جولة الانتخابات الرابعة في إسرائيل لن تكون كسابقاتها


يعقوب بن افرات
2020 / 12 / 31 - 23:46     

في الـ 23 من آذار/مارس القادم ستخوض إسرائيل جولة جديدة من الانتخابات التشريعية، وهي الرابعة خلال سنتين، ما يشير إلى عمق الأزمة السياسية التي يمر بها الشارع الإسرائيلي. وبات من الواضح أن عهد نتنياهو يوشك على الأفول، بعد 25 عاماً من سيطرته على الساحة السياسية بطرق مختلفة، تولى خلالها منصب رئيس الوزراء لخمس فترات، الأربعة الأخيرة منها كانت متتالية ومستمرة إلى يومنا هذا، إضافة إلى مناصب سيادية في مراحل متقطعة تسلم فيها حقائب الخارجية والمالية والدفاع.
هذه الجولة لن تكون كمثيلاتها الثلاث السابقة، ومن دون شك تكمن أولى الأسباب في ذلك في أزمة كورونا وتداعياتها، التي كشفت العجز الحكومي في التصدي للوباء بالشكل الصحيح والناجع، ما أدى إلى حدوث أزمات اجتماعية واقتصادية عميقة كما حدث في معظم دول العالم. والسبب الآخر هو تغيّر الحليف الأمريكي، فهزيمة دونالد ترامب، أهم حليف لنتنياهو وصديقه الحميم، وانتخاب الديمقراطي جو بايدن رئيسا جديدا للبيت الأبيض، أمر سينطوي على تغيير جذري في السياسة الداخلية الأمريكية ينعكس على توجهات واشنطن حيال القضايا الدولية.
على النقيض من المعارك الانتخابية الثلاثة السابقة لم يكن نتنياهو هذه المرة هو المبادر لتقديم الموعد لخوض الجولة الرابعة. في الواقع لم ترغب الأحزاب المُمثلة بالكنيست في الذهاب إلى الانتخابات في ظل هذه الظروف، لأنه لا يمكن التكهن بنتائجها عندما تدار في ظروف الإغلاق والارتفاع الكبير في نسب الإصابات بالفيروس ومؤشرات البطالة حيث أصبح مئات الآلاف من السكان عاطلين عن العمل أو أجبروا على إغلاق متاجرهم ومصدر رزقهم بأمر من وزارة الصحة.
يضاف إلى ذلك، تفكك الكتل الانتخابية المسيطرة على المشهد، فمحاولات نتنياهو المتكررة في التهرب من المحكمة قد شوشت حساباته فلم ينجح بابتزاز شريكه في الحكومة بيني غانتس زعيم حزب أزرق أبيض، لا سيما في موضوع تقليص صلاحيات وزير العدل وتمديد فترة ولايته على حساب غانتس. هذا التخبط السياسي أفضى إلى حدوث انشقاقات داخل حزب الليكود نفسه. وفي المقابل أدى التمرد داخل حزب غانتس إلى فقدان الأغلبية المطلوبة لتمديد فترة الائتلاف الحاكم، وبالتالي تسهيل الطريق أمام قرار الكنيست لحل نفسه وإجراء انتخابات جديدة.

طريق مسدود.. ربما ستكون هناك جولة خامسة أيضاً
المشهد السياسي هذه المرة مختلف بشكل جذري، إذ تتنافس في هذه الانتخابات رموز وشخصيات يمينية فيما بينها، بينما أصبح مرشحو اليسار والمركز (يسار الوسط) لاعبين ثانويين.
نتنياهو تلقى ضربة موجعة من داخل حزبه عندما انشق جدعون ساعر وأطلق حزباً جديداً، كما خسر نفتالي بينت الذي يمثل المستوطنين بعد إقصائه من الحكومة المنحلة ومن تكتل الأحزاب الدينية الداعم لنتنياهو. في المقابل تبخر حزب غانتس ومعه حزب العمل فالساحة السياسية الإسرائيلية منقسمة على نفسها ولا يوجد حزب مركزي يأخذ على عاتقه بأن يكون عموداً فقرياً لتشكيل الائتلاف الحكومي القادم. فالعائق الأساسي أمام تشكيل الحكومة القادمة يكمن في حالة القطيعة المتبادلة بين جميع الأطراف. أما جدعون ساعر وبالرغم من موقفه اليمني المتطرف فقد تعهد بعدم الجلوس مع نتنياهو في حكومة واحدة تحت أي ظرف كان، ومثله صرح افيغدور ليبرمان زعيم الحزب اليميني "إسرائيل بيتنا".
بعد التجربة الحالية الفاشلة لائتلاف غانتس-نتنياهو أصبح من غير المحتمل أو الوارد أن يوافق أي حزب من المعارضة على الدخول في ائتلاف مع نتنياهو، وهذا يعني أن الساحة السياسية الإسرائيلية دخلت في طريق مسدود وإلى المزيد من خلط الأوراق، لذا من غير المستبعد أن الأمر ربما سيتطلب جولة خامسة من الانتخابات. فطالما يصر نتنياهو على البقاء في الحكم وهو مطلوب للمحكمة بتهم جنائية، ستبقى الساحة السياسية تغوص في نفس المستنقع.
إن اختزال المشهد السياسي بالتنافس الانتخابي بين رموز اليمين المتطرف قد أجبر كثير من الناشطين والسياسيين في معسكر اليسار على البحث عن طرق وأفكار سياسية جديدة لمواجهة اليمين الذي يتشبث بأيدولوجيا قومية دينية وعنصرية تقادم عليها الزمن. موقف اليمين الإسرائيلي يصر على السعي لضم الضفة الغربية إلى إسرائيل والإعلان عن أرض إسرائيل الشاملة، إضافة إلى تبنيه لنظرية الرأسمالية النيو ليبرالية التي تدفع نحو الخصخصة للقطاع العام وتفضيل رؤوس الأموال على حساب الطبقة الوسطى. هذه السياسة أدت إلى اتساع الفجوات الاجتماعية وزيادة التدني المستمر في الاستثمار بقطاعات البنية التحتية والخدمات التي من المفروض أن توفرها الحكومة مثل الصحة والتعليم والسكن والرفاه الاجتماعي والتأهيل المهني.
في المقابل يريد اليسار الإسرائيلي عكس ذلك تماما، فهو يريد مجتمع خال عن العنصرية والفصل بين الدين والدولة وعدالة اجتماعية والقضاء على الاحتكارات الرأسمالية وإنهاء الاحتلال.
التأثير الأمريكي
وفي سياق متصل وشديد الأهمية، تمثل هزيمة ترامب، أشد الداعمين لسياسة نتنياهو القومية والانعزالية، وفوز منافسه الديمقراطي بايدن، مرحلة جديدة تبشر بعهد جديد يؤثر على الحوار الدائر اليوم في صفوف اليسار الإسرائيلي. وقد أعلن بايدن عن مهمتين أساسيتين لحكومته القادمة، الأولى محاربة الفقر والفجوات الاجتماعية والثانية إنقاذ الكرة الأرضية من الاحتباس الحراري. هذان المحوران اللذان تتأسس عليهما سياسة بايدن الداخلية والخارجية تختلف تماما عن أولويات اليمين الإسرائيلي. ومن هنا فاليسار بدأ ينظر إلى المستقبل ويتداول اليوم أفكاراً من قبيل "النيو ديل الأخضر" التي تطرحه النائبة في الكنيست السابقة ستاف شافير، أو فكرة "المخصصات العامة الأساسية" (universal basic income) الذي يطرحه النائب عوفر شيلح، إضافة لنشاط حركات خضراء ضد تلوث البيئة، والنداءات الصريحة للحد من التكتل على أساس قومي بين "القائمة العربية المشتركة" من ناحية، واليسار الصهيوني من ناحية ثانية لكيلا تصب في مصلحة اليمين.
تفكك القائمة المشتركة
من ناحيتها، دخلت القائمة المشتركة للأحزاب العربية أيضاً في أزمة داخلية عميقة وهبوط حاد في ثقة الجمهور بها. إن ما نراه اليوم من تفشي وباء كورونا في الوسط العربي وتسجيل نسب أعلى بكثير من المعدل العام في إسرائيل، وما نشهده الآن من حالة الرفض لحملة التطعيم الجارية في الوقت الذي نرى تدفق الجمهور الإسرائيلي على مراكز التطعيم، إضافة إلى زيادة في حالات العنف والقتل، كل هذه الظواهر تدل على فقدان تام للقيادة على مستوى المجالس المحلية أو الأحزاب العربية.
وقد جاءت الحركة الإسلامية لتعرّي نهج "القائمة العربية المشتركة" ووعودها بالعمل على إسقاط نتنياهو، وعلى الرغم من أن "المشتركة" هي ثالث أكبر كتلة برلمانية في الجولتين السابقتين، بقيت في الهامش ويعتبرها المشهد السياسي الإسرائيلي قوة منبوذة من دون فعل يذكر على الساحة. فقد قام منصور عباس، رئيس كتلة الحركة الإسلامية (إحدى كتل "المشتركة") في الكنيست بخطوة استثنائية وانشق عن الصف معلناً بأنه من اليوم وصاعداً ستبقى الحركة الإسلامية محايدة ولن تكون بجعبة اليسار الصهيوني، وبأنها على استعداد للتفاوض مع من يشكل الائتلاف الحكومي مقابل منح الميزانيات والتسهيلات للوسط العربي ويضمن توظيف العرب في المرافق الحكومية.
وتتدعي الحركة الإسلامية أن دور الأحزاب العربية ليس تغيير الحكم في إسرائيل، فلا فرق بين يسار أو يمين، من وجهة نظرها، وتنظر إليهم جميعاً على أنهم كفار ومعادين للعرب، من هذا المنطلق ترى أن عليها خدمة جمهورها من المسلمين ومراعاة قضاياهم. إن التنازل بل واللامبالاة إزاء مصير المجتمع الإسرائيلي يضع الجمهور العربي في جانب القوة الأكثر يمينيةً وعنصريةً وتضعف كل من يريد تغيير جذري وإنهاء الاحتلال. ولكن موقف بقية الأحزاب العربية وخاصة الجبهة والتجمع، اللذان يسعيان إلى البقاء في المعارضة "الأبدية" أو ابداء الاستعداد لدعم حكومة يسار أو مركز، هذا الموقف لا يشكل جواباً لما تطرحه الحركة الإسلامية ومعها الأغلبية الساحقة من الناخبين العرب حول ما هي الطرق والحلول الممكنة للخروج من الوضع التعيس الذي نعيشه؟
الموقف الديمقراطي المدني العام هو البديل
أما الجواب الذي يطرحه حزب دعم فهو بسيط، يتمثل بتبني برنامج سياسي يسهل الطريق لبناء حزب ديمقراطي إسرائيلي فلسطيني يُؤسس على مبادئ مشتركة. والمفروض علينا الآن ليس أن نختار بين يمين أو يسار صهيوني بل أن نطرح أمام الجمهور الفلسطيني الأسس التي وفقها يمكننا بناء شراكة إسرائيلية-فلسطينية حقيقية. وفي حال تبنى اليسار الإسرائيلي مبادئ الحزب الديمقراطي الأمريكي القادم وبرنامج "النيو ديل الأخضر" (الخطة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة الخضراء)، يتوجب على القوى الديمقراطية الفلسطينية أن تمد يدها وتطرح "نيو ديل فلسطيني – إسرائيلي أخضر" لمواجهة اليمين ونهجه المتزمت. إن الامتناع عن خوض النقاش حول ما هو مستقبل المجتمع الإسرائيلي وعدم التركيز على طرح بديل يجمع بين الإسرائيليين والفلسطينيين أمرٌ يخدم اليمين والقوى الظلامية والقومية والدينية في الوسط الفلسطيني.
وعلى وقع النداءات الجديدة التي يطلقها اليسار الإسرائيلي وحالة النقاش الدائرة، تتولد ضرورة فعلية لبناء شراكة إسرائيلية-فلسطينية ولتبني برنامج اقتصادي عادل وأخضر. وعلى القوى السياسية الديمقراطية الفلسطينية أن تجيب بالإيجاب وأن تقول بشكل واضح وصريح: نعم نريد شراكة إسرائيلية-فلسطينية خالية من الأيديولوجيا الصهيونية، التي تقادم عليها الزمن، ومن الأيدولوجيا القومية والدينية، التي حشرت المجتمع الفلسطيني في طريق مسدود وفقر وتفكك اجتماعي وقمع للمرأة واحتلال.
أمام تمسك اليسار الإسرائيلي بالحل القائم على فكرة "الدولتين"، الذي يفصل بين الشعبين ويجرنا إلى الوراء وإلى حل لا يمكن تطبيقه، يطرح حزب دعم حل "الدولة الواحدة" ما بين النهر والبحر. إن النيو ديل الأخضر ليس برنامجاً أمريكياً، بل برنامجاً أممياً يتماشى مع مستقبل الشعوب. وإذا أراد الإسرائيليون والفلسطينيون أن يكونوا جزءاً من التطور الحضاري العالمي عليهم أن ينضموا إلى هذه القافلة الجديدة التي تناضل من أجل إنقاذ المعمورة وبناء مجتمع جديد خال من كل أشكال العنصرية والاستغلال والاحتلال ويوفر لكل فرد احتياجاته وحقوقه الأساسية بشكل متساوٍ.