تجليات لهشاشة الأسرة المغربية في شكلها الحالي-1 _نتائج استهداف التعليم وضرب القيم واستفحال الفقر_


جمال طارق حماني
2020 / 12 / 27 - 17:40     

"أسوأ المناطق في الجحيم يستحقها
من إلتزموا الحياد إبان المعارك
الأخلاقية الكبرى" مارتن لوثر

إنه لمن السيء بالنسبة لمجتمع يدعي لنفسه الورع والتقوى أن تعصف به من حين لآخر أحداث أسرية فاجعة، محركوها أفراد الأسرة الواحدة، خاصة وأن الأسرة تعتبر لبنة الأساس لقيام وإنتاج المجتمع الحالي، وإنه لمن الأسوء أن تمر مثل هاته الأحداث وأخرى، دون أن ينتفض الضمير الجمعي للمجتمع، ودون أن يتحرك الساكن سواء بالكتابة أو بالخطاب نقدا وتحليلا وبحثا عن مكامن الخلل وتقديما للحلول، خاصة من طرف من يعرفون بالمثقفين الذين يبدو أنهم تخلوا منذ زمن، إلا القليلين جدا، عن وظيفتهم ودورهم. وأبرز ما نأسف لغيابه هو المثقف الملتزم، أو المثقف الذي لديه ضمير ورأي وموقف يحركه.
مسلسل التردي والتفسخ في تسارع، ولا وجود لمن يقف ويهز بعنف الشعب لينتبه لمى يقاد إليه أبناؤه، وما ينتظره عند نهاية هذا المنحدر، لا وجود لنقاشات وتحليلات علمية موضوعية دقيقة وشاملة تهدف إلى التحسيس والتوعية بخطورة الوضع، والتأثير في الرأي العام ليقف ضد مسلسل التدني والتفسخ هذا، وطرح حلول وتصورات تستطيع التصدي ولو في حدود معينة لمشاريع التخريب والتدمير لكل حس أو وازع إنساني، في مقابل مباركة وتدعيم التشتت والانعزال والإهتمام بالتفاهة لدى أفراد المجتمع. مثلا، وعلى الأقل كما كان يحدث زمن الستينات والسبعينات من قبل المثقفين الملتزمين ومن قبل الجامعة.
والمهتمين بدور المثقف الحقيقي يعلمون أهمية هذا الأخير منذ كتابة "إميل زولا" لمقاله المشهور "إني أتهم"، والذي وجهه مباشرة إلى رئيس الجمهورية، حيث ساند فيه ودافع عن الجندي المظلوم "درايفوس"، الذي كان قد اقتيد إلى السجن بتهمة الخيانة. فزاد إميل زولا من إثارة الرأي العام الفرنسي، ليضغط هذا الأخير، ويشكل سلطة موازية وقوة ضغط كبيرة لإطلاق سراح الجندي، وكشف الدسائس والخبايا الكامنة خلف إدعاءات الاتهام، والتلاعب بالحقائق وتزيفها، والتستر على الجناة الحقيقيين، ومن ثم تغليط الرأي العام، ذلك كي لا تمس المكانة الاجتماعية للممسكين بزمام السلطة والمستأثرين بالثروة. مرورا بدور المثقف الثوري كما حدد صفاته لينين، والذي يقود ويؤطر وينظم ويوعي الشعب، من أجل القضاء على الظلم والإستعباد والتفسخ والفقر والاستغلال. وصولا إلى ما عرف بالمثقف العضوي أو الملتزم، مع النصف الثاني للقرن العشرين، كما حدد صفاته ودوره أنطونيو غرامشي(1)، وهو الوقت الذي عرف بجيل القادة الكاريزميين المؤثرين والملهمين للشعوب عالميا، حيث كانت تخلق سلطة وقوة تصدي من قبل الشعب، بتأثير من هؤلاء، ضد كل المشاريع والمخططات التي كانت تهدف إلى تحويل الشعب إلى قطيع، مستهلك، مغيب عن واقعه، وغارق في العمل الشاق لصالح الرأسماليين.
ودون هذا الدور، على الأقل، فلازلنا سنشاهد ونتابع المزيد من المآسي والفواجع المجتمعية مستشرية بين صفوف الشعب، لأنها تدخل في إطار "استراتيجية إفتعال الأزمات والمشاكل وتقديم الحلول"، كما قال نعوم تشومسكي في مقاله الاستراتيجيات العشر للتحكم في الشعوب، وكما نجد تفاصيل هاته العمليات في كتيب "أسلحة صامتة لحروب هادئة".
نموذج من الواقع:
ملاحظات واستنتاجات من شريط الأم التي عذبت ابنتها بالعرائش(شريط انتشر في نهاية شهر نونبر2020) والذي يسترعي انتباها كبيرا، ولما لا دراسات عديدة حول الاسرة والقيم والتربية والتكوين والفقر...
مشاهد من الشريط للتمعن:
أم تعذب طفلتها لسبب تافه بكل قسوة وتمادي، والأخ يصور مشهد التعذيب، الأب غير مبالي. الطفلة في وضع تقشعر له الابدان تتوسل الأم الكف عن ضربها وكيها من الوجه...، كما تتوسل أخاها ألا يصورها في تلك الوضعية، لكن الاخ شعوره بارد اتجاهها ومهتم فقط بإرسال الشريط المصور للأم.
أما الاب فهو غير مبالي كما يظهر في آخر الشريط، بل يجلس مرتاحا، فنعم "الرجل ونعم الأب".
الأم تصف ابنتها الصغير الضحية بالعاهرة، أمام الزوج وأمام باقي أطفالها الصغار، ترى كم من العقد النفسية التي ستنمو داخل تلك الطفلة، ولا محال أن العقد ستترجم إلى سلوك سلبي اتجاه ذاتها، واتجاه أسرتها وأمها على وجه الخصوص، واتجاه المجتمع أيضا. فهل ستلام تلك الطفلة اذا ما يوما _ ونتمنى الا يحدث هذا_ سلكت طريقا غير صالح، جراء المعاملة تلك، وجراء النعت الذي نعتت به من طرف تلك التي يفترض أن تكون الاحن والأرحم اتجاهها.
نعم الضرب قد يتعرض له أغلب الأطفال داخل الاسر المغربية، هذه حقيقة، وهي ممارسة تشجب ولا علاقة لها بالتربية، ولكن ما تابعناه تجاوز الضرب، إلى كونه يقارب التعذيب، إضافة الى تصوير الطفلة في تلك الوضعية. وقد يوصف الأطفال بأوصاف مشينة وهي منبوذة، لكن بعضها بالخصوص لا يمكن قبولها أن تطلق على الأطفال داخل الأسرة، لكونها تصبح تمثلا راسخا لهم عن أنفسهم، وقد يصبحون يوما حقيقة واقعية لتلك الصفة التي كانوا ينعتون بها.
باختصار ماذا يلخص الشريط؟:

أولا: فشل متزايد بإطراد للمنظومة التربوية والاخلاقية والقيمية التي سهرت عليها المدرسة المغربية والتلفزة لعقود من الزمن، فأنتجت أمهات همجيات مريضات عاطفيا، وأباء متنصلين من كل مسؤولية في التربية، وأسر مفككة تنتج وتعيد إنتاج كل الظواهر المرضية في المجتمع. ولازلنا نؤكد في كل مرة على خطورة استهداف مواد دراسية سابقا من المدرسة والجامعة المغربية كإغلاق معهد العلوم الاجتماعية في نهاية الستينات، ثم الهجوم الشنيع على الفلسفة لما يزيد عن أربعة عقود، وفي السنوات الأخيرة الهجوم (وزير التعليم السابق) على شعبة العلوم الانسانية، واعتبارها سببا لتفريخ أفواج من المعطلين، وأن لا مستقبل لأصحابها في سوق الشغل، ومن ثم التشجيع على التوجه نحو التخصصات التقنية، علما أن تخصصات العلوم الطبيعية (الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء...) تعاني من أزمة، سواء من ناحية نسبة الخريجين، أو من ناحية توفير الشغل ومعاهد ومختبرات البحث من أجل تطور وعطاء تلك النسبة من الخريجين رغم قلتها، ما يعني أن تخصصات العلوم الطبيعية أدخلت إلى نفق مسدود، لأن البلد أصلا لا يشجع فيه البحث العلمي ولا يدعم الاختراع والابتكار، وغالبا فخريجي هذه التخصصات ما يضطرون للعمل في وظائف ومهن لا علاقة لها بما درسوه، أما تخصصات العلوم الانسانية (الفلسفة، علم النفس، علم الاجتماع، التاريخ...) فقد اعتبرت مصدر ازعاج ومشتل للمشاكل الفكرية والسياسية، فحوربت وحوصرت وهمشت وأضعفت من الداخل لتفرغ من مضمونها كي لا تؤدي أي دور مجتمعي تنويري تثقيفي تربوي تغييري، والتي كانت ولازالت هي القادرة على بناء الانسان، من ناحية القيم الانسانية الراقية والأخلاق النبيلة والفاضلة والمثل البناءة، إضافة إلى تهذيب وأنسنة السلوك الفردي والجماعي، ومحاربة والقضاء على بعض الظواهر السلوكية الفردية والمجتمعية المريضة والمختلة والمظاهر الاخلاقية المتفسخة والمشينة، وبناء قيم التضامن والايخاء والشهامة والفضيلة، وبناء الهوية المجتمعية الضاربة الجذور في تاريخ الشعب والمنفتحة على الأفق المتحرر الانساني. وإن أي مدخل غير هذا المدخل سيكون مجرد تعميق للأزمة، كما يفعل أنصار الحل القانوني الزجري. لذا فالتخصصات التقنية قد تفيد في التعامل مع الالة لكن مع الانسان لا، والحقيقة أنهم إستطاعوا بهذا النهج التربوي إنتاج إنسان يشبه الآلة، مبرمج السلوك وسهل لإعادة البرمجة، ممكن تنويمه عن بعد، يتم التحكم في ردود أفعاله، غير مبالي بما هو جوهري إنساني في أغلب الأحيان، تم قتل ملكة النقد لديه، وحيل دون اكتسابه لقدرات التحليل، وبالتالي حصلنا على انسان مستهلك مستقبل، سطحي بسيط، منفعل عاطفي، انتظاري غير مبادر، غير قادر على التحليل والنفاذ إلى عمق الأشياء، وغير قادر أيضا على التركيب وتقديم الحلول والبدائل، مما يجعله دائما تحت رحمة الاخرين.

ثانيا: مجتمع منافق مريض.
نحن ننتمي لمجتمع يتبجح بالمثالية والنقاء والطهر والاستقامة والايمان...لكن ذلك فقط في الظاهر، وعبر الكلام، أما في الواقع فهو مجتمع مريض، منافق، سادي، جاهل، متخلف، مفكك،...، لا يحمل أية صفة من صفات ذلك الانسان المؤمن الصالح التي كثيرا ما ادعي توفرها فيه، وحاول تربية أبنائه على أساسها، والاستثناءات لا يقاس عليها.
ثالثا: كل المجتمعات التي تقدمت ركزت بناءها على الطفل عبر المدرسة ( بالتربية وليس شحن المعلومات فقط، بتلقين القيم الانسانية والاخلاق الصالحة، والتوعية بالحقوق التي تكرم الانسان، تنمية وتطوير القدرات على التحليل والنقد والقدرة على تقديم الحلول،...)، أي كرمته صغيرا ليكون صالحا منتجا وهو كبير. وأعدت برامج ومناهج تعليمية وتلفزية لتكوينه، بل علوما مختصة( علوم تعنى بالتربية)، ومدارس فكرية تعنى بدراسة التنشأة الاجتماعية والنمو السلوكي والنفسي للطفل على وجه الخصوص( اتجاهات ومدارس في علم النفس) ، وآثاره وانعكاساته على مستقبل الشخص.
وهي حثت مثلا على ألا يوصف الطفل بأوصاف ونعوت قدحية، مثلا كأن يوصف بالغبي، لأن ذلك يمس شخصيته ويجعله غير واثق من نفسه، ومشكك في قدراته، مما يجعله يحكم على نفسه بالفشل من البداية، فيكف بالتالي عن المحاولة والعمل من أجل التفوق والنجاح، وبالتالي يتحقق النعت أو الوصف بفشل الطفل دراسيا وانحرافه سلوكيا، ويصبح فعلا غبي. والأرقام تتحدث عن الاطفال الذين تم إقصاؤهم، بمعنى فشلوا في المستويات الدراسية، وقد تحدثت تقارير أممية عن ذلك، وكذا تقارير محلية، سيما فيما يخص الرسوب والانقطاع الدراسيين( 400 ألف حالة هدر مدرسي كل سنة خلال العقد الأخير، 700 ألف حالة تكرار كمتوسط سنوي وهو أعلى مرتين من المتوسط العالمي وهذه طبعا أرقام "المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي")، أو الضعف والنقص الكبير في التمكن من مواد دراسية محدد مقارنة بأقرانهم في نفس المستويات الدراسية في بلدان أخرى، منها بلدان عديدة تعاني من الفقر والحروب، خاصة في مواد كالرياضيات، حيث حاز التلاميذ المغاربة على علامات ضعيفة وحلوا في مراكز متأخرة في منافسات أجريت على المستوى العالمي( احتل التلاميذ المغاربة سنة 2018 المرتبة 74 من أصل 79 بلد شارك تلاميذه في البرنامج الدولي لتقييم التلاميذ "2018 PISA"، وهو برنامج يختبر تلاميذ الفئة العمرية 15 سنة في الرياضيات والعلوم والقراءة، وللاشارة احتلت المراكز الأولى الصين بأربعة مدن ثم استونيا وكندا وفنلندا وارلندا..، وهذا أحد أسباب تقدم ورقي هذه البلدان)، وأكيد أن الغباء ليس ملتصق بجينات الأطفال المغاربة، لا طبعا، لكن ما السبب خاصة أنه يوجد مغاربة جد متفوقين في علوم عدة عالميا؟. إنه لن يكون إلا نتيجة للتربية والتكوين بالمدرسة والاسرة والشارع والتلفزة التي انتهجت لمدة ليست بالقصيرة في حق المغاربة، التخريب من كل ناحية واتجاه (خذ مثلا البرنامج الذي أثار ضجة وسخرية واستغراب مؤخرا داخل وخارج المغرب لمنشط تلفزي غبي وجاهل يسأل أطفالا بالبرنامج حول ما إذا كانت لهم علاقات عاطفية جنسية مع الطرف الثاني، والبرنامج تنقله قناة التفاهة والتفسخ "2M "، أي برنامج مفروض على بيوت المغاربة، ويشاهده أطفالهم، إذن كيف سينمو ادراك ووعي الطفل واهتمامه المبكر وسلوكه مع مثل هذه التربية التي تغرس فيه منذ الصغر بطرق عدة؟، وغيره من البرامج).
صف طفلتك بالعاهرة وستبدأ في البحث عن ماهي العاهرة، ومن ثم ستنشغل أول ما تنشغل بجسدها. وصف الطفل بالسكير وسيبدأ البحث عن السكر والمخدرات، وللإشارة فقد صنف المغرب مؤخرا ضمن ثلاث بلدان الأولى ايفريقيا فيما يخص استهلاك المخدرات. لهذا نجد الأسرة الواعية وخاصة بالمجتمعات المتقدمة تنتقي الأوصاف لأطفالها، فتقول الأم أو الأب للطفل: طفلي الذكي، طفلي المهذب، طفلي المجتهد، طفلي السعيد،... وللطفلة: طفلتي الجميلة، طفلتي الذكية، طفلتي العاقلة، الناضجة، المخلقة، الطيبة. ولتشجيع الطفل على العمل والاجتهاد وإعطائه القدوة والمثال يقول له: ستصبح طبيبا ناجحا، ستصبح معلما معروفا، ستصبح مزارعا منتجا، ستكون شجاعا مدافعا عن الحق، ستكون أبا صالحا، ستكون قاضيا نزيها. وللطفلة: ستكونين طبيبة مشهورة، معلمة محبوبة، عالمة فذة، أما صالحة...، فيبدأ عقلهم بالاشتغال والبحث عن القدوة والتمثل ليكونوا صالحين، ناجحين، محبوبين، منتجين، عادلين، طيبين...
التربية كما سبق وأكدت، وكما يؤكد ذلك علماء التربية، أصبح مطلوبا أن تكون مؤطرة بالعلم أكثر من أي وقت مضى، خاصة في وقتنا الحالي الذي أصبحت فيه التكنولوجيا تخترق كل البيوت، والفضائيات تهدم ما تشاء في الانسان وتبني ما شاءت، يخلقون عبرها ويروجون للقيم التي أرادوا ويحجبون أخرى، ينشرون الأخبار التي شاؤوا ويمارسون التعتيم على أخرى، ونفس الشيء يفعله ما أصبح يعرف "بالمؤثرين الاجتماعيين"، إذ ينفخون في الأشياء التافهة حتى تصير جبلا، تشغل اهتمام وحديث الناس، ويتغاضون عن الأشياء المهمة حتى تختفي من اهتمام الناس بها. وصعوبة هذا الأمر تزداد عندما نجد أن أغلب الأسر محاصرة بالأمية وجهل مبادئ التربية، ومستنزفة الطاقة بمتطلبات القوت اليومي..(2)؛ فالأب لا يقرأ ولا يوعي نفسه، غير قادر على مواكبة التطور الحاصل في هذا المجال،. والأمهات نفس الشيء قد ينجذبن إلى تتبع المسلسلات التافهة والمنحطة أكثر من البحث في متطلبات التربية. لا وجود لبرامج تلفزية مستمرة للتوعية بالأمر ومساعدة الأسر التي تعاني من الأمية، جري الأب وراء لقمة العيش يأخذ منه كل وقته، إذن فمسؤولية التربية الهادفة محذوفة من قاموس الأسرة. والمؤشرات موجودة وتسمح بأخذ نظرة واضحة عن الواقع، خذ مثلا كم كتاب يقرأ خلال السنة من طرف الفرد في مجتمعات المنطقة بالمقارنة مع معدل القراءة في البلدان المتقدمة( حيث بين تقرير سابق لمؤسسة الفكر العربي أن متوسط قراءة الفرد الأوربي يبلغ حوالي 200 ساعة سنويا، بينما لا يتعدى المتوسط في المنطقة 6 دقائق، وحسب احصاءات منظمة اليونيسكو لا يتجاوز متوسط القراءة الحرة للطفل العربي بضع دقائق في السنة، مقابل 12 ألف دقيقة في "الغرب"، وأن كل مليون "عربي" لا يقرؤون أكثر من 30 كتابا مقابل 854 كتابا لكل مليون أوربي، بمعنى معدل قراءة الفرد العربي ربع صفحة مقابل مثلا 11 كتابا للفرد الأمريكي. أما فيما يخص ترجمة الكتب وبالتالي وصولها للقارئ ففي النصف الأول من الثمانينات كان متوسط الكتب التي ترجمت بالنسبة لكل مليون "عربي" هو 4,4 كتاب، أي أقل من كتاب لكل مليون شخص في السنة بينما كان الرقم في اسبانيا 920 كتابا لكل مليون. 80 عربي يقرؤون كتابا واحدا في السنة فيما أوربي واحد يقرأ 35 كتابا، كما تشير إحصاءات اليونيسكو الى أن بلدان المنطقة أنتجت مجتمعة 6500 كتاب عام 1991 فيما أنتجت أمريكا الشمالية 102000 كتاب وأمريكا اللاتينية 42000 كتاب، لعل هذه الأرقام تكفي للمقارنة والاحساس بحجم الهوة التي تفصلنا عن التقدم، والفرق بين إنسان وإنسان...)، ولاحظ أيضا نسبة ونوعية مبيعات الكتب في معرض الكتاب الذي يقام في الدار البيضاء كل سنة، وفي باقي محلات بيع الكتب، حيث تتحدث أرقام مبيعات المعرض وزوار أروقته عن أن أروقة بيع كتب الطبخ ومجلات الموضة تلقى الاقبال الأكبر من طرف الزوار، فيما تلقى أروقة الكتب الفكرية والعلمية النسبة الأضعف علما بمحدوديتها في المعرض.
إذن فمن أين سيأتي الوعي والمعرفة العلمية الهادفة، فالتربية علم وليست فوضى أو متاع يتم ميراثه عن الأباء والأمهات، فلكل زمن متطلباته وخصائصه، فما كان مطلوبا في الستينات والسبعينات أصبح غير كافي اليوم، مع الأخذ بعين الاعتبار مبدأ التطور، فما كان صالحا يوما قد لا يكون صالحا غدا، فالحياة والحركة تحمل معها الجديد دائما(4)، إذن من سيربي الأطفال؟، طبعا ليسوا حتى الأساتذة والمعلمين، بل الجهال والمتفسخات وحتى العاهرات والمشعوذين(3)..، كل هؤلاء الأصناف الذين كانوا مذمومين ومتخفيين، أصبحوا لهم تأثير على الناشئة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والقنواة الخاصة، وحتى في التلفزة الرسمية بالمغرب.
ولهذا إذا كان التشرذم الأسري، والتفسخ والانحلال والوضاعة...هي مميزات أسر معينة، فالأسباب بينة، والنتائج متوقعة، يمكن التنبؤ بخطورة تحققها في المستقبل.

بداية دجنبر 2020
هواش:
(1)أنظر رسائل السجن، وقضايا المادية التاريخية لأنطونيو غرامشي.

(2) "ولتحقيق هذا الهدف كان لابد من خلق وتأمين وتطبيق أسلحة جديدة تميزت بأنها معقدة المبائ ومتطورة وبارعة في الأداء مما يجعلها جديرة بتسميتها "الأسلحة الصامتة".
وكنتيجة كان الهدف من البحوث الاقتصادية (التي قيدت بواسطة الأقطاب المصرفية وصناعات السلع والخدمات) تكوين اقتصاد يمكن التنبؤ بتغيراته، وبالتالي يمكن علاجه.
ولغايات تحقيق مثل هذا الاقتصاد سيتم إخضاع الطبقات الدنيا من المجتمع تحت سيطرة كاملة، ليتم ترويضهم بالكامل، كأن يلزموا بأعمال طويلة الأمد من سن مبكرة جدا حتى لا يتسنى لهم طرح أية أسئلة عن الواقع. وأن يتم العمل على تفكيك الأسر بجعل الأباء أكثر إنشغالا عن أسرهم، وإنشاء مراكز حكومية لرعاية الأطفال الذين شغل أباؤهم عن رعايتهم.
ويتم إخضاع الطبقة الدنيا من المجتمع لنوعية متدنية من التعليم حتى تبقى الفجوة كبيرة بين الطبقة العليا(المتعلمة) والطبقة الدنيا فيكون عائق الجهل كبيرا لدرجة تمنع حتى الأذكياء من الطبقة الدنيا بمجرد التفكير في تحسين أوضاعهم.
هذا النوع من الاستعباد ضروري للضبط الاجتماعي والحفاظ على السلام، وبالتالي إبقاء القياد بيد الطبقة العليا."
من مقدمة لكتاب "أسلحة صامتة لحروب هادئة"
(3) لاحظ مثلا كيف أصبح عاديا تداول أشرطة العاهرات وهن يعرضن تضاريس أجسادهن عبر وسائل وصفحات التواصل، وهاته الأخيرة تجمع أفراد الأسرة(الأخت، الأخ، الأب، الأم، الخالة، العمة، الابن، البنت ...) لمشاهدة محتواها، هذا دون أن يتحرك لدى من يقوم بنشرها أي وازع أو رادع أخلاقي، وطبعا هؤلاء الذين كبروا بدون شرف ولا شهامة، سنجدهم يشكلون أسر تفرخ من صلبها كل مظاهر التفسخ والانحلال والوضاعة، والكل تابع مثالا من بين هؤلاء النماذج المنحلة كيف أن زوج يصور شريط لزوجته وهي تنجز أعمال منزلية في وضعيات جسدية مخلة، ويقوم بنشره، ويعتبر ذلك مدخلا للرزق!!!. دون أن ننسى التداول الكبير لأشرطة المشعوذين وتجار الدين، الذين لم يعد الانسان العادي يعرف معهم الحلال من الحرام، في ظل تضارب تفسيراتهم واستغلالهم لوتر الدين لاستهداف العواطف وجلب المتتبعين الذين يكف عقلهم عن التفكير والتحليل والنقد عندما تقدم لهم النصائح والتوجيهات الخاطئة في غلاف ديني، والأمثلة عديدة جدا، والتي تبين مدى عمق الدرك الذي إنحدر إليه المجتمع، والذي يدعوا حقيقة إلى الخوف من المستقبل ما لم يتم وقف الأمر.

(4) في تقرير عن محاضرة للمهدي المنجرة بعنوان " العولمة وأثرها على دول العالم الثالث" ، منشور ضمن كتابه إنتفاضات في زمن الذلقراطية، جاء في معرض حديث المنجرة: أن إنجازات البشرية كلها تساوي ما تم التوصل إليه خلال 30 سنة الأخيرة في الميدان المعرفي، كما أن مجموع المعرفة الانسانية يتضاعف كل 7 سبع سنوات، وذلك حسب ما يراه الباحث والإقتصادي الإنجليزي ريشارد نايت. ويبلغ عدد المقالات العلمية التي تنشر سنويا إلى ما بين 6 حتى 7 ملايين مقال ينشر في 75000 مجلة علمية، والمفردات التكنولوجية تزداد سنويا ب 40000 كلمة أو مصطلح.
وعلى ضوء هذا فالمنجرة اقترح تحديد مفهوم جديد للأمية: في ظل هذا التطور الكبير الذي عرفه ميدان العلم، والتحول السريع الذي سيطرأ على المجتمعات، أصبح من الضروري تحديد مفهوم جديد للأمية. فالأمية ليست عدم القدرة على القراءة والكتابة فحسب، بل هي أيضا عدم القدرة على تجديد وتطوير المعلومات المكتسبة وعدم القدرة على مواكبة التغيرات العلمية.