هل الرأسمالية تدمّر نفسها..؟


محمد عبد الشفيع عيسى
2020 / 12 / 11 - 04:07     

يمكن تعريف الرأسمالية، من وجهة نظرنا، باعتبارها ذلك النظام الاقتصادي و الاجتماعي القائم بصفة أساسية في عالمنا و عصرنا، على الملكية الخاصة الكبيرة لوسائل الإنتاج الحديثة و على الانفصال بين عنصريّ العمل ورأس المال. ولقد تحولت الرأسمالية من مجرد نظام اقتصادي اجتماعي إلى نظام عالمي، و كانت نشأت أصلا في أوربا الشمالية و الغربية وإلى حدّ ما الجنوبية، مع بدايات العصر الحديث في القرنين السابع عشر والثامن عشر اعتمادا على التجارة فالزراعة، ثم نضجت مع الصناعة، و انتقلت بالهجرة إلى أمريكا الشمالية و خاصة في القرن التاسع عشر و العشرين، ثم إلى شطر من شرق آسيا مؤخرا.
ولكن الرأسمالية كنظام عالمي توسعت طوال العصر الحديث خارج حدودها "المركزية" لتمارس "الاستعمار" من خلال علاقة السيطرة/ التبعية إزاء القارات الثلاثة: إفريقيا و آسيا و امريكا اللاتينية. و بدأت أمريكا الجنوبية الفكاك من الاستعمار مبكرا مع حلول الثلث الأول للقرن التاسع عشر تقريبا، ثم لحقت بها بلدان آسيا و إفريقيا تباعا خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1945-...).
بقيت بلدان القارات الثلاثة –المستعمرات سابقا- في حالة نوع من التبعية المقنّعة لدول المركز الرأسمالي العالمي المتمحور أساسا حول الولايات المتحدة الأمريكية (التي تحولت إلى قوة عالمية بعد الحرب) و أوربا الغربية، طوال ثلاثة أرباع القرن الأخيرة.
وقد قام (النظام الاشتراكي) بقيادة الاتحاد السوفيتي، والصين جزئيا بمعنى معين، انطلاقا من الثورة الروسية عام 1917، وامتدادا إلى أوربا الشرقية بعد 1945 والصين بعد ديسمبر 1949، ثم بعض من شرق آسيا (فييتنام ...) و دولة لاتينية واحدة (كوبا)، بحيث تحول، بدوره، إلى نظام عالمي، حتى انتهائه بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990. ومن ثم انفرد القطب الغربي بالقيادة للنظام العالمي، مع بروز الولايات المتحدة بوصفها "القوة العظمى الوحيدة".
بذلك كله تأكدت قوة التأثير الساحقة للدول الغربية بالقيادة الأمريكية. وقد تكيف النظام الرأسمالي العالمي ذاك مع واقع استقلال بلدان القارات الثلاثة –المستعمرة سابقا- ومع تبعات حركة التحرر الوطني فيها بعد 1945 على امتداد سبعة أو ثمانية عقود زمنية تالية، و تكيف كذلك مع المنافسة الضارية للمعسكر الاشتراكي حتى انهيار. كما تكيف خاصة مع تحولات الثورات التكنولوجية المتعاقبة، بنجاح مشهود. واستطاعت الرأسمالية العالمية بهذا التكيف المعقد أن تحقق انتقالا باهرا في عالم ما بعد الحرب (العالمية الثانية) بحيث عملت على تجاوز أزماتها المتلاحقة، الناشئة داخليا وفي المحيط العالمي، في ظروف بالغة الدقة. ظل الغرب الرأسمالي على هذا النحو يمارس قيادته"الخشنة" للنظام الدولي، بمهماز التقدم التكنولوجي، وبالتدخلات العسكرية التي وصلت إلى حدود الحروب المسلحة خاضتها أمريكا خاصة، على امتداد الأركان الأربعة للمعمورة، سعيا إلى إخضاع الجميع. ومن أعظم جوانب التكيف ممارسة ما نسمّيه قوة "تدخل الدولة"؛ إذ مارست الحكومات الغربية وظيفتها الاقتصادية والاجتماعية باقتدار نسبي، وفق ما يسمى بالمقترب "الكينزي"، منذ أزمة الكساد العالمي الكبير (1929-33) حتى اندلاع أزمة النفط في منتصف السبعينات. تلك كانت فترة سيادة الرأسمالية في نسختها (الليبرالية الطيبة) إن صح التعبير، وخاصة من خلال ما يطلق عليه "دولة الرفاهة" عبر التوسع في الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية الأساسية (لا سيما الصحة والتعليم و الرعاية أو الحماية الاجتماعية على تنوعها) وعلى هياكل "البنية التحتية". ولكن مالبثت الرأسمالية العالمية أن تخلت عن (طيبتها) لتسفر عن وجهها المعتاد في إطار من (ليبرالية جديدة) لقبّها البعض بالمتوحشة، منذ منتصف السبعينات كما ذكرنا.
ولم يقتصر الأمر على التوحش في الداخل، ولكن الرأسمالية العالمية، التي كانت أنشأت بناء كاملا من المنظمات الاقتصادية والمالية والنقدية العالمية، بقيادة "البنك الدولي" و "صندوق النقد الدولي"، قد تذرعت بهذه جميعا من أجل فرض صيغة "الليبرالية الجديدة" –الملقبة بالمتوحشة- على امتداد العالم، وخاصة في القارات الثلاثة المستعمرة سابقا (أو "العالم الثالث"السابق"). وكانت أزمات الاستدانة في البلدان (النامية) وما يصاحبها من الركود الاقتصادي و مظاهره المختلفة، بمثابة "فرصة" لممارسة النفوذ الطاغي لدول العالم الرأسمالي المركزي ومنظماته الدولية المهيمنة. و تخلّل كل ذلك عمل دؤؤب لصبغ الفكر الاقتصادي والاجتماعي في العالم بصبغته تلك (الجديدة-المتوحشة) انطلاقا من فرض إيديولوجيا "اللبرلة" في كل الميادين (تحول القطاع العام إلى الخاص-خفض الإنفاق الحكومي- انخفاض نصيب الأجور من الدخل القومي..إلخ). و أصبحت هذه عقيدة يدين بها النظام العالمي ومنظماته النافذة، شرطا لمدّ يد المساعدة إلى البلدان النامية المدينة، وخاصة الكتلة العرضة من إفريقيا وآسيا وأمريكا الاتينية التي وقعت في براثن الأزمة المزمنة، ولم يُسمح لها بالتحول إلى "دول صناعية جديدة" مثل البعض في الشرق الأقصى السائر على الأنموذج الياباني ثم المتحول كمراكز فرعية أو "ملاحق" للمنظومة الرأسمالية العالمية( كوريا الجنوبية...). تلك حالة أغلب البلدان العربية، التي حرمت من "جنة" التقدم الاقتصادي والتكنولوجي التي قادتها الشركات عابرة الجنسيات بالاستثمار الأجنبي المباشر وغيره. كل ذلك لتظل البلدان العربية، حتى الغنية منها بالمال والبترول والغاز، بمثابة "حديقة خلفية للغرب"، وفريسة لاختلال التوازن الاستراتيجي مقابل "إسرائيل".
هنالك تفاعلت جملة ظروف داخل النظام الرأسمالي العالمي عبر العقدين الأخيرين بالذات (2000-2020)، وكان من شأن هذه الظروف أن أدت إلى إبطاء سير النظام الاقتصادي في الغرب والعالم، إلى حد أن انكشفت ثغراته القاتلة إبان "أزمة كورونا" الأخيرة كما هو معروف.
هنالك تحولت نقاط القوة إلى نقاط للضعف. وياليتنا نستطيع في هذا الحيز المخصص للمقال أن نعرج على هذه النقاط بقدر من التفصيل المناسب، فلا نملك إلا الإشارة إليها، أو نمرّ عليها "مرور الكرام" كما يقال، وذلك على النحو التالي:
1- تضعضع نموذج "دولة الرفاهة" في أزهى جوانبها، نقصد النظام الصحي الرعائي، كما نما وترعرع في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن المنصرم، في بلدان شمال أوربا الإسكندنافية وفي بريطانيا وألمانيا وفرنسا وفي الولايات المتحدة نفسها. وكانت آخر ضربة موجهة لهذا النموذج في "الدولة -القائد" ما جرى بالسلب لمنظومة ما يسمى (أوباما كير).
2- ترنّح الهيكل الديموغرافي للدول الرأسمالية المتقدمة، التي طالما تباهى دعاتها و تبارى قادتها في رعاية فئة "كبار السن" الذين باتوا يشكلون حصة معتبرة من إجمالي السكان فيما يطلق عليه "شيخوخة الهرم السكاني". فإذا بنا نكتشف في أتون (كوفيد 19) الهشاشة المزرية لهذه الفئة و الدُّور المخصصة لإيوائها. لننظر في هذا المقام إلى ما جرى في إيطاليا و أسبانيا، ثم بريطانيا وفرنسا بل في الولايات المتحدة حيث يشكل كبار السن بها قرابة 80% من إجمالي وفيات الفيروس البالغ تعدادها حتى منتصف أكتوبر 2020 نحو رُبع مليون نسمه.
3- ظاهرة (نزع التصنيع) –إن صحّ التعبير- في الدول الصناعية تحت تأثير النمو المفرط لقطاع الخدمات، و لو كانت الخدمات القائمة على العلم والتكنولوجيا، بالمقارنة مع قطاع الصناعة التحويلية. و لطالما أيضا تعالت صيحات النشوة من الجماعة الأكاديمية وغيرها، بصعود ما أُسمِي "المجتمع ما بعد الصناعي" و صعود الاقتصاد الجديد، "اقتصاد المعرفة. فإلى أين يسير اقتصاد قائم على "العنصر الناعم" في حال ضعف نسبي ربما يتواصل للعنصر "الصلب". بعبارة أخرى، إلى أين يسير اقتصاد (أعرج) ولعله (مزدوج.!) يتقدم بالاقتصاد (المعرفي) و لا يُعنى بنفس القدر و بالكيْف الملائميْن، بالاقتصاد العيْني أو الحقيقي..؟ هذا سؤال قد يبدو سابقا لأوانه، ولكن من يدري لعله يتنبأ بما لا يُرَى في اللحظة ..؟
4- الأدهى و الأمرّ أن الاقتصاد العينيّ الصلب ذاك، يقوم على معرفة ناقصة وعلم قعيد، فهو سجين التطور الآليّ للمادة قبل المعنى الحقيقي "للإنسان الكامل". هو أسير اللهاث وراء المزيد فالمزيد من كمال الآلة حتى تبلغ مبلغ "الأوتوماتون التام" اي الروبوت الذي يحل تدريجا محل العمل الإنساني والعنصر البشري العتيد. هنالك يضمحل التواصل الملموس بين البشر، بفعل الاقتصاد "الرقمي"، اقتصاد السرعة و "إنترنت الأشياء".
و في داخل الاقتصاد الصلب نفسه –اقتصاد المادة و الآلة- ثبت تناقص الاهتمام الأكاديمي والتطبيقي في الغرب والولايات المتحدة منذ عام 2000 بالذات، أي منذ وضع خريطة "الجينوم البشري"، بالتطوير الطبي والصحي المتواصل و المُوجّه لعلم الأمراض ومكافحة الفيروسات، باستخدام تقنيات التكنولوجيا الحيوية لما فيه صحة الإنسان، بالوقاية والعلاج، لقاحا و دواء في آن. و إن فيما جرى من الفيروس الأخير، و ما جرى له، برهان ناصع من كل الوجوه، في هذا الباب. ذلك ما ندعوه ضرورة "أنسنة العلم والتكنولوجيا" بدلا من "الأتمتة" الصمّاء..!
5- تداعي الأركان الركينة لمشروع الاتحاد الأوربي، بفعل تفاقم النزعات الانفصالية على أسس الانتماء "الدولتي" و "العِرقي" وغيرهما ( "بريكست" البريطاني نموذجا ساطعا). و تزحف عدوى الانقسام إلى المجتمع الأمريكي بسرعة فاقت الكثير من توقعات المتشائمين، بفعل نقطة القوة التاريخية الكبرى في الكيان الأمريكي، أي الهجرة. و لننظر إلى ما نتج عن الهجرة في "مجتمع المهاجرين" من التشرذم المتشظّي للأصول المتنافرة من: البيض الأنجلو سكسون و اللاتين والأفارقة و الآسيويين، فضلا عن الانعكاسات على خريطة الانتماء السياسي والعقائدي، جنبا إلى جنب تعميم الأسلحة الشخصية و انتشار المخدرات وارتفاع معدلات الجريمة إلى مدى غير مسبوق.
6- وهل نضيف إلى ما سبق، التحدّي الناجم عن تزايد قوة الأقطاب الدولية المحتملة، خاصة في إطار تجمع "بريكس"، من الصين وروسيا، بعد أن تمت محاولة سابقة لاستئصال الخطر السلافي-الروسي، وجرت عملية لرسملة المجتمع الصيني، بل ماذا نقول؟ عملية تحول الصين إلى مزرعة للفيروسات العالمية بعد ان كانت قِبْلة للاشتراكية في الزمن الأول لماو تسي تونج..؟
فماذا يبقى بعد كل ما سبق؟ لقد كتب أحد اقطاب اليسار المصري كتابا منذ عقود تحت عنوان (الرأسمالية تجدد نفسها) فهل آن لنا أن نقول إن (الرأسمالية تدمّر نفسها)؟
هذا سؤال تصعب الإجابة عليه في ضوء المخاض المعقد الذي جرى و يجري في المجتمع الأمريكي بالذات، حيث تدور رحى حرب إيديولجية طاحنة، سوف يتقرر في ضوئها مسار التطور العالمي القادم عشرات السنين. وإنها لحربٌ بين تياريْن يعملان في اتجاهين متقابلين: إما استكمال عملية التدمير الذاتي للرأسمالية الأمريكية والعالمية، و إما محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولو إلى حين..!.