الإستلاب و صناعة الإنسان دو البعد الواحد في المجتمع الصناعي المعاصر


عبد العزيز الراشيدي
2006 / 7 / 21 - 10:07     

يرى ماركيوز أن هنالك مرضا قد أصاب الحضارات الصناعية المتقدمة اسمه البعد الواحد، و مقولة البعد الواحد هذه على نحو ما تظهر عليه في كتابات ماركيوز تفيد أن تكنولوجيا المجتمعات الصناعية المتقدمة قد مكنت تلك المجتمعات من استيعاب كافة أشكال الصراع القابعة فيها عن طريق احتواء هؤلاء الذين كانوا يمثلون في ظل الأنظمة الاجتماعية السابقة عناصر الرفض و الاحتجاج.
و إذا كان التفكير السلبي/ النافي هو أهم ما يميز الإنسان الحر الأصيل الذي يستطيع أن يكون ذاته، و الذي يمتلك الجرأة و القوة على أن يقول لا في وجه النظام القائم و أن يعارض المشاركة في ممارسة اللعبة المكشوفة التي يرسم قواعدها ساسات النظام، فإن مجتمع البعد الواحد يستهدف أساسا استئصال هذا البعد النافي.
و جملة القول إن الإنسان يصبح ذا بعد واحد عندما يفقد قدرته على النفي، على معارضة ما هو قائم فالبعد الواحد يساو البعد الايجابي، المتمثل، المتكيف، و المتصالح مع الواقع، أي المواطن الصالح حسب ما يرسمه الساسة.
و من هنا فإحالة البعد الواحد، أو العد الذي يرغب فيه المجتمع قد تمت من خلال عملية توحد شاملة بين الأفراد والمجتمع، وهي عملية لم تختلف كثيرا و أن كانت أسوأ في نظرية ماركيوز من عملية التوحد الآلي المباشر، التي تتميز بها المجتمعات البدائية. لقد إنتقل القمع من الخارج إلى قمع من الداخل، و أصبح الإنسان يحمل قمعه بداخله، و أصبحت السيطرة تسكن أعماق
إن شبح الإنسان دو البعد الواحد في المجتمعات الصناعية قد إنتشر ليغزو بدلك جميع مجالات الحياة الإنسانية. و على رأسها حاجات و مطالب الإنسان. فالسلع و الخدمات التي يقدمها الجهاز الإنتاجي تلعب دورا حاسما في فرض النظام الاجتماعي ومنحه صفة الشرعية. فوسائل النقل وسائل الاتصال الجماهيري ووسائل الترفيه و التسلية، و صنعة الصحافة، والإعلام كل هذه حاجيات مجتمعية تخلق ردود فعل فكرية و عاطفية معينة تربط المستهلكين بالمنتجين بطريقة اكتر و أقل استحسانا، و بالتالي تربطهم بالمجموع. إن المنتوجات تخلق وعيا زائفا محصنا ضد ما فيه من زيف.
و لا يقتصر البعد الواحد هاهنا على تزيف حاجيات الإنسان الداتية فحسب، بل يتجاوزه السيطرة على القعدة التكنولوجية ككل "... فالسلطة السياسية اليوم تدعم نفسها من خلال فرض سلطتها على العملية الميكانيكية، و على التنظيم التقني للجهاز... " و هكذا تنجح السلطة في حماية ذاتها عندما تنتج فقط في تعبئة و تنظيم واستغلا الإنتاجية التقنية والعملية الميكانيكية.
إن هذه السيطرة التي يفرضها المجتمع الصناعي لا تقف عند حد السيطرة على الحاجيات المادية، بل تتجاوزها لتصل أيضا إلى السيطرة على الحاجيات الفكرية و غزو البعد الواحد للثقافة التي كانت تمثل احد الحصون العتيدة التي كانت ستتعصي على التطابق مع عالم الواقع، بيد أنها اليوم قد توحدت مع الواقع القائم بسبب اختفاء

تلك العناصر المعارضة و المغتربة و المتعالية التي كانت بواسطتها تشكل الثقافة الراقية البعد الآخر أو البعد النافي للعالم الواقع أي لماهو قائم.
إن هذا الإستلاب الذي تعرض له المجتمع طال كل مناحي الحياة، إذ أصبح الفن يتعرض لعملية إعادة صياغة تدفع الفنان لأن يتحول إلى مجرد مغترب مع سائر أشكال النفي الأخرى. أما اللغة فقد أصبحت هي كذلك أحادية البعد عبر تحوله إلى لغة توحيد وتوحد، لغة تبقي على ما هو ايجابي في الفكر و العمل و تستبعد من تراكبها و مفرداتها كل الأفكار النقدية لتتحول إلى لغة تنويمية إجرائية وسلوكية.
و تأسيسا على ما سبق فالمجتمع الحديث باعتباره مجتمع يعمل على تركيب البعد الواحد و القضاء على الثقافة الثنائية التي تحوي في احضنها قوى الرفض و النفي، فهو بدلك مجتمع يخنق المعارضة ويجعل التغيير مجرد حلم صعب المنال، لكن و نحن نمارس الفلسفة لنا أن نتساءل و نشك في صحة هذه الفرضية التي طرحها ماركيوز أي فرضية إنسداد أفق التغيير، إن شكنا هذا سيجد سنده في الواقع، أي واقع الأزمة التي بات يعرفها الرأسمال العالمي. فهل بالفعل لم يعد بإمكاننا أن نتحدث عن الطبقة العاملة كطبقة ثورية؟ و هل استطاع الرأسمال إن يدمج هذه الطبقة بالكامل في ثناياه؟
إن المتأمل للساحة الدولية ولما يجري فيها من صراعات، رغم كون التحالف المسيطر يسعى إلى حجب شمس هذه الحقيقة، سيدرك أن وجهة نضر ماركيوز هذه تبقى نسبية، و ذلك نظرا لما أصبحنا نراه من ثورات و إنتفاضات في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال، و إنتفاضات العمال والطلبة في فرنسا في الأسابيع الماضية الأخيرة، لكن كل هذا في نهاية المطاف لا يتعارض مع رؤية ماركيوز الذي يرى إن الثورة بالمفهوم الماركسي لن تكون قابلة للتطبيق إلا بتوفر مجموعة من الشروط الأساسية التي حددها ماركيوز في مقالته حول التحرر و يجمل هذه الشروط فيما يلي :
- بلوغ مستوى مرتفع من الإنتاجية والتقنية التي لا تستخدم في خلق حياة إنسانية للجميع.
- نمو التنظيم السياسي للطبقة العاملة التي تعمل كقوة مزودة بالوعي الطبقي الذي يجعلها لا تبحث عن مصلحتها داخل النظام الرأسمالي و إنما من خلال نفيه.
- ضرورة تعميق أزمة الرأسمال من اجل الحفاظ على الصراع الطبقي.
- أن تكون الثورة مهمة الأغلبية.
وفي الأخير يؤكد ماركيوز بصورة خاصة على أهمية العامل الذاتي للثورة، ويعني به توفر الوعي الطبقي الثوري لدى البرليتاريا وهو هنا يرى أن الوعي بمظاهر الإستغلال هوالسبيل إلى التغلب عليه، كما أن وعي البرليتاريا بدورها التاريخي هو شرط مسبق لتحقيق الثورة. وبالتالي جعل الأفق الذي يسعى المجتمع الأحادي البعد إغلاقه أفقا مفتوحا على إمكانية التغير.
لكن في حالة عدم توفر هذه الشروط أوبعضها تصبح مسألة الثورة أمرا صعبا. ليبق الرهان الوحيد مع ماركيوز هو الطبقة الثورية الجديدة ( الشباب اللامنتمي – الطلبة – الهيبز – المشردين. . . ).
إذن هكذا حاولنا من خلال هذا المحور إن نشكل صورة مصغرة عن المجتمع الصناعي، وعن ثقافته الأحادية البعد التي تسلب من الإنسان كل قوى النفي. وتجعل منه إنسان إيجابي يتكيف مع المجتمع، عبر سيادة خطاب الرأي العام. وفي الأخير طرقنا باب الأمل باب الحلم بالتغيير وما يطرحه من إشكالات.