لكيلا يدق المسمار ألأخير في نعش الحياد العلمي


جاسم ألصفار
2020 / 12 / 25 - 20:47     

د. جاسم الصفار
24/12/2020
ذكر مدير الصحة العامة في وزارة الصحة والبيئة رياض عبد الأمير الحلفي لـ”واع” ان "وزارة الصحة وصلت إلى مراحل متقدمة من المفاوضات مع شركة فايزر الأميركية، ومن المحتمل أن يتم في الأيام المقبلة (أي قبل نهاية شهر كانون الأول من هذا العام- الإضافة مني) توقيع اتفاق معها لتجهيز العراق بكمية من اللقاح، تصل الى مليون ونصف المليون جرعة، خلال الربع الثاني من السنة المقبلة" .واستدرك الحلفي، أن "الوزارة متواصلة مع بقية الشركات، لكن هناك شرطا للتوقيع معها يتوقف على اعتمادها دولياً"، ولتوضيح فهمه للاعتماد الدولي، أكد الحلفي على أن "لقاح فايزر تم اعتماده من وكالة الأدوية البريطانية، ووكالة الأدوية والغذاء الأميركية" (!).
ليس من شك في الرصانة العلمية للوكالتين ألأمريكية والبريطانية، ولكن في روسيا والصين توجد نظائر للوكالات الغربية، تعترف برصانتها وتتعامل معها منظمة الصحة ألعالمية، فلماذا لا يعتد العراق باعتمادها للقاحات تم تجهيزها في تلك البلدان، وأخص منها روسيا التي بدأت بنجاح، قبل غيرها، بالتطعيم الجماعي الطوعي لمواطنيها.
يحق لخبراء وزارة الصحة والبيئة العراقية أن يختاروا اللقاح المناسب لتطعيم المواطنين ضد فيروس كوفيد-19، كما أن من حقنا كمواطنين أن نتساءل عن المعايير التي استندت اليها الوزارة في اختيارها، سواء العلمية منها أو التجارية، عدا "الاعتماد الدولي" الذي "اشترطته" الوزارة، كما جاء في تصريح الحلفي، أعلاه. هذا، بالطبع، إذا كانت الوزارة هي التي اختارت لقاح شركة فايزر، دون املاءات من الخارج، تتجاوز المصالح الوطنية للعراق وتسعى لتحقيق مكاسب سياسية وعوائد مالية على حساب المواطنين البسطاء. ولا حاجة بي هنا للتذكير بما تتعرض له دول العالم، وخاصة منها تلك التي تخضع للإرادة ألأمريكية، الى ضغوطات، كما في حالة هنغاريا، وأحيانا للأوامر المبطنة بالتهديد، كما في حالة أوكرانيا.
مقدما، لابد من التأكيد، على أني في هذه المقالة المتواضعة، لا أنتقص من أهمية أي من اللقاحات، في أي مرحلة كانت من التطوير والإنتاج، بغض النظر عن مصدرها. فهي قبل كل شيء تعتبر مكسبا هاما يحسب للإنسانية جمعاء، كما أنها عتبة أخرى تتجاوزها بنجاح علوم المناعة والاوبئة. لذا يجب الحرص على تلك المكاسب وعدم تبديدها أو الانحطاط بها، بإخضاع المعايير العلمية للإرادات السياسية. وهذا يتطلب من وزارة الصحة والبيئة، ان حسنت النوايا، إعادة النظر في قرارها باقتناء لقاح بعينه دون غيره من اللقاحات المتاحة، بإخضاعه للمعايير العلمية ومصالح العراق الوطنية. ولكيلا توضع أو تفهم تلك المعايير بصورة متحيزة وغير موضوعية، دعونا نعود الى البدايات.
ذكرت منظمة الصحة العالمية في تقرير لها نشرته في أبريل من هذا العام، أنه " لتطوير وتجهيز لقاح ضد فيروس كورونا يحتاج الأمر الى ما لا يقل عن 18 شهرا" واستدركت " تعد فترة الـ 18 شهرًا هذه بحد ذاتها قياسية في قصرها" مبينتا في تقريرها أن فترة تجهيز اللقاح " قد تستغرق في الظروف الاعتيادية من 10 إلى 15 عامًا، وأحيانًا تطول الى أكثر من ذلك، كما تعلمنا تجارب الماضي. "، حسب قولها.
تقرير منظمة الصحة العالمية لم يكن موجها ضد لقاح بعينه، خاصة بعد أن عززت تقريرها المذكور بوضع جدول زمني يحدد تاريخ جاهزية اللقاحات المسجلة لديها. ولكن ما أن تم الإعلان عن بداية التطعيم المجاني والطوعي للمواطنين الروس ضد فيروس الكورونا أو ما يعرف بكوفيد-19، متجاوزا الحدود الزمنية المعلنة من قبل منظمة الصحة العالمية، حتى استعرت حملة إعلامية شعواء، تحذر من تبعات التطعيم باللقاح الروسي. إنظم الى تلك الحملة أكاديميون ومشعوذون من كافة الجنسيات، بمن فيهم الطبيبة الروسية المعارضة أناستاسيا فاسيلفا التي حرضت أطباء موسكو على رفض التطعيم ضد كوفيد-19، بحجة واهية وهي أن اللقاح قد تم تجهيزه على عجل. لنناقش اذا هذه الحجة، مع شيء من الاهتمام باللقاح الروسي "سبوتنك-V"، علما بأن جميع اللقاحات تعتبر غير جاهزة بعد للتطعيم الجماعي، حسب الجدول الزمني الذي نشرته منظمة الصحة العالمية (يمكن الاطلاع عليه على موقع المنظمة).
من المعلوم أن تطوير أي لقاح للحماية من الأوبئة الفيروسية يتطلب، على العموم، تقنية استخدام "مادة" فيروسية ضعيفة للتلقيح الوقائي، أي أن نظام "تطوير اللقاح" في حد ذاته بوجود "عامل حث فيروسي" لزيادة المناعة هو إلى حد كبير معروف ولا يتطلب البدء من الصفر. نعم، هناك مجموعة معينة من الإجراءات ومراحل العمل التي تعطي بمحصلتها نتائج تسمح بتقييم جاهزية وكفاءة المنتوج النهائي، الا أن سرعة تطويره تعتمد بشكل أساسي على التقنيات التي يمتلكها المطور، والأموال التي يتم توجيهها للبحث وديناميكية استخدام المعلومات، وأخيرًا، الأهداف التي يسعى الى تحقيقها الباحث في نهاية المطاف. لذا، لا أعتقد، أن من الصحيح فرض حدود زمنية واحدة على الجميع، دون مراعاة العوامل المؤثرة على سرعة الإنتاج في كل بلد على حده. دعونا ننظر في الأمر بالترتيب.
أولاً، في أوروبا والولايات المتحدة، تقوم الشركات الخاصة بتطوير لقاح ضد كوفيد -19، وفي بعض الأحيان، يكون للدولة حصة في أسهمها. ومن البديهي بالتالي، أن تتنافس تلك الشركات مع بعضها وتحجب عن بعضها البعض الأسرار المهنية لنشاطها. وهذا، بطبيعة الحال، يؤدي إلى تقييد استخدام المعرفة العلمية. أما في روسيا الاتحادية، والصين كذلك، فتتم عملية تنفيذ كل الإجراءات الخاصة بتجهيز وتطوير اللقاح من قبل المنظمات التي تسيطر عليها الدولة وهي بالتالي قادرة على الوصول الى اية معلومة قد تتوفر في أي مؤسسة نظيرة تعمل على أراضي الدولتين، كل على حده، وهذه العملية تتم بسلاسة وديناميكية عاليتين لتختصر إجراءات التنفيذ بصورة كبيرة.
ثانيًا، في أوروبا والولايات المتحدة، يتم احتساب مبلغ الأموال الموجهة لتطوير لقاح ضد كوفيد -19 من ميزانية الشركات المنتجة للقاح، أو جزء من الميزانية يخصص لهذا الغرض. بينما في روسيا الاتحادية والصين ينفذ مشروع تجهيز وتطوير اللقاح على حساب ميزانية الدولة. ولم تحدد أي من الدولتين المذكورتين دعمهما المالي في تمويل انتاج نوعًا أو اثنين من اللقاحات، بل في انتاج العدد الكافي من اللقاحات التي تفعَل الخيارات العلمية الضرورية. في روسيا مثلا، تمول الدولة انتاج وتطوير أكثر من اثني عشر نوعًا من اللقاحات ضد كوفيد-19، بينها لقاحات شاملة لكل العائلة الفيروسية الخاصة بالأنفلونزا وفيروس الكورونا بكل تنوعاته الجينية.
ثالثًا، لا تتمثل مهمة الشركات المنتجة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في إنشاء لقاح بقدر ما تتمثل في إنشاء لقاح مربح يمكن استخدامه لكسب المال. لذا فان الشركات المنتجة للقاح ستهتم في اعدادها لمشروعها ليس فقط بالجانب العلمي بل الاقتصادي بالدرجة الأولى، وليس غريبا بالتالي أن تتخلى عن بعض خيارات الإنتاج في مراحل مختلفة من التنفيذ. وهذا، منطقيا، قد يمد من زمن انتاج وتطوير اللقاح. بينما يختلف الأمر نوعيا في روسيا الاتحادية والصين اللتين يهمهما تبوء مكانة متقدمة في مجال التطور العلمي تكسبهما شهرة دولية ومكانة مرموقة في أسواق الدواء إضافة الى اهتمامهما الاوسع، كدول، في إعادة الحياة سريعا لعجلة الإنتاج في كل المجالات التي تشكل أساسا للتطور الاقتصادي والرخاء الاجتماعي.
رابعاً، لا شك في أن منظمة الصحة العالمية اختارت موقفا أكثر أمانا بتأكيدها على أهمية التريث في اعتماد نتائج الدراسات والاختبارات من أجل انجاز تجهيز وتطوير لقاح ضد كوفيد-19، وضرورة الالتزام الصارم بالمراحل الاربعة المعلنة من قبلها، وأنا اتفهم هذا الموقف الحذر من قبل منظمة الصحة العالمية، فالتطعيم بخلاف العلاج، ينتج ليستخدمه الأصحاء، بينما العلاج ينتج، عادةً، ليستخدمه المرضى. خاصةً وأن هنالك تجارب محبطة ومخيبة للآمال حدثت في القرن العشرين تعجل فيها منتجي اللقاحات، وقتها، باعتمادها والشروع بالتطعيم الجماعي بها. فما هي إذا تلك المراحل الأربعة التي تفرض المنظمة الدولية الالتزام بمعاييرها قبل انتاج اللقاح للتطعيم به:
1. الدراسات الاساسية ومرحلة البحث
2. مرحلة ما قبل الاختبارات السريرية
3. المرحلة الاختبارات السريرية
4. مرحلة التوزيع الى الاسواق
يبدو أن نصيب الأسد من الوقت المستغرق لتجهيز اللقاح "18 شهرًا ... أو ربما 10-15 عامًا" يستهلك في مرحلة الاعداد للاختبارات، أي في المرحلة الأولى. ولكن، بما أن العامل المسبب لوباء كوفيد-19 تم عزله قبل إعلان منظمة الصحة العالمية عن توقيتات اعداد اللقاح، فان هذه المرحلة قد جرى اجتياز جزئها الأكبر، ان لم يكن قد تم تجاوزها بالكامل. أما بالنسبة للمرحلة الرابعة، الخاصة بالتوزيع والتسويق فهي نشاطات لوجستية بحتة وفترة إنجازها لا تعتمد على الإطلاق على الأطباء وعلماء الأحياء وعلماء الفيروسات، ولكن على السياسيين ورجال الأعمال وغيرهم، ولا علاقة لسرعة انجازها بالحرص على صحة الناس.
وان كان اللقاح الروسي قادرا على اجتياز مرحلة التوزيع والتسويق، من الناحية التقنية، دون عوائق فإن شركة فايزر ألأمريكية ستواجه مشكلة حقيقية في هذا المجال. فحسب المعايير التقنية التي وضعتها الشركة ذاتها، يجب نقل عبوات اللقاح في حاويات خاصة تصل درجة الحرارة فيها الى 70 تحت الصفر، علما أن العبوات الزجاجية يمكن أن تتهشم في هذه الظروف الحرارية، الا إذا استخدمت الشركة المنتجة عبوات من الكوارتز النقي، وهذا ما سيرفع سعرها الى أضعاف مضاعفة، قد لا تتحمله الدول التي تعاني من وضع اقتصادي صعب، مثل العراق.
بناءً على ما سبق، يمكن الاستنتاج بأن من الممكن اختصار الزمن عند تجهيز وتطوير لقاح ضد فيروس الكوفيد-19، دون المساس بالمعايير الضرورية المعتمدة لإنتاج اللقاح في تلك الحدود الزمنية المختصرة. وانا أتمنى أن تتمكن كبريات شركات انتاج وتطوير اللقاح، غربية كانت أم شرقية، من توفيره للتطعيم الجماعي في فترات زمنية قياسية، مقارنةً بالحدود الزمنية التي أعلنتها منظمة الصحة العالمية، تاركة للدول غير المنتجة له حق اختيار ما يناسبها من لقاح وفقا لمعايير علمية واقتصادية شفافة، دون املاءات سياسية وفرض لإرادات دول بعينها، تخط بذلك نهجا في العلاقات الدولية، يكون، برأيي، المسمار ألأخير في نعش الحياد العلمي، ليس فقط في مجال صناعة الادوية والرعاية الصحية، بل في كل مجالات النشاط العلمي الإنساني مادامت تفوح منه رائحة المال.