جذور الاتحاد ورهاناته اللّاحقة


عبد الحسين شعبان
2020 / 12 / 16 - 15:43     

أهداني الصديق الدكتور محمد عمران تريم الشامسي كتابه الموسوم "دولة الإمارات العربية المتّحدة: الجذور التاريخيّة للتأسيس ورهانات الاتحاد"، وهو حصيلة دراسة وتأمّل عميقَين للجذور التاريخيّة للاتحاد، تعكس خبرته وتجربته العمليّة التي حاول توظيفها في بحثه الأكاديمي، إذْ لا بدّ للباحث أن يتوقّف عند المشهد السياسي العربي السائد آنذاك، والذي كان يميل إلى التباعد والتنافر، تارةً تحت عنوان "الهُويّة" وأخرى باسم "الخصوصيّة"، وثالثة في إطار منافسة غير مشروعة، في حين كان توجّه الإمارات عكس التيار نحو التقارب والتآلف والاتّحاد، وهذا بحدّ ذاته يُعتبر تحدّياً كبيراً للواقع القائم آنذاك.
يمكن القول إن تأسيس الاتحاد كان أقرب إلى المغامرة، حيث لم تكتمل مؤسّساته بعد، ولم يمتلك الخبرة الدستورية والقانونية والإدارية الكافية، ولكن قوّة الإرادة وروح الحكمة وبُعد النظر هي التي قادته للتميّز والتآلف، دون أن ننسى التحديّات الخارجيّة التي كانت تواجه إماراته منفردة، فقبل ثلاثة أيام فقط من إعلان تأسيس الاتحاد، قامت إيران باحتلال ثلاث جزر إماراتيّة في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1971، وهي طنب الكبرى وطنَب الصغرى اللّتان تتبعان لإمارة رأس الخيمة، وأبو موسى التي تتبع لإمارة الشارقة، وما تزال إيران حتى بعد الإطاحة بحكم الشاه في العام 1979 تواصل وضع اليد عليها، علماً بأن أطماعها قديمة بشأن هذه الجزر، وظلّت تحوم حولها حتى هيمنت عليها؛ حيث فشلت جميع المساعي والوساطات لإعادة السيادة إلى دولة الإمارات التي ما تزال تطالب بها.
ولم تكن مواجهة التحدّيات الخارجية والرهان على بدائل داخلية أمراً يسيراً بعد إعلان انسحاب بريطانيا من المنطقة بثلاث سنوات في ظل وضع دولي حاد الانقسام، بين معسكرَين أحدهما شرقي واشتراكي والآخر غربي ورأسمالي، وسياسة أطلق عليها "الحرب الباردة"، و"صراع أيديولوجي" مُلتهب، ومنافسة شديدة على جميع المستويات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، لكن الرؤية الاستشرافيّة البعيدة النظر للشيخ زايد آل نهيان وقدراته التدبيريّة والإداريّة الحكيمة هي التي ساهمت في تأسيس الاتحاد من جهة، وفي وضع استراتيجيّة للتنمية والتقدّم من جهة أخرى، ضمن تصوّر مستقبليّ للدولة والعمل على توظيف الإمكانات الماديّة المتوفّرة حينها لدى إمارة أبو ظبي لتكون مرتكزاً وعاصمةً لها، وذلك في إطار تحقيق التقارب بين الإمارات السبعة التي تكوّنت منها في ظل دستور جامع أقرب إلى النظام الفيدرالي أو صيغة نوعيّة جديدة منه، اتّخذت ديناميّةً وحيويّة لكل إمارة من جهة، وتوجّه اتّحادي عام تتلاقى فيها الإمارات كوحدة قانونيّة وسياسيّة موحّدة من جهة أخرى.
ولم تنطلق الدولة الجديدة من الاعتماد على اكتشاف النفط فحسب أو من الخبرة التي وفّرها الغرب، بل كان لديها رؤية جديدة أساسها كما يقول الباحث "فرضيّة انتماء الإمارات جغرافيًّا وحضاريًّا إلى منطقة الخليج التي أدّت أدواراً أساسية في التاريخ، إذْ لا ينحصر هذا الدور على المنطقة باعتبارها موقعاً جغرافيًّا فقط، بل ربط الأمر بمساهمتها في التاريخ الإنساني"، ولعلّ الأساس في ذلك التوجّه هو تحقيق مجتمع الوفرة والرّفاه الاقتصادي للمواطن لسدِّ حاجاته الأساسية في العمل والصحة والتعليم والثقافة والضمان. وليس غريباً أن تتأسّس وزارة للسعادة وأخرى للتسامح لتأكيد العيش المشترك، حيث تلتقي على أراضي دولة الاتحاد أكثر من 200 قوميّة وجنسيّة وأديان وطوائف متنوّعة.
ومنذ التاريخ القديم كانت المنطقة جسراً يربط بين الشرق والغرب ومحطّة للتلاقي بين الحضارات، وبالطبع فإنّ الموقع الجغرافي والبحري خصوصاً كان عاملاً مساعداً وإيجابيًّا، حيث اعتاد السكّان على الغوص واستخراج اللؤلؤ الطبيعي الذي كان قبل اكتشاف النفط المحرّك الأساس للاقتصاد، وفتحَ الموقع الجغرافي شهيّة الدول الأوربيّة للاهتمام بالإمارات، وهو ما حاول د. محمد عمران تريم الرجوع إليه من خلال دراسة التاريخ حيث تناول الجذور التاريخيّة بربطها بعلوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والجيوبوليتيك، خصوصاً بتسليط الضوء على أهمّ ما كُتب في هذا المجال بما يتعلّق بدولة الإمارات باللغتين العربية والإنكليزية، إضافةً إلى الوثائق العديدة في المركز الوطني للوثائق والبحوث في أبو ظبي ومركز الشارقة والعديد من مراكز الأبحاث والدراسات.
قسّم الشامسي بحثه إلى بابَين وستّة فصول، فخصّص الباب الأول بفصوله الثلاثة للجذور الجيوسياسيّة للنظام السياسي للاتحاد ابتداء من تجاذبات القوى الأجنبية القديمة، وخصوصاً البرتغاليين والهولنديّين، وصولاً إلى بريطانيا التي كان لها القدح المعلّا، وتناول وضع الإمارات في النصف الأوّل من القرن العشرين لغاية مرحلة الاستقلال 2 ديسمبر (كانون الأول) 1971.
وكان الباب الثاني قد خصّصه لميلاد الاتحاد وعالج بثلاث فصول أيضاً الأُسس المؤدّية إلى الاتحاد وميلاده الفعلي والنظام السياسي الذي نشأ على أساسه.
ويختتم الباحث كتابه باستنتاجات مفادها أنّ الحنكة السياسية وسِعَة الأُفق وفرادة رؤية الشيخ زايد ونظرته الثاقبة هي التي جعلت دولة الإمارات اليوم واقعاً ملموساً، حيث ستحتفل في 2 ديسمبر/2021 بالذكرى الخمسين لتأسيسها في ظلّ منجز اقتصادي واجتماعي وثقافي وعلمي كبير، يعدّ نقلةً نوعيّةً متقدّمة، وهو ما يعكسه كتاب الباحث الذي يُعدّ مرجعاً تاريخيًّا مهمًّا.

نُشرت في جريدة "الخليج" الإماراتية بتاريخ 11/12/2020