قادمون ، و معهم الحرية


مازن كم الماز
2020 / 12 / 27 - 18:01     

أفهم جيدًا وضع المعارضات العربية ، خاصة السورية ، صعوبة موقفها مقارنةً بجسامة المهام التي وضعتها أمامها ، أتفهم عزلتها و غربتها عن مجتمعاتها و شعوبها التي تحلم بتحريرها و قيادتها إلى الديمقراطية أو الدولة المدنية أو التعبير المعاصر لهويات الآباء و الأجداد … أتفهم جدًا موقفها و رغبتها الجامحة في تغيير العالم و الشرق و تعطشها لتبدأ تجربتها الاجتماعية الجديدة في إعادة هندسة العالم و مجتمعاتها لتتوافق مع أساطيرها عن العشيرة و العرب و محمد و أجدادها و آبائها و ما يجب أن نكون عليه و يكون عليه أحفادنا … أتفهم جيدًا موقفها ، عندما لا يؤمن العالم بأساطيرها تلك و برغبتها الجامحة لإقناعه باهلاسات محمد على اهلاسات عفلق و خير الله طلفاح ، بأساطيرها عن صلاح الدين و خالد بن الوليد و ابن تيمية و الحجاج و جماعة من عتاة القتلة و الذباحين و مدعي النبوة و الحقيقة المطلقة الذين ترى فيهم آباءا و أجدادًا ليس فقط لما تعتبره شرقًا بل للحضارة و للحرية و العدالة في العالم و التاريخ … كل ما تريده هو فرصة واحدة فقط لتعيد بناء الشرق و العالم وفقًا لأساطيرها هذه … حظي هتلر و تلامذة ماركس بهذه الفرصة و حظي القتلة الذين يقدسونهم و يرون في مجازرهم الحرية و العدالة التي يبحث عنها البشر ، لكن هذا ليس متاحًا للمعارضة السورية اليوم ، رغم إصرارها أن شعبها و جماهيرها ما تزال في حالة ثورة لكن هذه الجماهير في الواقع مشغولة بالتنافس على كرم المانحين و التنافس الطبيعي على البقاء ، لذلك عليها أن تعتمد بالكامل على قرارات عواصم الغرب الاستشراقي الما بعد حداثي ، بتجويع شعوبها و انتظار أن تقضي على خصومها ثم أن تساعد بإعادة إعمار بلادها لتصبح مرةً أخرى جاذبة للحكام و المغامرين و قادرة على أن "تصنع التاريخ" من جديد

أستطيع أيضًا أن أفهم سخافة أن يأتي شخص لا يكترث بالسلطة و لا بالمال ، أكثر من حاجته لشراء حاجته اليومية من النبيذ ، ليسخر من عبدة و طلاب السلطة و الثروة و أن ينكد عليهم صفاء قلوبهم و نقاء ضميرهم ، فقط لأنه لا يؤمن بالسلطة و لا يعتقد بأنها الحل لكل مصائب البشرية أو الشرق ،

و أدرك جيدًا كذلك صعوبة أن يدخل أحدهم إلى ما قيل له أنها مسرحية كوميدية ليجد الممثلين و المؤلف يسخرون منه و يدعونه ليضحك على نفسه لا على خصومه ، ليقولوا له كل الأشياء التي جاء كي ينساها ، أنه ليس أكثر أخلاقًا و ذكاءا من خصومه و ليس بالجمال الذي يعتقده في نفسه و أن الجنة التي يؤمن بها و يدعي أنه يعمل ليبلغها ليست إلا وهمًا … أفهم كم هذا غير إنساني ، و مؤلم و مرعب … أفهم الاغراء المثير في تملق الناس بعضهم لبعض و تملقهم لأنفسهم و في فكرة الجنة نفسها و الاله و الخلاص و مدى سعادتهم بالسخرية من الآخرين و مرارتهم من اكتشاف أنهم ليسوا الا بائسون يستحقون السخرية ، أدرك جيدا لا إنسانية أن تخبر مريضًا بمرضه ، بفداحة مرضه

أدرك جيدًا ما الذي فعلته العولمة و النيوليبرالية بالثوار الذين تحولوا إلى يوتيوبرز و بلوغرز و ناشطين ، و الدلال الخاص الذي يعامل به الإسلاميون بهلاوسهم و هذياناتهم ، الذين استقبلتهم العواصم الأوروبية ، عواصم دول الكفر و الاستشراق و ما بعد الحداثة ، منذ الستينيات ، و أن الجميع يدركون جيدًا أن ماهر الأخرس لو كان ممن ينتقدون محمد أو مجازره أو مجازر ابن الوليد أو الحجاج لكان عليه أن يموت وحيدًا دون أكاليل الغار و حتى لو كان فتحاويا في سجون حماس أو حماسيًا في سجون السلطة لمات دون أن يعرف أحد بموته و أننا نعرف عن معتقلي الغوطة الأربعة أكثر مما نعرف عن الفتى الذي ذبح في حلب لأنه شتم محمد دون أن يدري و كثيرون مثله


لذلك لن أتسرع لاصف المعارضة بأنها اوليغاركية جديدة تساوي مصالحها بمصالح شعوبها و البشرية عند اللزوم … أنها تعيش تناقضًا مريرًا بين اساطيرها و واقعها ، و أنها لا تجد سوى انتظار سادة هذا العالم لكي يمنحوها وطنًا و شعبًا تحكمه و تصنعه وفق تصورها هي عن شعبها و وطنها و عالمها ، تجربة هندسة اجتماعية إنسانية جديدة لا نعرف كيف ستنتهي و لو أنها تحمل مظاهر و سمات أخطر تجربتين لإعادة الهندسة الاجتماعية الإنسانية في القرن العشرين من ادعاء التفوق العرقي إلى تمثيل العدالة المطلقة على الأرض