عقد على الانتفاضات الشعبية المفتوحة


عديد نصار
2020 / 12 / 23 - 11:40     

مر عقد كامل على انطلاق شرارة الانتفاضات والثورات الشعبية في البلاد العربية، حيث انطلقت من ذات ريف منسي في نواحي تونس حين أضرم شاب النار في جسده ردا على التمادي في إفقاره وإذلاله. هذا الافقار وهذا الاذلال اللذان توحدت فيهما جميع شعوب البلاد العربية جعلا ساحاتها مادة سريعة الاشتعال حاضرة له، سرعان ما تلقفت الشعلة التي انتقلت من سيدي بوزيد الى كافة المدن التونسية وصولا الى قلب العاصمة تونس ثم انتشر لهيبها ليعم مختلف البلاد العربية.
فما أن أُعلن عن هرب الرئيس التونسي زين العابدين بنعلي حتى تحضرت الساحة المصرية لانتفاضتها الشعبية، ثم كرت السبحة من ليبيا الى البحرين فاليمن فسوريا.. وترددت الأصداء في الأردن ولبنان والمغرب والسودان..
1- لماذا اشتعلت الانتفاضات/ الثورات ومن اشعلها، وفي ذلك الوقت بالذات؟
وكيف تلقفت أحزاب وقوى المعارضة هذا الحدث الكبير؟
لا أتحدث هنا بصفتي من خارج السياق الذي انطلق يوم 17 ديسمبر 2010 ولا بصفتي ممن تفاجؤوا بالزلزال الشعبي الذي اندفع من سيدي بوزيد ثم عم البلاد التونسية وتدحرج بعدئذ الى كثير من البلدان العربية على مدى سنة 2011 ومابعدها، بل بصفتي واحدا ممن قرأوا الوقائع وانتظروا مثل هذا الزلزال وواحدا ممن ساهموا بالقليل الذي بين أيديهم في التحريض على توسيع رقعة الاحتجاج والانتفاض ليعم المدن التونسية وصولا الى قلب العاصمة تونس. كما كنت من المتابعين والمحرضين الدائمين على الثورة في كل بقعة من هذه البلاد العربية حتى الوصول الى فرض سلطة شعبية مهمتها فرض مصالح أكثرية الجماهير التي تزداد كل يوم بؤسا على بؤس بفعل سيطرة حفنة من المتسلطين المافيويين على السلطة بالتزوير والتشبيح والقبض على مفاصل المؤسسات الدستورية والقضائية والأمنية والعسكرية.
وسأحاول قدر المستطاع أن أكون موضوعيا في استعراض الأحداث وفي عرض آرائي فيها وفي بعض المواقف المختلفة منها.
1- لماذا اشتعلت الانتفاضات والثورات الشعبية العربية، ولماذا في ذلك الوقت تحديدا؟
وما هي المقدمات المادية التي جعلت من اشتعالها مسألة حتمية؟
شهد مطلع تسعينات القرن الماضي تحولا كبيرا في النظام الاقتصادي في البلاد العربية عموما وغير النفطية خصوصا، من الاقتصاد التقليدي المنتج والتشغيلي (زراعة وصناعة وحرف) الى الاقتصاد القائم على الريوع والاستدانة والمضاربات والنهب وصولا الى خصخصة القطاع العام بعد أن طاوله الاهمال والتردي بقصد خصخصته وما ترتب على ذلك من ارتفاع حاد في نسب البطالة خصوصا بين الفئات الشابة والمتعلمة وانخفاض حاد في مستويات المعيشة ترافق مع تغول في السلطة (الدكتاتورية أصلا) وتحولها الى سلطة بوليسية قمعية حاضرة دائما لكبت أي محاولة احتجاج وقمعها في مهدها.
ولا يخفى على أحد أن السلطة في كل البلاد العربية تقريبا كانت بأيدي عائلات حاكمة ذات سياسات مافيوية تمكنت بالفساد والمحسوبية أن تمسك بالمؤسسات القضائية والأمنية والعسكرية وبالإدارات العامة وتجيرها لمصلحة تأبيد سيطرتها ونهبها لموارد البلاد بدون أن تتعرض لأية مساءلة أو محاسبة قانونية أو سياسية.
وجاءت الأزمة المالية العالمية سنة 2008 لتلقي بثقلها على أطراف النظام الرأسمالي فكان للغالبية المنسحقة أصلا في البلاد العربية النصيب الأكبر من آثارها، فازدادت عوامل الضغط على القيعان الاجتماعية التي توسعت دوائرها لتحتل النسبة الأعظم من مجموع السكان، إلى أن وصلت الأمور الى اللحظة الحرجة حيث سقط الخوف من الموت بأدوات القمع أمام الموت الذي يتهدد به الجوع، وجاءت شرارة محمد البوعزيزي لتضرم النيران في هذا الهشيم.
فالشعوب التي تتعرض للسحق إجتماعيا واقتصاديا من جهة ولعنف واستبداد وقمع القوى المسيطرة المتواطئة في النهب مع مراكز نظام رأس المال من جهة أخرى، حين يصل بها الأمر أن يتساوى لديها الخوف من بطش السلطة مع عدم القدرة على الاستمرار، ستنتفض حتما.
كان وقع المفاجأة عاصفا على القوى المسيطرة كما على قيادات النظام العالمي الذي لم يكن قد استفاق بعد من وقع الأزمة المالية وارتداداتها إذ لم يكن أحد ليتوقع هذه التسونامي الشعبية الزاحفة من الأطراف البعيدة الى قلب العواصم ككرة ثلج مندفعة وهي تراكم المطالبات من معيشية الى سياسية، وبهذه الجذرية: من "شغل، حرية، عدالة إجتماعية" الى "الشعب يريد إسقاط النظام"!
أما كيف تلقفت أحزاب وقوى المعارضة العربية هذه الانتفاضات، فيمكننا ببساطة القول إن وقع هذا الزلزال المدوي كان مفاجئا لهذه الأحزاب والقوى تماما كما كان مفاجئا لقوى السلطة.
والمعارضة العربية بقسميها الرسمي المدجّن والمحظور، عاشت غربةً مطوّلةً عمّ يدور في القاع الاجتماعي المنسحق بالأزمات المعيشية والاقتصادية والخدماتية المختلفة، ما منعها من تلمس الظروف المادية التي يعيشها الناس والامكانات التي يزخر بها هذا القاع واحتمالات تفجره، إذ كانت قوى المعارضة الرسمية منشغلة في مشاريع " التغيير الديمقراطي " و الانتخابات و ما قد تتحصل عليه من مكاسب هزيلة على هامش الأنظمة. وحيث كنت من بين الداعين الى انتفاضة 25 يناير في مصر فقد واجهت حملة شرسة قبيل أيام على موعد الاحتشاد في ميدان التحرير، ومن من؟ من شيوعيين ويساريين استنكروا الدعوة وقالوا بصريح العبارة إنهم وأحزابهم غير مهيئين بعدُ للسير في انتفاضة شعبية على غرار الانتفاضة التونسية. تصوروا أن أحزابا يسارية معارضة عمرها عشرات السنين ليست مهيأة بعدُ للانخراط في (وليس لقيادة) انتفاضة شعبية، فتصدوا للدعوات! فهل نطالب المجتمعات المسحوقة أن تنتظر هؤلاء مزيدا من الوقت حتى يتهيأوا وتؤجل انتفاضاتها؟
أما المعارضة المحظورة أو الجذرية فقد عانت على أيدي الأنظمة ولعشرات السنين من صنوف الاضطهاد والملاحقة والاعتقال والتشرذم ما أبعدها مضطرة عن القاع الاجتماعي و ما يعانيه الشباب تحديدا من تهميش و بطالة و ضياع و إفقار و تهجيروما يعتمل فيه من مشاعر الغضب واليأس والاحباط، وأبقى معظم منظيريها وقادتها في أجواء الستينات والسبعينات.
المعارضة المنظمة الوحيدة التي تمكنت بقدراتها التنظيمية وإمكاناتها المادية وعلاقاتها الاقليمية وبانتهازيتها أن تقفز الى واجهة الأحداث بعد أن تمكنت عاصفة الشارع من اسقاط كل من بنعلي في تونس وحسني مبارك في مصر كانت للاخوان المسلمين الذين وجدوا في الانتفاضة ضالتهم للوصول الى السلطة.
2- ما كانت المواقف الأولية المعلنة لزعماء النظام العالمي من الانتفاضات؟
وكيف واجهت الأنظمة المحلية هذه الانتفاضات؟
بعد صمت امتد لأيام، وبعد أن وصلت الانتفاضة الى قلب العاصمة التونسية، صرح رئيس الولايات المتحدة الأمريكية حينها باراك أوباما قائلا: التغيير بات أمرا واقعا، لكن علينا أن نقلل ما أمكن من الخسائر.
في حين صرح طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق قائلا: علينا أن نعرف كيف ندير عملية التغيير.
هذان الموقفان يبينان أن النظام العالمي فوجئ بما يجري وأنه في صدد المواجهة التي تحمي مصالحه والتي ترتبط مباشرة باستقرار أنظمة التبعية التي يعرف تماما كيف يتعامل معها.
جاء هرب زين العابدين بنعلي ثم أزيح حسني مبارك تحت ضغط الانتفاضة بعد مواجهات شهدت أشكالا من القمع أدت الى سقوط عشرات الشهداء على يد الشرطة والبلطجية فيما وقف الجيش على الحياد، الحياد الذي كان ضروريا للعب دور انتقالي في السلطة من قبل العسكر، انتزعت السلطة من الطرابلسيين في تونس ومن أسرة مبارك في مصر وهي تضحيات جسام من قبل النظام العالمي جاءت لتهدئ الشارع ومن ثم تعيد الاستقرار الى البلاد.
من هنا نرى أن النظامين العالمي والاقليمي انحنيا لعاصفة التغيير في كل من تونس ومصر، ولكن الأمر بدا مختلفا بعد أن أيقنا أن لهيب الثورة سوف لن يهدأ بل انه قد يصل الى كل بقعة من الوطن العربي. وقد بدا التدخل فاقعا في مواجهة انتفاضة الرابع عشر من فبراير في البحرين حين دخلت القوات السعودية الى جانب قوات أمن النظام هناك لقمع الانتفاضة التي أخمدت بعد مواجهات دامية استمرت لعدة أسابيع راح ضحيتها العشرات واعتقل المئات.
وحين انفجرت الانتفاضة السورية ووجهت بالقمع الدموي منذ ساعاتها الأولى في درعا، واستخدمت كل أدوات القمع الأسدية في مواجهة المدن السورية المنتفضة بما فيها الجيش النظامي. عشرات آلاف الضحايا سقطوا في الأشهر القليلة الأولى على بدء الانتفاضة ما أدى الى انشقاقات واسعة في صفوف قوات النظام وتشكيل الجيش السوري الحر الذي حدد لنفسه مهمة وهي حماية المتظاهرين من اعتداءات قوات النظام وأجهزته الأمنية وشبيحته الذين كانوا يلاحقون المتظاهرين وينكلون بهم حتى في جنازات الشهداء. كل ذلك تحت أنظار العالم الذي لم يتحرك لإنقاذ الشعب السوري. وحين تبين عجز النظام الأسدي عن انهاء الانتفاضة تدخل حزب الله اللبناني وبإيعاز ايراني الى جانب نظام الأسد وبذرائع تافهة وشن هجماته ضد المدن السورية المنتفضة بعشرات آلاف المقاتلين الذين تدفقوا عبر الحدود اللبنانية السورية وتحت أنظار العالم بدون أن يعترض أحد. ولم يقتصر الأمر على مقاتلي حزب الله، بل حشد النظام الإيراني عشرات آلاف المقاتلين الطائفيين من العراق وأفغانستان والباكستان ليقاتلوا الشعب السوري الى جانب نظام الأسد.
ومن جانب آخر، هناك من فتح حدوده لآلاف المغامرين والمجرمين الذين تدفقوا على سوريا تحت عناوين الجهاد ليشكلوا فك الكماشة الثاني في مقابل قوات النظام وحلفائه لسحق ثورة الشعب السوري، فكانت جبهة النصرة وكانت داعش وكان جيش الاسلام وكلها حصلت على الأموال الطائلة وعلى الأسلحة والمعدات من جهات اقليمية ودولية وتحت أنظار العالم في مهمة السيطرة على الثورة السورية وانهائها بعد تحويل الصراع الى صراع ديني طائفي شديد التخلف والدموية. وكانت النتيجة تدمير المدن السورية وإفراغها من أهلها بعد حصار وتجويع وصولا الى تدخل القوى الكبرى وخصوصا روسيا.
في اليمن كانت أجمل الانتفاضات الشعبية التي أسقطت نظام علي عبد الله صالح ولو انه لم يسقط بفعل المبادرة الخليجية والتدخل السعودي الاماراتي الى أن عزل وسلمت السلطة الى نائبه ثم جاء التمرد الحوثي بإيعاز ودعم ايراني ليسيطر على العاصمة صنعاء بالتحالف مع علي عبدالله صالح ثم انقلب عليه وقتله. ليأتي التدخل السعودي الإماراتي بعد حملة التحالف العربي ولتنفتح حربا لا هوادة فيها أدت الى سحق الشعب اليمني وإذاقته كافة أشكال المصائب من الدمار الى التشرد الى الجوع وانتشار الأمراض والأوبئة. كل ذلك والنظام العالمي يتفرج أو يحرض هذا الطرف أو ذاك.
لقد كان رد النظامين الإقليمي والدولي على الانتفاضات والثورات العربية، مباشرة أو بواسطة المليشيات الطائفية الاجرامية، في غاية الوحشية التي لم نسمع عنها في العصور الحديثة، فلطالما دارت الحروب بين الجيوش واستبعد المدنيون، لكن حربهما اليوم كانت موجهة بالقصد والعمد على المدنيين الذين انتفضوا سلميا في وجه حكامهم من أجل أبسط الحقوق التي نصت عليها المواثيق الدولية.
3- لماذا تراجعت الانتفاضات؟ ولماذا نتحدث عن موجات متكررة هنا وهناك؟
وهل يمكن أن نتحدث عن نسق واحد من الانتفاضة/الثورة؟
كان على الثورات أن تواجه، ليس فقط قوى السيطرة والاستبداد المحلية بكل ما تملكه من أدوات قمع وإرهاب، بل كان عليها، وبسواعدها العارية وحناجرها الهتافة ومفتقدة للتنظيم والبرامج اللازمة في ظل تنكر الأحزاب التي طالما صدعت رؤوسنا بالتغيير والثورة، كان عليها مواجهة نظام عالمي بكله وكلكله، نظام عالمي قائم على نهب الموارد وتصنيع أدوات القتل والحرب ويسيطر بشكل شبه كامل على الفضاء الإعلامي، ويمتلك قدرات استخبارية هائلة. وهو بالتالي معاد بالمطلق لطموحات الشعوب في الحرية والسيادة على مقدراتها ومستقبلها. من هنا كان التغاضي عن، بل والدعم الكامل لأنظمة الاستبداد والتجزير في قمع انتفاضات الشعوب وإجهاض ثوراتها، وكان سلوك النظام الأسدي في سوريا وردة فعله على انتفاضة السوريين ومن ثم ثورتهم، واستقدام ميليشيات طائفية واحتلالات أجنبية أدت الى قتل مئات الآلاف وتشريد أكثر من نصف السكان، وتدمير المدن والقرى بهذا الشكل الذي بات معروفا، وخلق ودعم منظمات الإرهاب الدموي كداعش والنصرة، وكان إطلاق يد السعوديين في البحرين لقهر ثورتها، ثم في اليمن لسحق شعبه وتدمير بناه، كان ذلك كله محاولة من النظام العالمي برمته لترويع وإقناع الشعوب بعدم جدوى انتفاضاتها وثوراتها والاستسلام بالتالي لقدرها الذي يرسمه لها هذا النظام العالمي الذي يعيد تأهيل الأسد ونظامه بما يتوافق مع التقاسم الجديد للعالم بين الامبرياليات المتناتشة على السيطرة والنهب.
إن ما جرى من جرائم تاريخية في كل من سوريا واليمن وليبيا على امتداد سنوات، أدى الى تراجع في حركة شعوب المنطقة، خصوصا في ظل غياب حركة ثورية منظمة وقوية متجذرة في أوساط العمال والفلاحين الفقراء والمعطلين والمهمشين، ومندمجة في هذا الحراك وبالتالي قادرة على رفع مستوى الوعي وحماية الانتفاضات والثورات من المتسلقين والدخلاء والعابثين، وتقديم التحليل السياسي الموضوعي الضروري لصوغ البرامج النضالية الواقعية، ولملاقاة نضالات الشعوب الثائرة الأخرى بالتعاون والتعاضد والتنسيق.
غير أن الوقائع أثبتت خلاف ما يشتهي دهاقنة النظامين الإقليمي والدولي. فالقضايا التي دفعت الناس الى الانتفاض والثورة لم تختف بل بالعكس تفاقمت وازدادت وطأتها. من هنا كان التوقع بتجدد موجات الانتفاضة والثورات سواء في البلدان التي شهدتها عام 2011 أو في سواها. وهكذا جاءت الموجة الثانية من السودان فالجزائر فلبنان والعراق، ولو ان هذه الموجة أكدت على سلميتها في أقسى المواجهات التي تعرضت فيها للتنكيل كما جرى في فض اعتصام القيادة في الخرطوم أو كما جرى ويجري في العراق من عمليات قمع متواصلة واغتيال للناشطين أسفر عن استشهاد المئات منهم. أما لجهة التنظيم فقد تميزت الانتفاضة السودانية عن سواها في هذا المجال وهي لا زالت في ظل الحكم الانتقالي المشترك تواصل المشوار على طريق مراكمة الانجازات من خلال تحييد القوى التي تظهر تواطؤها مع بقايا حكم البشير من العسكر والجنجويد.
وبالتالي لا يمكننا الحديث عن نسق واحد من الثورات إذ يعتمد ذلك على المقدرات التنظيمية وبلورة الرؤية السياسية وعلى رد فعل قوى النظام وأجهزته كما على طبيعة وشكل التدخلات الخارجية.
4- هل يستقر الوضع العربي للأنظمة الحاكمة بعد اليوم؟ وهل تتوحد الساحات العربية؟ وما هي شروط عودة الاستقرار الى البلاد العربية؟
لن تتوقف موجات الانتفاضات الشعبية المتنقلة من بلد الى آخر طالما لازالت أسبابها المنوه عنها أعلاه قائمة. وبالتالي لن يستقر الوضع للأنظمة وللقوى المسيطرة بالقمع والتنكيل. فهذه الأنظمة والقوى ليست مهيأة ولا في بالها أن تصوغ الحلول للأزمات المتفاقمة والمتراكمة على كاهل المجتمعات يوما بعد يوم. وهذه المجتمعات لن يكون بمقدورها الصبر على هذه الضغوط مضافا اليها هذا الكم من القهر والإذلال والاحتقار. ولم تكن انتفاضة السابع عشر من ديسمبر في سيدي بوزيد انتفاضة لتونس وحدها بل كانت الشرارة لثورات متواصلة في البلاد العربية توحد ساحاتها في نضال متصل حتى الخلاص من أنظمة القهر والنهب والتبعية والاستبداد. وهذا يحتاج الى قوى ثورية منظمة ببرامج تحمل أهداف الشعوب وتحقق مصالحها وقادرة على التواصل والائتلاف فيما بينها وتبادل الدعم والتنسيق.
وبالتالي فإن عودة الاستقرار الى البلاد العربية مرهون بتخلص شعوبها من هذه الأنظمة والقوى المسيطرة بقواها الذاتية طالما لا يوجد في العالم ذلك الاستقطاب الذي ساد إبان الحرب الباردة فأتاح لبعض الثورات أن تنتصر. فالانتفاضات والثورات الشعبية العربية خصوصا ستبقى يتيمة لا عون لها سوى تضامن الشعوب ومقدرتها على الصبر والاصرار والتضحية.
5- هل غابت فلسطين عن الانتفاضات العربية؟
ينبغي لنا أن نلاحظ أن الانتفاضات الشعبية خرجت من الأرياف المهمشة كونها تعرضت أكثر من سواها لوطأة الأزمات المعيشية المتراكمة بسبب طبيعة النظام الاقتصادي الريعي المافيوي المسيطر، وبالتالي يمكننا بوضوح رؤية الشعارات الاجتماعية المعيشية التي أطلقتها والتي اختصرها "شغل، حرية، عدالة اجتماعية" و"الشغل استحقاق يا عصابات السرّاق" و "عيش حرية عدالة اجتماعية" الخ..
فالانتفاضات لم تنطلق أساسا من السياسي بل من الاجتماعي الاقتصادي والمعيشي. وهي بالتالي لم تتحرك ردا على الانحياز الشعاراتي لهذا النظام أو ذاك للقضية الفلسطينية أو لسواها. وهذه الانتفاضات لم تتجاوز الاجتماعي المعيشي الى السياسي من الأهداف الا بعد أن تبين استحالة أن تقوم هذه الأنظمة بحل أزماتها الاجتماعية المعيشية فكان شعار "الشعب يريد اسقاط النظام". وهذا التدرج في المطالب كان واضحا تماما في سوريا حيث راهن السوريون لأشهرعلى "وعي وتفهم الرئيس الشاب الدكتور" بشار الأسد باعتباره قادرا على تغيير سلوك نظامه ومعاقبة المجرمين الذين يستغلون وجودهم في مواقع السلطة لتنفيذ جرائمهم بحق المواطنين من تعديات وارتكبات وفساد.
غير أن الانظمة وقواها التي طالما اعتادت استخدام الشماعة الفلسطينية لتبرير طبيعتها الديكتاتورية ولملاحقة معارضيها والتنكيل بهم من جهة أخرى بتهم العمالة والتخوين، ولتبرير التردي المتزايد في الخدمات الأساسية والأوضاع المعيشية للمواطنين من جهة أخرى، وجدت في القضية الفلسطينية سلاحا إضافيا في مواجهة الانتفاضات فوسمتها بالخيانة والعمالة وأنها تتحرك وفق أجندات خارجية وبناء لإملاءات السفارات، وهذا ما درج عليه حزب الله وحلفاؤه في مواجهة انتفاضة السابع عشر من تشرين في لبنان.
وحتى لا أطيل يمكن للقارئ العودة الى مادتي المنشورة في ملحق فلسطين في العربي الجديد بعنوان "الانتفاضات الشعبية العربية وفلسطين" بتاريخ 4 أكتوبر 2020.
خلاصة:
لازالت الأسباب التي أدت الى الانتفاضات العربية قائمة وهي تتفاقم كل يوم. وهذا سيقود حتما الى تجدد الانتفاضات بأشكال مختلفة. ولن تتوقف هذه الحالة من عدم الاستقرار طالما لم يتغير واقع الأنظمة الراهنة جذريا كون هذه الأنظمة المسيطرة غير قادرة بطبيعتها أن تصنع حلولا لهذه الأزمات وهي أيضا غير قادرة أن تفرض الاستقرار بقوة القمع وبالقهر لذلك نجدها تلجأ الى بناء التحالفات السياسية والعسكرية التي تمنع سقوطها. وهي اليوم تستجدي تطبيع علاقاتها مع العدو الصهيوني الذي طالما قمعت شعوبها بذريعة التصدي له.
وبالتالي فإن على القوى الثورية العربية التي يتبلور حضورها يوما بعد يوم، أن تستفيد من عِبر السنوات العشر الماضية وأن تبذل كل ما في وسعها لبناء منظومة ائتلافية تتيح أقصى درجات التنسيق بين ساحات الوطن العربي وأن تصوغ البرامج الثورية اللازمة كي تتمكن من قيادة الانتفاضات والثورات الشعبية الى إنجاز كافة مهامها في التغيير وصولا الى الاستقرار الذي يتيح لهذه المجتمعات أن تستحوذ على مقدراتها وإمكاناتها البشرية والمادية الهائلة وأن تسخّرها لمصلحة نهوضها وازدهارها وتقدمها.