الشعبية العمل المشترك ومواجهة تردي أوضاعها وانغلاق آفاقها.
غير أن سقوط رئيسي تونس ومصر خلال أقل من شهر تحت ضغط الانتفاضة الشعبية دفع الشباب اللبناني وتحديدا المنتمي لبعض التجمعات والأحزاب اليسارية الى اطلاق حملة اسقاط النظام الطائفي في الثلث الأخير من شهر شباط 2011. هذه الحملة التي استطاعت أن تحشد أعدادا متزايدة من اللبنانيين وحملت الى لبنان جو الانتفاضات الشعبية العربية الى أن توقفت فجأة بعد شهرين تقريبا. والغريب أنها توقفت بدون أن تواجه قمعا صريحا ومؤثرا من السلطة اللبنانية وأجهزتها أو قواها المسيطرة، ليتبين أن توقفها جاء استجابة لقمع ذاتي فرضه التدخل المسلح لحزب الله اللبناني الى جانب نظام الأسد في سوريا في وجه انتفاضة الشعب السوري. هذا التدخل الذي فرض حالة من الانقسام والتشرذم خصوصا في صفوف الشباب اليساري، وكان لانحياز الحزب الشيوعي اللبناني لحزب الله دور رئيسي فيه.
ولامتصاص حركة الشارع، بادر الحزب الشيوعي ومن خلال هيئة التنسيق النقابية التي ترأسها في حينه الأستاذ حنا غريب عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني، والتي تشكلت من روابط الأساتذة والمعلمين في القطاعين العام والخاص ومن روابط الموظفين، الى اطلاق حملة مطلبية واسعة لإقرار سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاعين العام والخاص، هذه الحملة التي لاقت استجابة واسعة خصوصا انها ربطت هذه السلسلة بإقرار اصلاحات تطاول مكامن الفساد في قطاعات عامة رابحة لكن منهوبة كالمرفأ والمطار وقطاع الاتصالات وسواها.
استمرت هذه الحملة التي حشدت عشرات الآلاف وتصاعدت عبر التظاهرات والاضرابات على مدى أكثر من سنتين دون نتيجة تذكر. جرت محاولات من الشباب المشارك دعما للحملة لرفع سقف المطالب من النقابي الى السياسي لكن الاعتراض كان حاسما من قبل الرفيق حنا غريب نفسه.
من هنا يمكننا أن نتوقع أن حملة إقرار سلسلة الرتب والرواتب لم تكن سوى محاولة لتنفيس الشارع مطلبيا تحاشيا لحراكه السياسي المتوقع.
لم يطل الأمر حتى جاءت انتفاضة الشباب آب 2015 والتي اطلقتها حملة "طلعت ريحتكم" ردا على أزمة النفايات الصلبة التي اجتاحت شوارع العاصمة ومعظم المناطق اللبنانية، الأزمة الناشئة عن فساد قوى المحاصصة السلطوية التي اختلفت على توزيع المغانم في هذا القطاع. وكان وضوح الرؤية في اطلاق وسم "كلن يعني كلن"، الذي اشهر في وجه جميع القوى المؤتلفة في السلطة دون استثناء.
لكن، لم يرق هذا الأمر لبعض القوى المتحالفة مع حزب الله طبعا ومنها الحزب الشيوعي الذي اطلق ولو بطريقة غير مباشرة حملة "بدنا نحاسب" لتكر بعدها السبحة وتتعدد الحملات (المجموعات) ما أدى الى تراجع الانتفاضة وانطفائها بدون تحقيق أية مكاسب ولو على صعيد حل أزمة النفايات.
إن أبرز العقبات التي تعترض حراك الشباب وانتفاضتهم هو وجود قوة سياسية منظمة تعمل كل مرة على حرف الأنظار وتوجيه البوصلة بخلاف ما ينبغي وخصوصا نقل التحرك من كونه سياسيا الى كونه مطلبيا أو قطاعيا، ومن كونه في مواجهة السلطة الى كونه في مواجهة قطاع معين أو جزء من السلطة.
كانت مسألة التنظيم الشغل الشاغل للكثيرين من الناشطين. جرت محاولات كثيرة لإنتاج أشكال تنظيمية تساعد في الوصول الى الشباب والمتضررين فعلا من تردي الأوضاع في كل المستويات، لكن تلك المحاولات لم تسفر سوى عن نتائج محدودة كان أبرزها حزب سبعة وتحالف وطني وبيروت مدينتي، في حين شكل تنظيم لحقي نموذجا جديدا لم يستوف حقه من النقاش والتوسع بعد رغم انه الجهة الأولى التي دعت الى أول تحرك في انتفاضة 17 تشرين أول 2019.
وجاءت انتفاضة 17 تشرين لتشكل صفعة هي الأقوى لنظام ائتلاف المافيات الطائفية المسيطر في لبنان وتحت شعار كلن يعني كلن، الشعار الذي احتشد تحته مئات آلاف اللبنانيين جلهم من الجيل الشاب ما ترك صدوعا عميقة في هذا النظام وهز أركانه بعنف لم يشهده من قبل، حيث خرجت جموع المنتفضين من تحت العباءات الطائفية والمذهبية وتوجهت مباشرة لتقارع زعاماتها التقليدية وتنزع عنهم هالات التقديس والاحترام وتضعهم جميعا في خانة واحدة هي خانة الفساد ونهب المال العام وأموال المواطنين والتواطؤ في تدمير قطاعات الخدمات كافة ورهن البلاد لقوى الهيمنة الإقليمية والدولية.
تميزت انتفاضة 17 تشرين بشموليتها وبجذريتها وبالانخراط الواسع للشابات والشبان فيها وبتجاوز المحرمات والحدود الطائفية والمذهبية وبتعرية قوى ائتلاف النظام الطائفي المسيطرة وتجريدها من شعبيتها.
الى ذلك كله فقد تمكنت من كشف حقيقة القوى ذات المصلحة الحيوية في حماية النظام ومنع سقوطه حين اضطرت زعيم حزب الله الى الظهور ثالث ايام الانتفاضة ليضع لها خطوطا حمراء ممنوع عليها تجاوزها: لا لإسقاط العهد (رئيس الجمهورية وحليف حزب الله ميشال عون) لا لإسقاط الحكومة (حكومة سعد الحريري التي تمثلت فيها كل قوى السلطة)، لا لإسقاط مجلس النواب (انتخب في أيار 2018 وتمثلت فيه قوى السلطة مجتمعة مع أكثرية لتحالف يضم حزب الله).
هذه اللاءات الثلاثة تعني مباشرة "ممنوع اسقاط النظام" بالضد من إرادة ومصلحة الغالبية الساحقة من اللبنانيين التي هبطت الى الشوارع تحت شعار "كلن يعني كلن" و"الشعب يريد اسقاط النظام".
ومنذ تلك اللحظة بدأ الاستعداد لغزو ساحات التظاهر والاعتصام تحت شعارات مذهبية مقيتة كمثل "شيعة شيعة شيعة"، والاعتداء على المتظاهرين في ساحات بيروت وفي مختلف المناطق اللبنانية. هذه الاعتداءات التي بدأها شبيحة حزب الله وحركة أمل، لتتوسع ويشارك فيها شبيحة و "زلم" باقي القوى السياسية في مختلف المناطق.
الارتباك في مواجهة شبيحة السلطة وقواها جاء تحصيل حاصل لمشكلة التنظيم. هذه المشكلة المزمنة التي افترض الشباب المنتفض أنه يمكن اختصارها عبر تشكيل مجموعات على الوتس أب أو على منصات التواصل، أو من خلال خيم الاعتصام في ساحات التظاهر والتي مثلت بالفعل مساحات للحوار والتثقيف في الأسابيع الأولى للانتفاضة، لكن التنظيم بما هو فعل التزام وتنسيق شامل على المستوى الوطني ظل غائبا. وهنا مكمن الخلل.
كان للقمع والملاحقة والاستدعاءات القضائية ولتهديدات أزلام أحزاب السلطة من جهة ولانتشار وباء كورونا في البلاد والذي أسهمت في انتشاره السلطة نفسها أثره المباشر في انتهاء فعاليات انتفاضة 17 تشرين على الرغم من التفاقم المخيف للأوضاع الاقتصادية والمعيشية مقارنة بالأيام الأولى للانتفاضة، وعلى الرغم من فشل الحكومة في منع انهيار مالية الدولة، وبالرغم من الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق اللبنانيين وعاصمتهم بيروت عبر تفجير مئات الآطنان من نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت ما أسفر عن أكثر من 200 قتيل وآلاف الجرى ودمار واسع في الأبنية السكنية والمنشآت الاقتصادية والتربوية والصحية وتشريد مئات الآلاف.
هذا الواقع المتفاقم ينبئ بانفجار اجتماعي مخيف يتحسب له الجميع، سواء من هم في السلطة أم المجتمع المدني والأهلي، ومن هنا نتوقع من المناضلين والمناضلات الحقيقيين الذين ظلوا صامدين للمواجهة والذين اكتسبوا ما يكفي من الخبرة على مدى السنوات العشر الماضية، أن يصلوا الليل بالنهار من أجل خلق التنظيمات المناسبة القادرة على تأطير الطبقات المنسحقة وتنظيمها ليكون الانفجار الكبير القادم موجها بالفعل في الاتجاه الصحيح وبفاعلية كاملة.
وهنا أيضا، لا بد لهؤلاء المناضلين والمناضلات من الالتفات الى رفاقهم في البلاد العربية من أجل تبادل الخبرات والتنسيق والتعاضد، وهذا يحتاج الى أدوات تنظيمية مرنة وفعالة. فالأنظمة التي واجهت شعوبها لم تواجهها منفردة بل تكاتفت بأشكال مختلفة واستدعت قوى الهيمنة الخارجية الإقليمية والدولية التي ساهمت كل على طريقته في سحق شعوب المنطقة من سوريا الى ليبيا الى اليمن والبحرين، وهي لن تتوانى عن الفعل نفسه مجددا في مواجهة اي ثورة شعبية في لبنان أو في سواه.