أميركا .. والشيوعية (2)


فؤاد النمري
2020 / 12 / 14 - 19:29     

أميركا .. والشيوعية (2)

كثيرون من المستثقفين يقولون بنهاية الإيديولوجيا وهم لا يقولون هذا إلا ليعنوا نهاية الماركسية . هؤلاء المستثقفون لا يملكون من الثقافة إلا النزر اليسير ولا يعرفون حرفاً من حروف الماركسية ولا يعلمون أن الماركسية ليست إيديولوجيا بل هي نظرية علمية تتمثل بمصفوفة قوانين تحكم التطور الإجتماعي وهي النظرية التي تقوم على قراءة التاريخ كما هو في الواقع . القلراءة العلمية للتاريخ لا يمكن أن تنتهي فإما أن يُقرأ كما هو وتتحقق إذاك الماركسية وإما أن يُقرأ التاريخ قراءة خاطئة وبذلك يتم الخروخ من الماركسية .
نحن الماركسيين نؤكد هذه الحقيقة وليس لأي مستثقف تبعاً لذلك مهما ادعى من علم وثقافة أن يحاجج بأن الماركسية هي أكثر من قراءة التاريخ كما هو .
السلاح الأمضى الذي تستخدمه البورجوازية الوضيعة في مقاومة الثورة الشيوعية هو قراءة اللتاريخ لكن ليس كما هو في حقيقته . تلك كانت قراءة خروشتشوف السافلة والمنحطة لتاريخ ستالين في قيادة الاتحاد السوفياتي في العام 56، كما هو نفسه قرأ قراءة مغايرة في العام 59 – ثمة قرائن عديدة تشير إلى أن خطاب خروشتشوف السري يدين ستالين لا يعود حقيقة لخرشتشوف بل كان الجيش فرضه على خروشتشوف ليكون جزءاً من أعمال المؤتمر العشرين للحزب حيث كان الجيش بحاجة ماسة لتحطيم ايقونة ستاين التي تحاصر انقلابه على الإشتراكية لكن خرشتشوف لم يجرؤ على طرح الخطاب على المكتب السياسي لأنه طافح بالأكاذيب فقرأه في جلسة خاصة بعد انتهاء المؤتمر دون أن يعلم به المكتب السياسي .
ما كانت البورجزدوازية الوضيعة السوفياتية بقيادة الجيش لتنجح في الانقلاب على الثورة الإشتراكية بغير القراءة الخاطئة للتاريخ . البورجوازية الوضيعة في العالم تعلمت الدرس من انقلاب موسكو ولهجت تزوّر التاريخ . عمَّ تزوير التاريخ حتى شاع بين عامة أدعياء الشيوعية . هؤلاء الأدعياء الأفاقون باتوا يزورون تاريخ الولايات المتحدة الأميركية سعياً منهم لتبرير تزويرهم للتاريخ السوفياتي . يدعون اليوم بدعوى لا تسنوي مع طبائع الأشياء، يدعون أن الولايات المتحدة كانت دولة إمبريالية منذ تأسيسها في العام 1778، وفاتهم أن الولايات المتحدة كانت دولة زراعية متخلفة آنذاك وعيد الشكر (Thanks Giving) عيد أميركي بامتياز بدأ امتناناً من الفلاحين للأرض التي جادت بالغلال . فيما قبل حرب تحرير العبيد 1864 كانت الزراعة مزدهرة في الجنوب بفعل قوى العمل من العبيد ولم تكن هناك صناعة مزدهرة في الشمال مما اقتضى أن يشن الشمال بقيادة ابراهام لنكولن حربا لتحرير العبيد في الجنوب من أجل توفير قوى العمل الضرورية لتطوير الصناعة في الشمال .
القول الفصل في هذا السياق لن يكون بالطبع لغير كارل ماركس . ففي رسالة من كارل ماركس بالنيابة عن أممية العمال إلى ابراهام لنكولن في نوفمبر 1864 يحيي فيها الشعب الأميركي لإعادة انتخاب لنكولن بأغلبية كبيرة، ويقول ماركس .. نضال الشعب الأميركي الجبار في ثورة التحرر أقام أول جمهورية ديموقراطية في التاريخ وتصدر أو إعلان لحقوق الإنسان . من تلك الثورة كان أول حراك للحرية في أوروبا – إشارة ضمنية للثورة الفرنسية 1789 – ومنذ البداية شعر عمال أوروبا بالفطرة أن العلم المرصع بالنجوم يشير إلى مستقبلهم . إن ابراهام لنكولن هو الإبن البار بالطبقة العاملة "
كان جواب الرئيس لنكولن الإمتنان للمشاعر الطيبة في الرسالة وأمله ألا يخيب الطنون ويكون على قدر المسؤولية .

في القارة الجديدة، أول مرابع الحرية في العالم، جاء الأب المؤسس جيمس مونرو (James Monroe) الرئيس الخامس للولايات المتحدة . في يناير 1823 أعلن مونرو في الكونجرس مبدأه الشهير(Monroe Doctrine) الذي قضى بأن تحرير أميركا الشمالية من الكولونيالية الإنجليزية لا يكتمل بغير تحرير أميركا الجنوبية من الكولونيالية البرتغالية والكولونيالية الإسبانية . وفعلاً ساعدت الولايات المتحدة بموجب مبدأ مونرو شعوب أميركا الجنوبية خلال القرن التاسع عشر في التحرر والاستقلال وطرد المستعمرين الاسبان والبرتغاليين من كل اميركا الجنوبية . وهنا تلزم الإشارة إلى أن الولايات المتحدة كانت في القرن التاسع عشر بلداً زراعيا متخلفا بحاجة ماسة لاستيراد قوى عمل عبيداً من أفريقيا ومهاجرين من آسيا وأوروبا وهو ما يحول دون افتراض كولونيالية أميركية خارج الحدود .

طبعاً ما كان ماركس ليصف ابراهام لنكولن بالإبن البار للطبقة العاملة (Single-minded son of the working class) لولا أن الرئيس لنكولن كان يقود ثورة اجتماعية لصالح الطبقة العاملة (1861 – 1865) قضت بتحرير العبيد في الجنوب الزراعي ليعملوا عمالاً أحراراً في الشمال . ذلك كان يعني أول نهوض للنظام الرأسمالي في الولايات المتحدة .
تطور اانظام الرأسمالي بخطى سريعة فكان أن نادى الرلئيس وودرو ويلسون (Woodrow Wilson) بمبادئه الأربعة عشر في الكزنجرس في يناير 1918 التي تنادي بحق الشعوب بتقرير مصيرها متمتعة بالحرية والديموقراطية وحرية التجارة . المراقبون إذّاك اعتبروا مبادئ ويلسون استجابة صريحة لمرسوم لينين للسلام صبيحة الثورة في 7 نوفمبر 1917 وكان أن أيد ويلسون موقف لينين في محادثات السلام مع الألمان في برست لوتوفسك . كان لمبادئ ويلسون صدى قوي في العالم كان له أثر في حراك ثوري ضد الإمبريالية في العالم كله تمثل بثورة 1919 في مصر بقيادة حزب الوفد وفي ثورة البورجوازية الشامية بفيادة الشريف حسين بن علي .

حرية التجارة التي نادى بها ويلسون لم تكن كافية لتحمي الرأسمالية المتطورة بقوة في الولايات المتحدة من الأزمة الدورية للنظام الرأسمالي . ولذلك كانت الأزمة الكبرى في العام 1929 التي كانت عميقة حتى حدود الإنهيار التام لولا مشروع فرانكلين روزفلت (New Deal) أي الأسلوب المختلف الذي أنقذ النظام الرأسمالي عن طريق زيادة الإنفاق على البنى التحتية التي هي ليست بضائع . تم إنقاذ النظام الرأسمالي من الإنهيار لكن طوابير الشوربة ظلت عامة في الولايات المتحدة حتى العام 1937 حيث النظام الرأسمالي المستجد لم يكن يغطي احتياجات الشعب ولات فرصة إذّاك للحديث عن أية إمبريالية .

كانت الرأسمالية في اليابان قد تطورت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أكثر منها في الولايات المتحدة وتقدمت في طور الإمبريالية فاحتلت الصين وشواطئ شرق ’سيا وهزمت روسيا القيصرية في حرب 1905 واحتلت منشوريا وجزيرة سخالين .
كان من دواعي التوسع الإمبريالي لليابان تحطيم القوى العسكرية للولايات المتحدة الرابضة في بيرل هاربر (Pearl Harbour) فكان أن شنّ الطيران الحربي الياباني في 7 ديسمبر 1941 هجوما كاسحاً مباغتاً على الميناء أنزل خسائر فادحة بالولايات المتحدة . العدوان غير المبرر على بيرل هاربر جعل أميركا تدخل الحرب بجانب الحلفاء ضد المانيا في اوروبا واليابان في شرق آسيا .
خلال سنوات الحرب 1941 – 45 لم تنجح الولايات المتحدة في مواجهة اليابان رغم المساعدة البريطانية القوية ؛ وفي المقابل حدث تطور سريع للنظام الرأسمالي في أميركا مما مكنه من فرض ممثله اليميني هاري ترومان نائباً للرئيس روزفلت على كره منه في ولايته الرأبعة . ما يستوجب التأكيد في هذا المقام هو أن روزفلت كان صديقاً صدوقاً لستالين وقد ساعد الاتحاد السوفياتي في الحرب بموجب اتفاقية الإعارة والتأجير وقد وعد ستالين في مؤتمر يالطا في فبراير 45 بمنحة تصل ألى 10 بليون دولا ر مساعدة منه في إعاد الإعمار السوفياتية . كان روزفلت يؤمن بخط ستالين السياسي وكتب في مفكرته قبل أن يموت في 12 ابريل 45 أنه .. "يؤمن بأن ستالين وليس تشيرتشل سيبني عالما يسوده السلام والديموقراطية" .
النهوض الرأسمالي السريع في أميركا خلال سنوات الحرب الأربعة لم يسعفها في مواجهة كفوءة مع اليابان المعسكرة والمسلحة حتى الأسنان .
لم تمضِ ثلاثة شهور على ولاية روزفلت الرأبعة قبل أن يتوفى في 12 ابريل 45 ويرتقي نائبه اليميني مجرم الحرب ترومان سدة الرئاسة ؟

يتبع