مستقبل المشروعات القومية بوصفها قاطرة للتنمية في الوطن العربي (2/ 2)


حسن خليل غريب
2020 / 12 / 27 - 14:59     

ثالثاً: موقع التنمية القومية العربية في منظور المشاريع الاستعمارية
إذا عزلنا مفهومنا للتنمية عن معرفة العوائق التي تقف في وجهها، سوف تكون أية خطة توضع لها قاصرة عن أهدافها، ويصبح مصير إدامتها مرتهن لوجود تلك العوائق، إذ أنها ستتوقف إذا ازدادت العوائق في وجهها. وعلماً أن الدول الرأسمالية الكبرى كانت وما زالت صاحبة المصلحة في منع أقطار الوطن العربي بالانتقال بالشعب العربي من دور المستهلك إلى دور المنتج. ولذلك كان اهتمامنا بتوضيح موقف الدول الغربية من خطط التنمية الوطنية والقومية.
وعن ذلك، فإن المخططات الاستعمارية – الصهيونية تعتبر التنمية في الوطن العربي تناقضاً رئيسياً مع مصالحها التي رسمتها منذ بداية القرن العشرين. وهذا ما جاء في مقررات مؤتمر كامبل بانرمان الذي دعت إليه بريطانيا، بين العامين (1905 – 1907)، وحضرته معظم الدول الأوروبية. وفيها اعتبر المجتمعون «أن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للإستعمار. والإشكالية فيه أنه يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان» من جهة. وفي محيطه «دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية، ويوجد تصادم حضاري، معها وتشكل تهديداً لتفوقها، وهي بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام»، ومن أجل درء هذه المخاطر قرَّر المجتمعون «الإبقاء على شعوب المنطقة مفككة جاهلة متأخرة». و«حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية، وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول لإمتلاك العلوم التقنية، ومحاربة أي توجه وحدوي فيها».
يتبيَّن من المقررات، التي يعود تاريخها إلى أكثر من قرن من الزمن. وإذا قمنا بمراجعة لأهدافها في هذه المرحلة لوجدنا أن مقررات مؤتمر كامبل بانرمان تشكِّل الأب الروحي للعولمة الحالية. سواءٌ أكان من حيث منهجية (اقتصاد السوق) بالحث على الغرق في مجال التجارة وإبقاء المجتمعات العربية في مستوى الشعوب المستهلكة، أو من حيث وضع عوائق لمنع اكتساب الخبرات والعلوم التقنية التي يستفيد منها العرب في أسس التنمية حتى لا يتحولوا إلى مجتمعات منتجة. وبنتيجة كل ذلك، نرى أن أهداف الدول الرأسمالية تجاه الوطن العربي، يتمثَّل في وضع العوائق في وجه التنمية الاقتصادية في الأقطار العربية. وهنا نلخِّصها بهدفين رئيسيين، وهما: التقسيم ومنع قيام الوحدة السياسية. واستمرار الجهل والتخلف بمنع اكتساب العلوم والمعارف التقنية إلاَّ بما يخدم مصالحها.
ففي المرحلة الحديثة والمعاصرة يلفتنا حدثان، في مصر والعراق، يؤكدان وقوف الاستعمار والصهيونية ضد التنمية الوطنية والقومية. أما في مصر فقد وقفت أميركا ضد تمويل بناء السد العالي، الأمر الذي دفع بالاتحاد السوفياتي للمساهمة في بنائه. وأما في العراق فقد وجَّه جيمس بيكر، وزير خارجية جورج بوش الأب، في العام 1990، بإعادة العراق إلى العصر ما قبل الصناعي. وهذا ما قام بتنفيذه جورج بوش الإبن باحتلال العراق في العام 2003، وتدمير كل البنى الصناعية التحتية، أو سرقتها. وامتدت المؤامرة ضد التنمية على الصعيد القومي في عهد الرئيس أوباما، منذ العام 2011، حينما قضى (الربيع العربي) على البنى الصناعية التحتية وسرقتها في كل من سورية وليبيا. وبذلك، بالإضافة إلى إحداث الفوضى العارمة، وتدمير كل مظاهر الدولة وتقسيمها بإحلال سلطة الميليشيات كبديل للجيوش الوطنية وعادت تلك الدول إلى مرحلة ما قبل الدولة، محققة أهداف تقسيم أقطار الوطن العربي لمنع نفاذ مشروع الوحدة العربية، فإنها دمَّرت كل ما له علاقة بالمشروعات التنموية الوطنية.
وإذا فتشنا عن الوسائل الحديثة التي تطبقها تلك الدول، فسنجد ما يلي:
أ-تعلن عداءها للقومية العربية، وتتعاون مع كل القوى التي تتلاقى معها بالعداء. ولذلك فهي تعزز مواقع التيارات الدينية السياسية وتدعمها تحت ذريعة نشر «الإسلام المعتدل». وإن الغرض من وراء هذا الدعم، فلأن تلك التيارات وقفت سابقاً، وحالياً، في مواجهة دائمة مع التيارات القومية، وزعمت أن «القومية ما وُجدت إلاَّ لمحاربة الإسلام». ومن أجل هذا السبب تشقُّ دول التحالف الرأسمالي الطرق والوسائل لتعميق عوامل التفتيت في المجتمع العربي على أسس طائفية. وليس هناك من هو أكثر جدارة من التيارات الدينية السياسية في تعميق الفتن الطائفية. ولعلَّ ما برز من مظاهر ما أطلق عليه «الربيع العربي» هو تغذية الانقسامات الطائفية بين مكونات المجتمعات الوطنية. وبالتالي تؤكد الوثائق المنشورة على أن قوى الرأسمال الغربي، تدعم التيارات الدينية السياسية، فلأنها لا تشكل خطراً على الاقتصاد الرأسمالي الغربي، استناداً إلى مبدأ مشهور، وهو أن «الحركات الدينية السياسية تعرف كيف تهدم، ولكنها تجهل كيف تبني». وأما أنها تعرف كيف تهدم، فقد استغلَّت قصور الحكومات العربية عن تلبية المطالب الشعبية، فاستفحلت البطالة والفقر والمرض. ومعها أصبحت الأوساط الشعبية الأكثر حاجة (بيئة حاضنة) لتلك التيارات. ويتأكد ذلك، إذا عرفنا أن الشباب المهمل يشكلون 60 % من نسبة السكان في الوطن العربي، فانقاد معظمهم نتيجة التعمية الفكرية والفراغ السياسي إلى تبني أفكار الرجعية السلفية بكل مظاهرها.
بـ-نشر أيديولوجية (اقتصاد السوق)، و(تحرير التجارة العالمية)، وهو عبارة عن تشجيع ودعم المنهج التجاري، وما يتعلق به من وكلاء ووسطاء تجاريين، وهذا ما فيه من إغراءات للطبقة الثرية، مالكة الرأسمال الوطني، لكي توظف رأسمالها للاستثمار في مجالات اقتصادية بعيدة عن المخاطر ومن أهمها التجارة، والتي فيها تحقق أرباحاً طائلة من دون عناء أو مخاوف من الخسائر. ولذلك نستطيع أن نفسر ابتعاد الرساميل العربية، وطنياً وقومياً، عن المغامرة في الاستثمار في مشاريع التنمية على الصعيدين الوطني والقومي.
جـ-إعادة الدولة الوطنية إلى مرحلة ما قبل الدولة. وإعادة الاقتصاد الوطني إلى مرحلة ما قبل الصناعة. وتلك حقائق قريبة جداً، وما تزال تتفاعل حتى الآن في أكثر من قطر عربي تحت سقف ما أطلقوا عليه اسم (الربيع العربي).
د-تدجين العرب في ثقافة الاستسلام، وزرع ثقافة اليأس، وفقدان الثقة بالنفس، من أجل السيطرة على ثرواتهم. وحيثما يمَّم العربي وجهه، سيجد أن الشبق الرأسمالي يفتِّش عن كل ثغرة في جدار العرب من أجل استكشاف الثروات ووضعها تحت سيطرة شركاته العابرة للقارات.

رابعاً: تكامل العوامل والأدوار في إنجاح التنمية الوطنية:
التنمية منهج لحياة المجتمعات الحديثة، وهذا يتطلب تعميم ثقافة التنمية على شتى المستويات، الرسمية والشعبية. وهنا، وباختصار سنقوم بتكثيف رؤيتنا لمجموعة العوامل التي تسهم في الدخول إلى رحابها. ويأتي في المقدمة منها توضيح دور كل من الدولة والمجتمع والرأسمالية الوطنية.
1-دور الدولة:
ولأن الدولة قائدة للمجتمع، والمخطط لبناء دولة حديثة، والتي عليها أن تهتم بشؤون المجتمع وتحسين أوضاعه نحو الأفضل، يتوجَّب في سبيل ذلك أن تضع خططها التنموية على دورات زمنية، خمسية وعشرية، تحدد فيها البدء بخطة تنموية وتاريخ إنجازها على أن توفِّر لها مصادر التمويل. ولهذا يكون التخطيط من أهم عوامل ضبط الدورات وإنجازها في توقيتاتها. ولأنه لا خطط قابلة للتنفيذ من دون غطاء مالي، على الدولة أن تخصص في ميزانيتها السنوية اقتطاع جزء منها للمشروعات التنموية. وتعتبر هذا الواجب له أولوية على الكثير من أوجه الإنفاق.
وتلافياً لمفاجآت العوامل المعيقة والمعرقلة للمشروعات التنموية من قبل القوى الصناعية الكبرى، خاصة وأنها أصبحت واضحة في البند الثالث، على الدولة أن تبقى ساهرة لإزالة أي عائق ومعالجته بالطرق المناسبة. وعادة من يضع تلك العوائق والعراقيل هم أصحاب الرساميل الوطنية المرتبطين بحركة التجارة العالمية. ويشكلون الخطورة الأكبر إذا كانوا أعضاء في السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتأتي هذه الخطورة من عرقلتها مشاريع القوانين الخاصة بالتنمية. وإذا أُقرَّت، فيُخشى عليها من عوائق التنفيذ في السلطة التنفيذية.
2-دور المجتمع:
ولأن للمجتمع دور كبير في إدامة مشاريع التنمية. ولأنه لا تنمية من دون وعي جماهيري بأهميتها، تصبح (ثقافة التنمية) عاملاً أساسياً من عوامل نجاحها. ولهذا يترتب على الدولة أن تلحظ في إعلامها الموجَّه للشعب، وفي مخططاتها التربوية على شتى مراحل التربية والتعليم، مادة تُعنى بـ(ثقافة التنمية).
إن ثقافة التنمية يمكن الترويج لها على الصعيدين الإعلامي الشعبي، وعلى صعيد التنشئة التربوية في المؤسسات التعليمية.
أ-على صعيد الإعلام الشعبي:
ولأن أي مشروع تنموي بحاجة إلى الأيدي العاملة أولاً، وبحاجة إلى سوق استهلاكي ثانياً، وكلاهما يعتمدان على عامل أساسي وهو الشعب. فمنه مصدر للأيدي العاملة، وإليه يعود ترويج السلعة الوطنية، نعتبر أن توجيه الإعلام التنموي يجب أن يتركَّز على الشرائح الشعبية الواسعة لعدة أسباب، ومنها: استقطاب اليد العاملة، والترويج للسلعة الوطنية، وتوجيه الطلبة للالتحاق بالمعاهد الفنية.
وهنا، وإذا كان المشروع يستقطب الأيدي العاملة بسهولة، لفائض اليد العاملة المعروضة عن طلب المؤسسات الإنتاجة، فإن الترويج للسلعة الوطنية، وللالتحاق بالمعاهد الفنية، تكمن فيهما المشكلة. ولهذا يجب حثّ الشعب للاستهلاك من إنتاجه الوطني. ومن حيث أهمية دور الأهل في حثِّ أبنائهم للالتحاق بالمدارس، في الدول التي لا تعتمد مبدأ (إلزامية التعليم)، وتوجيههم بشكل خاص للالتحاق بالجامعات والمعاهد الفنية، خاصة في ميادين الصناعة والزراعة.
بـ-على صعيد نشر ثقافة التنمية في المؤسسات التعليمية:
ولأن التنمية الحديثة تحتاج إلى اختصاصيين وعمال مهرة، وهؤلاء لا بُدَّ من أن يكونوا خريجي الجامعات والمعاهد العلمية والمهنية. يجب على إداراتها أن تكون على دراية بحاجة الدولة لشتى الاختصاصات المهنية، والتي بناء عليها يمكن توجيه طلابها للتخصص في الميادين المطلوبة، وبذلك تتوازن ثنائية العلاقة بين العرض والطلب.
جـ-التنمية منهج لتجفيف منابع (الإرهاب):
لقد استغلت الحركات الدينية السياسية تقصير الأنظمة الرسمية في أداء وظيفتها الاقتصادية والاجتماعية، بتبعاته الكارثية على المجتمع الوطني، وتساوت الأنظمة الرسمية لعربية بالتقصير، فأهملت دور التنمية التي توفِّر فرص العمل أمام الشباب، والاقتراب نحو بناء مجتمع تقل فيه نسب الفقر. وهذا الواقع المتخلِّف سهَّل مهمة التيارات الدينية السياسية في استغلال تقصير الدولة، والتحريض عليها، واكتساب المزيد من الأنصار والمؤيدين من العاطلين عن العمل، والعاملين في سبيل توفير سبل معيشة عوائلهم. وهذا الواقع بدوره زاد من نسبة المؤيدين لتك التيارات. ولأنها تعرف كيف تهدم، وتجهل كيف تبني، انتشرت مناهج التغيير الداخلي بالقوة المسلَّحة باسم الدين. ولأن الشعوب التي تتعرض للكوارث، ولا تجد من يفسر لها سبب حصولها، فإنها تلجأ إلى شعوذات يبثُّها المنتسبون إلى تلك التيارات استغلالاً للنقمة الشعبية. وبذلك توظِّف المنتسبين إليها أو المتأثرين بها من أجل تنفيذ مشاريعها السياسية في بناء الأنظمة الدينية. ولهذا على الدولة، التي تريد أن تكافح الإرهاب، أن تكافح أسبابه. ولأن أسبابه أصبحت واضحة في تغييب التنمية الشاملة، على الدولة أن تكافح الإرهاب بالاهتمام أولاً، وقبل أي شيء آخر بالمشروعات التنموية.
وهنا، لا بُدَّ من الإشارة إلى أنه منذ أوائل السبعينيات من القرن العشرين، وُضعت التيارات الدينية السياسية في مواجهة مع القوى القومية وقوى التغيير المدني. وتمَّ ذلك بتشجيع من قوى الرأسمال الغربي من أجل تعطيل أصوات قوى التغيير. ولذلك، ندعو إلى إعادة الحياة إلى تلك القوى، والتشجيع على إعادة تنظيمها، وهذا يُسهم بشكل جدي في نشر ثقافة التنمية لمواجهة التيارات الدينية السياسية التي تعتبر أن مهمتها الرئيسية إسقاط الأنظمة الرسمية ولا تعني التنمية لها شيئاً آخر.
3-دور الرأسمالية الوطنية:
ولأنه في الدول النامية تلعب الرأسمالية الوطنية دوراً سلبياً أو دوراً إيجابياً تبعاً لمصالحها، يمكن للدولة أن تُشرك الرأسمالية الوطنية في مشروعات التنمية، وعادة ما يُطلق علىها اسم (الشراكة بين القطاعين العام والخاص). بما في هذا المنهج من تطمين لأصحاب تلك الرساميل. وهذا ما يضمن إشرافهم على حسن إدارتها لتجاوز الروتين في القطاع العام، وبالطبع سيكونون حريصين على ضمان الربح تحصيناً لرساميلهم التي وظَّفوها. وإنه بالقدر الذي يحصلون فيها الأرباح، سيطمئنون على رساميلهم، وسينخرطون أكثر في مشروعات التنمية الوطنية.

خامساً: العلاقة بين التنمية الوطنية والتنمية القومية
من البديهي الاعتقاد أن مشروعات التنمية، بشكل عام، تتَّسع كلما جذبت إليها الرساميل أولاً، وكلما وجدت أسواقاً لاستهلاك منتوجاتها ثانياً. إذن، يُعتبر الرأسمال الكافي للتمويل، والسوق القادرة على استيعاب الكميات الإنتاجية، من أولويات اهتمام الدولة في توفيرها. وغني عن البيان أيضاً، القول بأن مصادر التمويل القومي تضيف إلى التمويل الوطني، دولة وقطاعاً خاصاً، قوة نوعية لأن للرأسمال القومي قوة تضاهي قوة الرأسمال الدولي، وهو ما تخشى الدول الكبرى من توظيفه في المشروعات التنموية الوطنية والقومية، لأنه الرأسمال الأكبر الذي إذا ما تمَّ تجميعه سيشكل قوة منافسة حقيقية لرساميل الدول العظمى. وإذا ما رُبطت أسواق الاستهلاك على مستوى الأقطار العربية، فسوف تمثِّل سوقاً إستهلاكياً يقع في الدرجات العشر الأولى على الصعيد العالمي. تلك حقيقة يعرف العالم الصناعي خطورته على اقتصادياته. فعلى العرب أن يعرفوا مدى إيجابيتها الواسعة على الاقتصاديات الوطنية العربية من جهة، وعلى مجمل الاقتصاد القومي العربي من جهة أخرى. ومن أجل هذا السبب، ليس من المستغرب أن تلجأ الدول الصناعية الكبرى لمنع التنمية في الأقطار العربية أولاً، ووضع العراقيل في وجه أي وعي وحدوي ثانياً.
بداية، وللأسباب التي وردت في المقدمة أعلاه، لا بُدَّ من الإشارة إلى تلازم العلاقة بين مشروعات التحرر السياسي ومشروعات التنمية الاقتصادية. وهذا واضح مما سبق وأشرنا إليه في البند الثالث من هذه الدراسة، وموجزه أن المخططات المعادية ربطت بينهما، عندما نصت مقررات كامبل بانرمان على ذلك، بحرمان الدول العربية «من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية، وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول لإمتلاك العلوم التقنية» من جهة، و«محاربة أي توجه وحدوي فيها» من جهة أخرى. واستناداً إلى تلك الحقيقة، يتوجب على كل مخطط تنموي، بشري أو اقتصادي، يتم وضعه من قبل الدولة الوطنية أن تأخذ بعين الاعتبار تلك الحقيقة، وأن تكون محصَّنة ضد تسلل العراقيل من قبل القوى التي أشرنا إليها أعلاه، ومنعها من النفاذ أولاً، وأن تدرك أن المشروعات الوطنية وإن سُمح لجزء منها بالنجاح، إلاَّ أنها تبقى مهدَّدة بالمنع من أن تكون جزءاً من المشروعات القومية ثانياً.
ونعني هنا، بمعركة التحرر السياسي، ليس تحرير الأقطار العربية المحتلة فحسب، بل تحريرها من مجموعة الضغوطات السياسية والاقتصادية التي تمارسها الدول الكبرى على العدد الأكبر من الأنظمة الرسمية، وتعمل على تكبيلها بقيود اتفاقيات ظاهرها يتلطى بالمصلحة المشتركة بين الدولتين، وباطنها فرض المزيد من القيود الاقتصادية من أجل الاستجابة لمتطلبات (اقتصاد السوق)، و(تحرير التجارة العالمية)، بما فيهما من قيود تعرقل مشروعات التنمية الوطنية. وفيه ما يجعل من الشركات الخاصة شركات تتوسَّل الربح المالي على حساب التنمية البشرية للمجتمع.
إقتصاد السوق أوالاقتصاد الحر هو عدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية وترك السوق يضبط نفسه بنفسه. ويعتمد بالأساس على فكرة الحرية الفردية، في أن يقوم الفرد بأى نشاط اقتصادي. ولهذا يفرض هذا النوع من الاقتصاد على الدولة بألا تقوم بأى نشاط اقتصادي يستطيع فرد أو مجموعة أفراد القيام به. وهو يقوم على الملكية الخاصة، للأفراد والمؤسسات، لوسائل الإنتاج والمبادرة الفردية، ويخضع لتفاعل العرض والطلب داخل السوق، والمنافسة الحرة وتحرير الأسعار من أي قيد.
إن النظام الاقتصادي الحر الذي يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة، لا يجب أن يعني تغييب دور الدولة للحد من تغول رأس المال، بل المصلحة الوطنية تقتضي تدخلاً فاعلاً من قبل الدولة لأجل توفير شبكة أمان اقتصادي تستفيد منه الأغلبية الشعبية العظمى، وتستفيد من عائداته الرأسمالية الوطنية، ويتم ذلك عبر مشاركة الدولة كممثل للقطاع العام مع القطاع الخاص المحكوم بضوابط وطنية. والمهم أن مستقبل التنمية والاستقلال الوطني لا يمكن فصل أحداهما عن الآخر. وسيبقى الاستقلال السياسي ناقصاً ما لم يدعم بالاستقلال الاقتصادي، الذي يتحقق في الجوهر من خلال استعادة كامل الموارد والثروات الوطنية ودمجها بالتنمية القومية.

1-تكامل الاقتصاديات الوطنية حافز لإنتاجية قومية:
تُعتبر المشروعات الوطنية ميدان الاختبار الأول للتنمية، وبمقدار نجاحها، ستشكل حافزاً أمام الرأسمالية الوطنية لتوظيف ثرواتها فيها. وهي بالتالي ستشكل حافزاً أمام دخول الرأسمالية القومية إلى ميدان التنمية خارج مواطنها القطرية.
وأما عن الرأسمالية الوطنية، وبنجاح التجارب التنموية، الصناعية والزراعية والتجارية، فستتخلى عن مخاوفها. وهذا الأمر سيشجع أصحاب الرساميل من الأقطار الأخرى على التخلي عن مخاوفها أيضاً. وإزالة المخاوف من شعارات يتم الترويج لها لأهداف عرقلة التحول الاجتماعي، ومن أهمها تصوير الاشتراكية كأنها تقوم على مبدأ (توزيع ثروات الأغنياء على الفقراء).

2-أهمية دور الرأسمالية القومية في التنمية، ودور الدولة الوطنية في حمايتها:
إذا اعتبرنا أن التنمية حق مشروع للشعب العربي. وأنها تصب في مصلحة الأغنياء والفقراء، ينال الأغنياء حصتهم من عائدات التنمية، وينال الفقرء حصتهم من مشاركتهم في عملية الإنتاج، وتنال الدولة حصتها لتوظيفها في إنشاء مشروعات أخرى من التنمية.
وإذا أعتبرنا أيضاً أن موقع التنمية في مفهوم الرأسمالية العربية الراهنة، لا تبتعد عن مفاهيم العولمة الرأسمالية، فأهدافها واحدة وهي الربح أولاً وأخيراً. ولذلك فالعولمة الاقتصادية تفتش عن مجتمع الاستهلاك لتصدير إنتاجها، ولا تكترث بمجتمع الإنتاج في الدول الأخرى حتى لا يوجد منافسين لها. إن الرأسمالية العربية الراهنة، بابتعادها عن الانخراط في مشاريع التنمية الوطنية والقومية، تبرهن على أنها خاضعة للتبعية الاقتصادية الغربية.
لكل ذلك، تعمل القوى الداعية للعولمة، والترويج لها، على تخويف الدول العربية الغنية من أن الدعوة إلى الإسهام في مشاريع التنمية القومية، وكأنها مصادرة لثرواتهم وتوزيعها على الدول العربية الفقيرة. وكذلك تخويف الرأسمالية القومية من خسارة أرصدتها في مشروعات تنموية في الأقطار العربية الأخرى، خوفاً من فشل تلك المشروعات، وبالتالي خسارة الأموال التي يتم توظيفها فيها.
هذا الجانب، يمكن معالجته بتوفير كل الضمانات لحماية الرأسمال العربي، ومن أهمها:
-توفير الأمن الوطني ضد التخريب من أي مصدر أتى.
-سنُّ القوانين والتشريعات الخاصة بتوفير ضمانات تحمي تلك الرساميل.
-توفير أنظمة قضائية وإدارية كافية وكفؤة لمنع الفساد في إدارة المشروعات، وسنّ تشريعات عقابية شديدة بحق كل أعضاء السلك الإداري المسؤول عنها.

3-مجموع الإمكانيات القومية تدعم المشروعات القومية المشتركة:
أصبح من الواضح أن الوطن العربي يمتلك إمكانيات كبيرة تصلح لتكون قاعدة لاقتصاد قوي ومتين. وهي: الثروات الطبيعية المتنوعة. والقوة المالية الكبيرة التي تُعتبر الأرصدة السائلة المجمَّدة بالمصارف الغربية قاعدتها الثابتة. والسوق الاستهلاكي الواسع الذي يتجاوز الثلاثماية مليون عربي. والأيدي العربية العاملة، من اختصاصيين وعمال مهرة وأيدٍ عاملة. كلها تكفي للبرهان على أن الوطن العربي مستهدف بشكل دائم من الرأسمالية العالمية من جهة، وتشكل الحافز الرئيس أمام الدول العربية لكي تتجه نحو تحقيق هدفين أساسيين، وهما: (ثروات العرب للعرب)، و(توظيف رأس المال العربي لمصلحة العرب) من جهة أخرى.

سادساً: في نتائج الدراسة
أصبح من الواضح أنه لا تنمية اقتصادية واجتماعية بوجود الهيمنة السياسية على قرارات الدولة العربية، ومن هنا تأتي أهمية الربط بين هدفي التحرر السياسي والتنمية الاقتصادية. ولعلَّ ما جرى في ما يسمى وقائع (الربيع العربي)، يثبت بما لا يقبل الشك بأنه كان يُقصد منه زرع أكبر ما يمكن من عوامل التفتيت والتجزئة للحؤول دون وحدة المجتمعات الوطنية، وتالياً تعميق الحواجز بين الأقطار العربية للحؤول دون الوحدة العربية. وبين هذا السبب وذاك، تلعب بعض القوى المحلية، تيارات دينية سياسية، والطبقة التجارية الوسيطة، دور الرابط والمشارك مع القوى الرأسمالية الخارجية. ومواجهة الأولى يتم بتعزيز عوامل التنمية لتجفيف أحواض (البيئة الشعبية الحاضنة لها). وأما الثانية فبتطمينها بأن التنمية لا تعني توزيع راسماليها على الفقراء، بل بإشراكهم بها ليتلقوا أجورهم لقاء الجهد الذي يبذلونه، وبالتالي تعزيز مصادر الدخل الوطني والقومي الذي يحقق مصالح الطرفين، الرأسمالية الوطنية، ومصالح الطبقات الفقيرة.
واستناداً إلى ذلك، تقع على عاتق الحكومات الرسمية تعميم (ثقافة التنمية) على الصعيدين الوطني والقومي:
-تبيان أهميتها في تحديث المجتمع ووضعه على طريق الإنتاج بما له من أدوار في تنمية العائدات المالية الوطنية، وفي الحد من البطالة، وتطوير البنى التحتية على شتى أشكالها التي تصب في مصلحة المجتمع الوطني. ولارتباطها الوثيق بالتنمية على الصعيد القومي، يمكن اعتبارها، في حال نجاحها، مرحلة أساسية على طريق التنمية القومية الشاملة.
-تبيان أهمية التنمية القومية، وتكامل الحالات الإنتاجية في الأقطار العربية، واستيعاب كل الطاقات الشابة المتخصصة. وهي تكاملية بالمعنى الاقتصادي من حيث تنوع مصادر الإنتاج ووجود الثروات الطبيعية من صناعية وزراعية، ووجود الرساميل الكبيرة، التي عليها أن تنتقل من دور التراكم السلبي الذي يوفره الجانب التجاري، إلى دور التراكم الإيجابي الإنتاجي الذي يوفِّر عائدات مالية أكبر تستفيد منها الرأسماليتين الوطنية والقومية من جهة، وتصب في مصلحة أوسع الطبقات الاجتماعية من جهة أخرى. هذا علماً أن تكامل التعاون بين الدولة والقوى الرأسمالية الوطنية، وتالياً مع الرأسمالية القومية، مع استصدار القوانين والتشريعات التي تشكل حماية للإنتاجين، الوطني والقومي، من طغيان المنافسة مع السلع الأجنبية في ظل عولمة الأسواق وتحرير التجارة العالمية. كل هذا يؤدي إلى الاستفادة من غزارة الإنتاج القومي، واتساع الأسواق الاستهلاكية القومية.