أسس المسيحية والصراع الطبقى فى الإمبراطورية الرومانية


سعيد العليمى
2020 / 12 / 10 - 22:17     

1 – لماذا نترجم للمرتد كاوتسكى ؟
كارل كاوتسكى مؤلف الكتاب الذى بين أيدينا : "أسس المسيحية " هو منظر وسياسى ماركسى – ( ولد فى 16 أكتوبر ، 1854 براغ ، بوهيميا ( الآن جمهورية التشيك ) – وتوفى فى 17 أكتوبر ، 1938 ، بأمستردام هولندا ) وقد كان القائد الأبرز للحزب الاشتراكى الديموقراطى الألمانى ، والأممية الثانية . بعد وفاة فردريك إنجلز فى 1895 ، ورث دوره بوصفه الراعى الفكرى والسياسى للاشتراكية الألمانية . وقد مثل كاوتسكى المرجعية النظرية ، وحارس تراث ماركس وإنجلز ومتابعه ، والمعلم ، والملهم النظرى، والسياسي لجيل أوروبى من الاشتراكيين كان منهم ف . ا . لينين وصولا للحرب العالمية الأولى حتى وصف بأنه " بابا الدولية الاشتراكية ".
وقد تعددت مجالات إهتماماته النظرية ، فكتب عن المذهب الإقتصادى لكارل ماركس 1887، والمفهوم المادى للتاريخ 1896 ، والمسألة الزراعية 1899 ، والثورة الاجتماعية 1902 ، والطريق إلى السلطة 1909 ( وقد اعتبره لينين من أفضل كتبه ) والأخلاق والمفهوم المادى للتاريخ 1906 ، والإشتراكية والسياسة الإستعمارية 1907، هل هناك عرق يهودى ؟ 1914 وغيرها . وقد لعبت كتاباته دورا كبيرا فى تعميم وإنتشار الأفكار الماركسية ، غير أن كاوتسكى ارتكب فى بعض أعماله أخطاء فجة ، كما قام بتشويه الماركسية ، مما جعل انجلز يوجه له إنتقادات حادة . وترى بعض التيارات داخل الماركسية أنه " كان فى آرائه الفلسفية صاحب نزعة تلفيقية تربط بين العناصر المادية والمثالية . وأنه شوه فى كتابه " المفهوم المادى للتاريخ " الذى نشر فى جزئين مابين 1927 و1929 تشويها تاما نظرية المادية الجدلية والتاريخية . ( 1 )
والواقع أن هذا قد يتسق مع تكوينه الفكرى وفق ماورد فى سيرته الذاتية ، فقبل انضمامه للحزب الاشتراكى الديموقراطى الألمانى كتب دراسة عن " أثر تزايد السكان على تقدم المجتمع " وكان نصلها موجها من منظور مالثوسي ضد الماركسية . وحين التحق بالحزب لم يكن ماركسيا بل بالأحرى " ثوريا عاطفيا " حسب تعبيره ، بل وكان مرعوبا من ان يقع تحت سلطة مرجعية ، او مدرسة مذهبية . وقد أراد ان يطبق مفهوما داروينيا على التاريخ يضع فى الصدارة صراع الأعراق ، غير انه تحول الى المفهوم الماركسي عن صراع الطبقات . وكما يقر هو نفسه كانت الأوساط الحزبية تمارس الإنتقائية النظرية ، وتستند الى الفكر اللاسالى . ويبدو مما كتبه كاوتسكى ان الحزب لم يكن متجانسا من الناحية النظرية . ( 2 )
ورغم موقفه الرجعى من الحرب العالمية الأولى بتصويته لصالح الإعتمادات الحربية ، ثم وقوفه ضد الثورة البلشفية عام 1917 وصيرورته رمزا للانتهازية الوسطية العالمية بشجبه للثورة العنيفة ، ودكتاتورية البروليتاريا ... الخ ، إلا ان لينين نفسه كان فى خضم الجدال معه يردد عن كتابات كاوتسكى ما مفاده أنه " .. ستبقى جملة كاملة من اهم مؤلفاته وتصريحاته الى الأبد مثالا عن الماركسية " ( 3 ) بغض النظر عن جحود صاحبها لاحقا . وهذا يعنى ان لتراث المرء وجودا " موضوعيا " مستقلا عن تقلبات مصائره ، الأمر الذى يدعونا الى ان لانجحده ونعود اليه ونستفيد منه ، وهذا هو حالنا فى الكتاب الذى بين ايدينا .
2 – رواد الاشتراكية الحديثة
أسهم كاوتسكى فى مؤلف جماعي اتخذ اسم :" رواد الاشتراكية الحديثة " كما قام بتحريره ، وقد ضم أربع مجلدات توثق تاريخ الافكار الشيوعية والاشتراكية منذ فجر التاريخ ، وشاركه فى الكتابة كل بدراسة مستقلة عدد من مثقفى الأممية الثانية البارزين منهم بول لافارج ، وفرانز مهرنج ، وكارل هوجو ، وادوارد برنشتين ، وجورجى بليخانوف . وقد صدر المجلد الأول عام 1895 عن دار نشر ديتز بمدينة شتوتجارت . وقد كتب فيه كاوتسكى عن أفلاطون وجمهوريته ، وعن الشيوعية الاستهلاكية المسيحية – وهو ما طوره فيما بعد ليصبح مؤلفا مستقلا عن أسس المسيحية عام 1908 – وعن توماس مور ويوتوبياه 1888، وعن الشيوعية فى أوروبا الوسطى زمن الإصلاح 1897 ( وخاصة توماس مونزر ، وطائفة تجديد العماد او اللامعتمدين ) . وقد أسهم ادوارد برنشتين بفصل عن كرومويل والشيوعية ، وأضاف صهر ماركس ، بول لافارج مادة غنية عن المجتمع الشيوعى الجزويتى فى باراجواى ، وكذلك مدينة الشمس لكامبانيلا .
ورغم أن البعض يعتبرأن هذا المؤلف يعتبر دراسة رائدة بصدد الأثر التاريخى للشيوعية المسيحية ، ولفلاسفة ومفكرين كلاسيكيين على الحركة الاشتراكية الحديثة ، الا انه لم يترجم كاملا عن لغته الألمانية الاصلية بعد .
لقد كان انجلز مازال حيا حين شرع كاوتسكى ورفاقه فى إصدار تاريخ للإشتراكية ، وقد كتموا الأمر عنه الى أن احتاجوا مساعدته وطلبوها فرفض . وقد أوضح السياق والملابسات التى حدثت فى رسالة منه موجهة الى كاوتسكى ، يعلل بها رفضه المبرر . مع ذلك فقد أبدى ملاحظاته على المؤلف كما مايلى :
" وأما بخصوص كتابك ( يقصد رواد ) فأستطيع القول انه يتحسن بقدر مايتقدم المرء فى قراءته ، ومع ذلك فان افلاطون والمسيحية الباكرة معالجان بصورة غير ملائمة . وفقا للمشروع الأصلى . وان الشيع الوسيطية معالجة بصورة افضل كثيرا ، وتدريجيا ، والمعالجة الفضلى للطوريين ، ومونزر ، واللامعتمدين . وثمة تحاليل اقتصادية بالغة الأهمية جدا عن الأحداث السياسية ، يوازيها على أى حال تفاهات حيث توجد فجوات فى البحث التحضيرى . لقد تعلمت الشئ الكثير من الكتاب ... " ( 4 )
3– المفهوم المادى وتاريخ نشأة المسيحية
يبدو ان ف . انجلز كان اول من شرع فى تطبيق المفهوم المادى للتاريخ على نشأة المسيحية وبعض تجلياتها اذا استثنينا ملاحظات متناثرة هنا او هناك لمؤسسي الماركسية عنها . فقد أعقب ظهور كراسه عن حرب الفلاحين فى المانيا وقائدها توماس مونزر الصادر عام 1850 عدة دراسات رائدة منها : ” برونو بوير والمسيحية الأولى الأولية ”1882 ، " سفر رؤيا القديس يوحنا " 1883 ، ”اسهام فى تاريخ المسيحية الأولى الأولية ” 1894 – 95 . وقد كانت هذه الدراسات بمثابة تعميمات لما وصل اليه العلم ، وخاصة على أيدى برونو بوير ، فى حقل الدراسات التاريخية لنشأة المسيحية ، ووضعها بصدد القضايا المطروحة حتى تاريخه .
صدر كتاب كاوتسكى اسس المسيحية عام 1908 عن دار نشر ديتز ، وكان بمثابة توسيع لمدخله لكتاب رواد الاشتراكية 1895 . وقد طبع بعد صدوره اثنى عشر طبعة حتى عام 1923 ، ثم طواه النسيان الى ان أعادت دار نشر (ايه فى دى a v d ) الالمانية نشره عام 2011 بمقدمة تقريظية غير نقدية مطولة تعرض مضمون الكتاب فى أربع مقالات كتبها المفكر الماركسي آلان وودز .
ولاشك ان محاولة كاوتسكى تطبيق المنهج المادى التاريخى على نشأة المسيحية ، وسلفها اليهودية ، هى أول محاولة متكاملة ، لدخول عالم المجتمعات القديمة ، العالم اليونانى – الرومانى ، والشرق الأدنى القديم ، ووصف نمط انتاجها الاقتصادى العبودى ، وازمة نموه واضمحلاله التى عكستها ازمة المؤسسات السياسية ، وظهور الحركات والقوى الاجتماعية ، والتيارات الفكرية التى كانت المسيحية اشدها تعبيرا عن المضطهدين والمهمشين . ويمكن القول أنها بمثابة اعادة بناء نقدى تاريخى لفصل عظيم فى التاريخ العالمى ، والذى جعلت منه جملة من الظروف علامة تحول للعالم المتحضر .
وبحث كاوتسكى بتناوله الشروط التى مهدت لنشأة وميلاد المسيحية الأولية ، بتوظيف الكشف الماركسي للمادية التاريخية بوصفها أداة السبر والدراسة ، يعد اول محاولة شاملة ذات مغزى . ومنذ البداية يضع كاوتسكى هدفا له تفسير الظاهرة التاريخية دون انحيازلها او تحامل عليها . ورغم أنه يقبل فرضية برونو بوير حول صمت المصادرالتاريخية المعاصرة آنذاك عن وجود المسيح ، إلا أنه يذهب الى انه من الممكن تفسير المسيحية كظاهرة تاريخية كلية بدون الرجوع إليه . ومن الصعب هنا عرض هذه الصورة المركبة لذلك بايجاز . على اية حال يزيل كاوتسكى عن شخصية يسوع ، وعن نشأة المسيحية اكوام التفسيرات اللاهوتية ، والمثالية بطرح تفسيره المادى من وجهة نظر طبقية ، وإيلاءه العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية فى الإمبراطورية الرومانية ذات النظام العبودى أهمية قصوى . وينبش فى أركيولوجيا الأناجيل والكتابات المقدسة الأخرى ، ويستبطن تحولاتها المكانية والزمانية من الشرق الأدنى ومصر الى آسيا الصغرى وروما ليكتشف النواة التى يحتمل أن تكون نواة تاريخية . وليس من المبالغة القول أن النتائج التى بلغها كاوتسكى منذ ماينيف على قرن لم يجر تجاوزها الا قليلا بل وعززت الكشوف الأثرية فى مستوطنات البحر الميت بالأردن ، وفى نجع حمادى بمصر بعض النتائج التى انتهى اليها . أما الأسئلة التى طرحها فما زالت راهنة . وغنى عن القول ان منهجه أدى به لتنحية مااعتبره البعض أساطير ميتافيزيقية ، مثل المعجزات ، والأحداث الخارقة ، ونحى الى تفسير نشوء المسيحية وصعودها من خلال الشروط الاجتماعية التى وجدت فى الإمبراطورية الرومانية .
لقد كانت فلسطين تحفل بتناقضات شتى وصراعات طبقية حادة . وكان مايسم هذه الفترة التاريخية بلاياها ومحنها وتمرداتها وثوراتها . وتضافر الاضطهاد القومى الرومانى الخارجى مع القهر الطبقى الداخلى وتحالف الكهنة والنبلاء مع الحكم الرومانى وكان على الفلاحين ان يقدموا الجزية للقيصر، والضرائب للملك اليهودى هيرود ، والعشور والتقدمات للكهنة وامناء المعبد . وكان من الطبيعى ان تنشأ حركات اجتماعية مناهضة قوامها تمردات الفلاحين بقيادة مخلصين مهدويين تتعرض للقمع والابادة ، وان تعكس هذه التمردات الشروط المادية والنزاعات الطبقية لهذه الأزمنة ، وإن تجلت واتخذت شكلا خلاصيا دينيا وفق الموروث اليهودى ورموزه - من أمثال يوشع التوراة . وقد كان وقود هذه التمردات الفلاحون الأحرار بصفة اساسية . وربما كان هذا احد الأسباب فى ان تلك الحركات لم تكن مناهضة للعبودية التى كانت سائدة فى الامبراطورية الرومانية حيث كان بعض المسيحيين أنفسهم ملاكا للعبيد .
لقد استطاع كاوتسكى ان يفسر كيف امكن للكتل الشعبية فى الامبراطورية الرومانية ان تفضل المسيحية التى بشر بها مضطهدون من الفقراء ، والبؤساء، والمنبوذين ، والعبيد الأرقاء ، وازدرت الاغنياء الاقوياء والمحظوظين فى مراحلها الاولى الى أن " انتهى الأمر بقسطنطين الطموح الى اعتبار اعتناق هذا الدين افضل وسيلة للتوصل الى ملك لايشاطره فيه احد فى العالم الرومانى " ويمكن اعتبار فيلون السكندرى ابو المسيحية الروحى ، وسينيكا عمها الاخلاقى – على حد تعبير انجلز .
" البشر الأحرار البروليتاريون ، الذين كانوا يتلقون فى روما اجرا من الدولة ، كانوا بالمقابل يعانون فى الاقاليم حالة صعبة . كانوا مجبرين على العمل وكانوا يواجهون فوق ذلك سوق عمل الارقاء المنافسة . ولكنهم لم يكونوا موجودين الا فى المدن . والى جانب هؤلاء كان مايزال موجودا فى الاقاليم فلاحون ، ملاكون عقاريون احرار ( هنا وهناك كان يوجد على الارجح اراض مشاعة ) أو، كما فى الغال ، اقنان بسبب ديون كبار الملاكين العقاريين عليهم . هذه الطبقة كانت الطبقة الاقل اصابة بالزلزلة الالاجتماعية ، كذلك كانت الطبقة التى قاومت اطول مقاومة الزلزلة الدينية . وأخيرا ، فان الارقاء ، المحرومين من الحقوق ومن الحرية ، كانوا عاجزين عن تحرير انفسهم ، كما اثبتت ذلك قبلا هزيمة سبارتاكوس ، ومع ذلك فان قسما كبيرا منهم كانوا رجالا احرار ، وابناء رجال ولدوا احرارا . اذن فبينهم يفترض ان توجد أشد البغضاء ضد ظروف حياتهم ، بغضاء حية رغم ان مآلها إلى العجز ظاهريا . " ( 5 )
4 – نشأة المسيحية بين مخطوطات البحر الميت ولفائف نجع حمادى
"عاشت احدى الطوائف اليهودية المنغلقة المعروفة باسم الطائفة القمرانية وهى احدى فروع الإسينية فى القرون الاخيرة ق . م والقرن الاول ب . م – على الشاطئ الشمالى الغربى الصخرى للبحر الميت ، على بعد حوالى عشرين كيلومترا من أورشليم ، ( وربما كانت الحلقة الوسيطة بين اليهودية والمسيحية ) . وفى عام 68 غادر مستوطنة قمران سكانها تحت ضغط القوات الرومانية المهاجمة ، وقد اخفوا فى الكهوف المجاورة الكثير من اللفائف والمخطوطات التى كانت تمثل قيمة كبيرة لديهم ، وكانت بينها مؤلفات العهد القديم ، وتعليقات عليها ( مدراش ) ونصوص ابتهالات ووثائق ادارية تنظيمية وغيرها . وقد بقيت مطمورة الى ان وجدها راع عربى بالصدفة عام 1947 . وتتابع البحث فوجدت عشرات الالوف من قصاصات الرق والبردى وجملة من المخطوطات الكاملة المكتوبة بالعبرية القديمة وبالآرامية . وقد أعاق نشر هذه المخطوطات لعدة عقود ، وقوعها فى يد علماء لاهوت كانوا يخشون ان تبدد الكشوف المحتملة او تزعزع على الاقل مسلماتهم العقائدية الراسخة . ولذا لايمكن الحكم الا على الجزء الذى نشر منها .
"تحتوى بعض الوثائق على اشارات موجزة غامضة المغزى الى " معلم الصدق " ففى التعليق على سفر نبوءة حبقوق من العهد القديم يجرى الحديث عنه سبع مرات ، وفيما يسمى بالوثيقة الدمشقية سبع مرات ايضا ، فضلا عن ذكره مرة واحدة فى كل من التعليق على المزامير ونبذة التعليق على نبؤة ميخا . وفى التعليق على حبقوق ، على نص العهد القديم عن الانسان الذى " يركض قارئا " الرؤيا ، نقدم هذه الملاحظة : " المقصود معلم الصدق الذى اعلمه الله بكل اسرار كلمات عبيده الأنبياء " والاشارات الاخرى الى " المعلم " لاتقل عن هذه ايجازا واعتاما .
" اذا اجملنا كل الاشارات الى معلم الصدق الواردة فى وثائق قمران نحصل على صورة زعيم ، وربما مؤسس الطائفة ، فهو يبدو فى صورة نبى حظى بثقة خاصة من الله ، ونال منه مفتاح الاسرار الخفية لمعنى كل النبوءات فى العهد القديم ، سيما مواعيد يوم الحساب ، وليس واضحا ما اذا كانت الطائفة قد نظرت اليه كمسيح او كبشير بالمسيح ، وفى كل الاحوال كان يعتبر وسيطا بين الله والناس . وقد تعرض معلم الصدق لاضطهاد شديد من جانب " كاهن كافر " و " انسان كذوب " مع العلم ان جماعة تسمى نفسها " بنى افيسالوم " تتهم بأنها لم تهب لمساعدته " فى ساعة العذاب " . وفى الوثيقة الدمشقية يجرى الحديث مرتين عن موت المعلم ، ولكن ليس معروفا مااذا كان موته قسريا او طبيعيا ، وحيث ان الوثيقتين تتحدثان عن الاضطهاد الذى تعرض له ، فيمكن الافتراض ان موته كان قسريا ، وتثير الجدل بين العلماء ، مسألة ما اذا كان مستوطنى قمران قد توقعوا عودة المعلم ثانية ، ولايستبعد انهم لم يعتبروه ميتا ، بل فى حالة ابعاد فقط ( الاشارات الى موته غير محددة تماما ) وينتظرون عودته .
" وقد حاول البعض المطابقة بين معلم الصدق ويسوع المسيح ، غير أنه فى رأى اغلبية الباحثين ان وثائق طائفة قمران تعود الى ماقبل اواسط القرن الاول ق.م ، وبالتالى فان كل الاشارات الى معلم الصدق تعود الى وقت يتخلف مئة سنة على الاقل عن الاطر الزمنية الواردة فى العهد الجديد والتراث المسيحى . وعلى ذلك لايمكن اعتبار المعلم ويسوع شخصا واحدا .
" هذا رغم مايلاحظ من ان ايديولوجية وعقيدة طائفة قمران الاسينية تتوافق لحد بعيد مع المسيحية الاولي . فثمة فى الحالتين طائفة ولدت فى اليهودية تدخل تعديلات جذرية فى الدين اليهودى . وهناك امور مشتركة فى طابع هذه التعديلات ويتماثل هنا وهناك الوعظ بقرب قدوم المسيح والقيامة التى يحرز بنتيجتها الايمان والتقوى والنور النصر النهائى على الشر والجور والظلام . ويوجد فى الحالتين زاهد ارسله الله ، ولكنه تعرض للاضطهاد من جانب اتباع الظلام والكفر ، ووعظ بالفقر ومشاعية الممتلكات . ونظر كليهما الى الثروة والاثرياء ، كظاهرتين تغضبان الله ، وثمة ماهو مشترك فى عبادتهما ، رفض تقديم الأضحيات ، وطقس الاغتسال ( التعميد عند المسيحيين ) والموائد المشتركة .
" ظهر عام 1965 اتجاه لوضع علامة تساوى بين يسوع المسيح وشخصية اخرى ذكرت عرضا فى نصوص قمران ونعنى بها " الملك ملكى صادق " ويمكن ان نصطلح على تسميتها " مدراش ملكى صادق " وتؤرخ الوثيقة ببداية القرن الاول ب . م وهى تتضمن نبوءات باقتراب نهاية العالم ، وقد صور ملكى صادق باعظم واسمى الخصال : انه الحاكم الاعلى ، المنتقم من كل الاشرار ، المبشر بنجاة الاتقياء المقبلة ، والشخصية الرئيسية لفعل النجاة نفسه ، المسيح ، الفادى ، قائد " ابناء النور " فى صراعهم الاخير المقبل ضد ابناء الظلام . وقد ورد اسم ملكى صادق مرتين فى العهد القديم فى سفر التكوين ، بصفته ملك شاليم ( ربما اورشليم لاحقا ) وفى احد المزامير ( 109 – 4 ) يخاطبه الرب : انت كاهن الى الابد على رتبة ملكى صادق . وفى العهد الجديد لايظهر ملكى صادق الا فى الرسالة الى العبرانيين التى يشير مؤلفها الى " رتبة ملكى صادق " ، حيث يقصد ملك شاليم ويبدى تقديرا عاليا لهذه الشخصية ولكنه لايكشف بأى درجة من الوضوح عن علاقتها بشخصية يسوع المسيح اواية شخصية اخرى رغم محاولة بعض اللاهوتيين افتراض المطابقة بينهما . واقع الحال ان التمعن فى النص العبرى القديم لسفر التكوين لايصف ملكى صادق بانه "كاهن الله العلى " بل بانه كاهن " الايل " . وليست كلمة ايل صفة ، بل جزء من اسم الاله الوثنى الايل ، وهذا الاسم معروف جيدا فى تاريخ الاديان . ان النصوص التى عثر عليها فى الثلاثينات فى رأس شمرا وعدد من الاماكن الاخرى تأتى مرارا على ذكر هذا الاسم لاحد الالهة الكثر عند الكنعانيين القدماء . وسفر التكوين يتحدث عن ملكى صادق كاهن الايل لا العلى اليهودى او اى على آخر . وبالتالى لامجال لان تكون للمسيح اية علاقة به ، ان ملكى صادق الذى يعنى " ملك الصدق " او العدل يشبه تسمية معلم الصدق . لعله كانت هناك خيوط تربط عند الاسينيين شخصية ملكى صادق بشخصية معلم الصدق . لكن هذا الامر لايمكن ان يؤثر على حل مسألة الوجود التاريخى للمسيح من عدمه ، فلاتوجد باستثناء المضاربات اللاهوتية اية حجج للتقارب . " ( 6 )
فى عام 1945 ، وبالقرب من قرية نجع حمادى – بمحافظة قنا بمصر ، اكتشف احد الفلاحين المصريين جرة فخارية ، وجد فى باطنها بضع مخطوطات قديمة ، وهى ماعرفت لاحقا بمخطوطات نجع حمادى . وقد احتوت على بعض الاناجيل والكتابات الغنوصية التى قد تؤدى الى تغيير ماهو معروف تقليديا عن اصول المسيحية . ويبدو ان هذه المخطوطات التى احتوت على 52 نصا فى 1153 صفحة جمعت فى 13 مجلدا مكتوب بعضها باللغة القبطية وترجع كلها الى القرون الاولى للتاريخ الميلادى ، ومن بينها اناجيل لم تكن معروفة من قبل مثل انجيل توماس – او تحتمس فى المصرية القديمة – وانجيل فيليب وانجيل الحق وانجيل المصريين ، الى جانب بعض كتابات منسوبة للحواريين ، مثل كتاب جيمس – يحمس فى المصرية – ورؤيا بولس وخطاب بطرس الى فيليب . وقد اخفيت هذه المخطوطات بعد تجليدها خلال النصف الثانى من القرن الرابع للميلاد حسب اجماع الباحثين ، وهى الفترة التى قامت فيها كنيسة روما باحراق كل الكتابات التى تتضمن معلومات مخالفة لتعاليمها بعد ان تحولت الامبراطورية الى الديانة الجديدة وبات هناك قانون ايمان يعين الكتابات القانونية المعترف بها .
وتبين ان المخطوطات تحتوى على افكار مسيحية لبعض الجماعات التى ظهرت منذ القرن الاول الميلادى ، وكانت تعرف بجماعة العارفين ( الغنوصيون ) اى المؤمنون بالمعرفة الحدسية الباطنية ( 7 ) التى اعتقدت فى ازدواجية الوجود ، الجسد والروح ، العدم والوجود ، وهناك حالة صراع دائم بينهما . وهم ينشدون الوصول لمعرفة الاله الحقيقى والروح الالهية عن طريق معرفة الانسان لنفسه ، وكانوا يزهدون الدنيا ، ويخرجون للبرية يعيشون حياة النسك ، ولايأكلون غير الخبز والماء . وقد اعتبرتهم الكنيسة الرسمية هراطقة حيث اعتقدوا فى وجود الهين ، اله العهد القديم يهوة الدموى ، واله العهد الجديد الاله المحب ، واتهمتهم بانهم شوهوا الثالوث المقدس ، وزعموا ان الروح القدس الخفى هو الاله الحقيقى الذى لابداية ولانهاية له ، وانكروا التجسد الالهى ، اى تجلى المسيح فى هيئة بشر ، واعتبروا ان الروح سجينة الجسد ، وان الخلاص لايتم بتضحية المسيح وانما عن طريق المعرفة ، فمن يمتلك معرفة الحق يغدو حرا ، اما القيامة فهى قبل الموت لابعده . وقد اسماهم فيلون السكندرى ( السرابيون ) او اهل السراب وكانوا مشهورين بمعالجة الأمراض باستعمال الاعشاب الطبية الصحراوية . وجدير بالذكر ان اول ظهور للمسيحية فى مصر كان بين هؤلاء . ويمثلون اول كنيسة مصرية ، وتضم مكتبتهم التى عثر عليها بنجع حمادى ( ثم فى الاقصر كما اعلن زاهى حواس عام 1994 ) اشعارا ، وكتابات فلسفية، وبضعة اناجيل لم تكن معروفة من قبل . ومن اهمها انجيل توماس الذى يحتوى اقوال المسيح بعضها موجود فى الانجيل الرابع ( يوحنا ) وبعضها غير موجود ، ويعد تاريخ توماس اقدم بعشرين عاما من تاريخ تدوين الاناجيل الاربعة المعروفة بعد عام 70 الميلادى ، ويعد اقدم الاناجيل المكتوبة . كما ضمت انجيل مريم المجيد ، وانجيل المصريين ، وانجيل فيليب . وبالطبع هناك اختلافات بين اناجيل العهد الجديد ، وانجيل جماعة العارفين ، فمريم المجدلية ليست هى المخطئة التى تابت انما وكما يقول انجيل فيليب هى ريقة المخلص التى احبها يسوع . اما الاختلاف الاهم فكان فى قصة صلب المسيح بناء على اوامر الحاكم الرومانى بيلاطس البنطى ، حيث نفت المخطوطات رواية صلب المسيح . كما اشتملت ايضا على ثلاثة اعمال تنتمى الى متون هرمس ، وترجمة جزئية لكتاب الجمهورية لأفلاطون . ومن نافل القول الاشارة الى ان هذه المخطوطات اثرت على اتجاهات الدراسات الحديثة حول المسيحية الاولية والنزعات الغنوصية . كما أكدت صواب نهج برونو بوير وانجلز وكاوتسكى فيما يتعلق بالظروف والتيارات الفكرية التى أحاطت بنشأة المسيحية والروافد التى اسهمت فى تكوينها تاريخيا .
5 - أين تركنا كاوتسكى وأين نحن الآن ؟
لقد مر مايقرب من 125 عاما على صدور كتاب رواد الاشتراكية ، وحوالى 120 عاما على صدور كتاب " أسس المسيحية ، دراسة فى أصول مسيحية " . وقد قرظ الكتاب ، وأحتفى به فور صدوره بوصفه اول محاولة لتطبيق المفهوم المادى للتاريخ على نشأة هذه الظاهرة الدينية العالمية . واعتبر واحدا من اهم مائة كتاب صدر خلال القرن العشرين ، وقد اشرت سابقا الى انه طبع اثنى عشرة طبعة منذ تاريخ صدوره حتى عام 1923 . وقد اشتمل الكتاب على اربعة اقسام ، القسم الاول يتناول مسألة الوجود التاريخى ليسوع من خلال فحص للمصادر الوثنية والمسيحية ، ثم عرض للجدالات التى دارت حولها . ويتناول القسم الثانى المجتمع الرومانى فى الفترة الامبراطورية ، حيث عرض لنمط الانتاج العبودى المعمم وانحلاله ، وملكية الارض ، والعبودية الانتاجية والمنزلية ، والتدهور الاقتصادى الذى حاق بالدولة عموما ، وطرح حياة الدولة فيما يتعلق بالتجارة ، والانقسام الطبقى بين النبلاء والعامة ، وطبيعة الدولة الرومانية ، ودور الربا ، ثم الاستبداد كشكل سياسي . كما تناول التيارات الفكرية الفلسفية والسياسية والاجتماعية التى سادت فى الفترة الامبراطورية ، وشكلت بعض عناصرها فيما بعد النظرات الدينية المسيحية . ويتناول القسم الثالث اليهود ، وبنى اسرائيل ، وهجراتهم ، وفلسطين وموقعها الكنعانى كمعبر للامم ، ومفهوم الرب فى اسرائيل القديمة ، والتجارة والفلسفة والقومية ، والصراعات الطبقية فى اسرائيل ، فسقوط اورشليم . ثم يعالج فترة المنفى ، والشتات اليهودى ، وكراهية اليهود ، ويتناول الفرق الدينية الموجودة آنذاك ، الصدوقيون ، الفريسيون ، الغيورون ، الاسينيون . وينتهى الكتاب بالقسم الرابع ، ويخصصه لبدايات المسيحية حيث يعرض للمجمع المسيحى الاولى ، وطابعه البروليتارى ، وبروز الحقد الطبقى ، والشيوعية ، ويربط ذلك بالفكرة المسيحية عن المخلص ، ومجئ مملكة الرب ، واسلاف يسوع ، ويسوع كمتمرد ضد السلطات الرومانية ، وصلبه وقصة آلامه ، وقيامته كفادى اممى ، ويميز بين المسيحيين اليهود ، والمسيحيين الوثنيين ، ثم تطوير المجمع ووجود الاختلافات بين البروليتاريين والعبيد ، فتدهور الشيوعية المسيحية ، وينتهى الكتاب بتناول مقارن بين المسيحية والاشتراكية ، ووسائل انتصارهما ويمجد القوة كقابلة مولدة للتاريخ فى مواجهة الطريقة التى انتصرت بها المسيحية حيث انتهت الى ان تكون اداة استغلال فى يد الدولة والاكليروس ضد المضهدين الذين عبرت عنهم فى بداياتها ، ويحذر من خطر بقرطة الحركة العمالية بعد ما حدث من بقرطة الديانة المسيحية .
لقد صدرت بعض المراجعات للكتاب عقب نشره ، فيعتبره إرنست بلفورت باكس أحد المفكرين الإشتراكيين عملا يرقى إلى أن يكون بلا تردد " تحفة فريدة " خطها يراع المدافع الأدبى العظيم عن الإشتراكية فى المانيا . وان اعادة البناء النقدية التاريخية للمسيحية تضع المؤلف فى مصاف قلة من المفكرين والباحثين حققت انجازات مرموقة فى هذا الحقل . ولايمنعه ذلك من ان يرى أن ترتيب فصول الكتاب كان ينبغى ان تختلف بحيث يأتى تاريخ إسرائيل قبل الفصل المخصص لمناقشة المصادر حول شخصية يسوع ، ووصف اوتحليل المجتمع فى فترة اوغسطين . وهو لايستطيع ان يفهم كيف قدر لمخلصين اقل اهمية بما لايقاس ان يذكروا فى المصادر التاريخية ، بينما يسوع الذى نسبت اليه تلك الحركة التاريخية الكبرى لاذكر له . أضف إلى ذلك فمن وجهة نظره ان النقطة المركزية فى المسيحية هى العلاقة بين النفس الفردية والرب ، وعليه يرى ان كاوتسكى قد غالى فى نزوعه فى تطبيق المادية التاريخية ، وأخفق فى ادراك ان العلاقة الإستبطانية الفردية والصوفية بالرب هى العامل المحدد الذى جذب الأشياع فى المسيحية الأولى التى اعتمدت رافدا لها التراث اليونانى – الرومانى الشرقى للامبراطورية ، وليس شيوعيتها العرضية المشروطة التى جعلها سببا رئيسيا فى نمو وانتشار المسيحية كما يظن . لقد جعلته رغبته فى جعل التنظيمات المسيحية الاولى شيوعية يتناسي خيرية الاحسان والصدقة التى مارسها الاغنياء مع الفقراء وكانا شيئا مختلفا ، وقد عرفت به منذ نشأتها ، وليس الزعم المخالف من قبل كاوتسكى سوى ”زخرفة ايديولوجية ”– على حد تعبيره . وينتهى الكاتب الى التشديد على ان نقده لايقلل على الاطلاق من قيمة البحث المكثف الذى قام به المؤلف ، وعلى نقده التاريخى ذو الطراز الرفيع . فقد نجح فى ان يؤسس حقيقة هامة فيما يتصل بتاريخ المسيحية الاولية ، وابان بما لايدع مجالا للشك ان تلك الطائفة الصغيرة من الغيورين ( القنائيين ) المتمردين فى اورشليم ممن ادعوا نسبتهم الى يسوع الناصرى ، كانوا ذوى طابع فوضوى بروليتارى ( بالمعنى الكلاسيكى للكلمة ) واشتملوا على رجال احرار مضطهدين ماثلوا من الناحية الجوهرية تلك العصب المتمردة الانتفاضية التى شاعت فى تلك الازمنة التى استهدفت الاطاحة بالنير الرومانى ، واعادة تأسيس الدين اليهودى على اسس ديموقراطية وشعبية ، مع السيطرة على المعبد وثرواته من قبل قادتهم . وقد نجحت الجمعية الثورية السالفة فى الاحتفاظ بتماسكها بعد موت المؤسس ، ربما بسبب الاثر الذى تركته شخصيته . ( 8 )
وفى كتابه " المسيح اسطورة ام حقيقة ؟ " وفى قسم عنونه " الثورى المتمرد" ( كما يراه أ . فيدنسكى و ك . كاوتسكى واخرون ) يعارض ا. كريفيليوف وجهة نظر كاوتسكى حول شخصية يسوع كاشتراكى ومتمرد ثورى . ويرى ان المجمع المسيحى لم يتطرق الى اعادة تنظيم المجتمع بأسره على اسس جديدة شيوعية ، بل اقتصر على الانظمة المشاعيىة الداخلية فقط ومايدلل على ذلك واقع ان افراد المشاعة اوصوا بأن يبيعوا ممتلكاتهم ويقدموا النقود لصندوق المشاعية . فضلا عن انه لم يبرهن على الترتيب التاريخى الزمنى للنصوص التى تشير اليه كمتمرد منتفض ( ماجئت لألقى سلاما على الأرض بل سيفا ) ، والاخرى التى تشير اليه كخانع مستسلم ( لاتقاوموا الشر ) واسبقية الاولى على الثانية ، اى ان النصوص المتمردة فى الانجيل ظهرت قبل النصوص الداعية الى عدم مقاومة الشر ، وينتهى الى ان المفهوم كله يبقى افتراضيا بحتا وغير معلل بشئ غير المقايسات المنطقية .
ويكتب جون بيكارد : شهد العام الماضى الذكرى المئوية لطبع " أسس المسيحية " الذى كتبه المنظر الماركسي كارل كاوتسكى ، وقد كان اول محاولة لوصف نشوء هذه الديانة الغربية الكبرى من منظور القوى الطبقية ، والتطور المادى للمجتمع ، بعيدا عن الحكايات الورعة التى يروجها رجال الكنيسة . ورغم ان كتابه كان قاصرا فى بعض المواضع ، غير ان الحجج الأساسية التى وردت فيه صمدت لاختبار الزمن حتى اليوم . لقد تمثل المغزى الخاص فى كتاب كاوتسكى فى انه كان اول محاولة شاملة لوصف اسس ونشوء المسيحية مستخدما المادية التاريخية ، ورفض الاساطير الميتافيزيقية وراءها مركزا على الاوضاع الاجتماعية التى وجدت فى الامبراطورية الرومانية . ( 9 )
كما ذكرت قبلا كانت قد اعيدت طباعة كتاب اسس المسيحية عام 2011 باللغة الالمانية ، وقدم له بمقدمة مطولة الماركسى المعروف آلان وودز ، نشرت ايضا على الشبكة العنكبوتية فى اربع حلقات . وهو يعتبر ان اعادة طباعة الكتاب جاءت فى وقتها . كما يعتقد ان الكتاب يستحق اهتماما من دوائر اوسع من القراء كتحفة ادبية لمنهج المادية التاريخية . ويبدى تعجبه من ان الكتاب لم يطبع لعقود ، ولم يكن متاحا بكامله فى الانجليزية ولغات اخرى ، خاصة وان الاستنتاجات الرئيسية التى بلغها كاوتسكى قد ايدتها الكشوف الأثرية ، وخاصة مخطوطات البحر الميت . ثم يستعرض ماكتبه برونو بوير الهيجلى اليسارى ، وعقبه انجلز ، وارنست رينان ، ثم يتعرض لمشكلة المصادر المسيحية عن شخصية يسوع . ويعود مرة اخرى لكتابات ماركس – انجلز عن المسيحية الاولية ليشدد على ماقاله انجلز وتابعه فيه كاوتسكى عن الطابع اليهودى للمسيحية ، وفكرة كاوتسكى ان المسيحيين الاوائل ربما كانوا جزءا من حركة الإسينيين وشيوعيتهم ، الأمر الذى اكدته محتويات مخطوطات البحر الميت . وهو ماكان ينكره جمهرة من الباحثين ، فاصلين دوجماتيا المسيحية عن اليهودية وكأن هناك قطيعة كاملة بينهما . ويتناول الطبقات الاجتماعية فى المجتمع اليهودى، والانتفاضات التى شنها المكابيون وانتهت بتدمير اورشليم .
والحال ان مقدمة آلان وودز على طولها تحولت لإعادة سرد لماكتبه برونو بوير- ماركس – انجلز، وعرضا لما طرحه كاوتسكى ، وكأنه يعيد كتابة " اسس المسيحية " من جديد ، وربما كانت الاضافة الوحيدة التى اضافها هى عرضه للجدالات التى دارت بين الباحثين حول مخطوطات البحر الميت فى خربة قمران ومدى علاقتها المفترضة بالاسينيين ، وبالمسيحية الاولية ، وبما توقعه كاوتسكى ، وقبله انجلز قبل حدوث هذا الكشف بزمن طويل . ( 10 )
ربما كان من افضل ماكتب عن كتاب كاوتسكى " اسس المسيحية " بغض النظر عن الاتفاق او الاختلاف مع الكاتب فى اطروحاته البحث الموجز لكن العميق تحت عنوان : " راهنية كارل كاوتسكى – حول اعادة البناء المادية لتاريخ اسرائيل والمسيحية الاولية " ، والبحث بقلم رولاند بوير ، وهو اختصاصى اكاديمى فى حقل الدراسات النقدية الانجيلية ، وله عدة مؤلفات منها : النقد الماركسي للانجيل ، الصادر عام 2003 ، فى لندن ، عن دار نشر تى & تى . كلارك .
ينظر ر . بوير لكتاب كاوتسكى بوصفه اعادة بناء ماركسية للسياق الاقتصادى الاجتماعى الذى ظهر فيه الانجيل . وبمعنى آخر ، اعادة بناء ماركسية للتاريخ الاقتصادى لإسرائيل القديمة ، وللشرق الادنى القديم وللمسيحية الاولية . وفى هذا الصدد يعتبر من منظور المدرسة النقدية الانجيلية التى ينتمى اليها ان المشروع الذى بدأه كاوتسكى لم ينته بعد . ولذا هو لايسعى الى الوقوف عند ماطرحه فحسب ، وانما يريد ان يدفع بالقضايا التى يثيرها الى الامام ، وخاصة الاسئلة التى مازال لها اهمية راهنة حتى الآن . ويبرز بينها من وجهة نظره مشكلة الاعتماد على النصوص القديمة غير الموثوقة فى اعادة بناء تاريخية لبنى اسرائيل ، ويشكك مع الاتجاه النقدى المعاصر فى الدراسات التوراتية والانجيلية فى الملكيات التى قيل انها ظهرت ايام داود وسليمان ، ثم المنفى على يد البابليين والاشوريين ، فالعودة من المنفى ويعتبرها جميعا بغير اساس تاريخى ، وانما نتاج خيال ادبى ، وهى عناصر فى اسطورة سياسية شاملة ( اسرائيل قلعة فى السحب – حسب تعبيره - ) ، او النصوص المسيحية ، وهى مسألة فى قلب الدراسات الانجيلية الحديثة . فمن وجهة نظره اذا لم تكن هذه النصوص مصادر موثوقة من ناحية وقائعها وترتيبها الزمنى فأى فائدة تاريخية لها ؟ من ناحية اخرى يؤكد ر. بوير على ضرورة التدقيق حول انماط الانتاج عند مناقشته لأطروحة كاوتسكى حول نمط الانتاج العبودى ، وكيفية الانتقال او التحول من نمط لآخر ، و مدى صواب تعميمه له بحيث شمل الشرق الادنى القديم ، والعالم الهيلينى معا ، ورفض اطروحة ماركس حول وجود نمط انتاج مميز لمعظم دول الشرق الادنى القديم اسماه نمط الانتاج الاسيوى . وفى هذا السياق يتعرض للاشكال النوعية للعبودية فى مجتمعات العالم القديم ، ويشير للجدالات التى دارت فى روسيا السوفيتية عام 1933 التى خاضها ف . ف . ستروفه رافضا تعميم الاقطاعية كنمط انتاج على بلدان الشرق القديم . ويتهم كاوتسكى بأنه تحيز منهجيا ببرهناته الانجيلية احيانا ليعلى من شأن اعادة بناء التاريخ الاقتصادى الاجتماعى والسياسي . بينما يرى رولاند بوير ان المسيحية وسمت فترة الانتقال بين مايسميه "الاقتصاد المقدس " ونمط الانتاج العبودى ، كما يناقش فرضية انه اذا كانت المسيحية حركة شيوعية فأى نوع منها كان قائما فى تلك الازمنة القديمة . وان كانت تمثل بالنسبة له على اية حال " اسطورة سياسية " لأنه لم يكن لها اثر على النظام المؤسس على العبودية ، وان بقيث فى الاديرة ونظام الرهبنة حتى الازمنة الراهنة .
.وينتهى ر. بوير بالقول وحسب كلماته : على النقيض فإن كتاب اسس المسيحية كتاب طموح جدير بالقراءة ، رغم انه كان يمكن ان يكون اكثر ايجازا ، وهو ينطوى على جملة من الرؤى ذات قيمة . والقيمة الكبرى لهذا المؤلف تكمن فى انه بدأ مايمكن ان نسميه مشاريع لم تنته : اى اعادة بناء ماركسية للسياق الاقتصادى الاجتماعى الذى ظهر فيه الانجيل . وكذلك اعادة بناء لتاريخ اطول للفكر والعمل الشيوعى الذى سبق ماركس وانجلز . ان كتابه يتحدى التاريخ كما وصلنا عن اسرائيل والكنيسة ويفتتح ممكنات جديدة لهذا التاريخ . ( 11 )
يبدو انه على ضوء الابحاث الاخيرة فى الكتاب المقدس اليهودى، والاناجيل المسيحية لابد من اعادة النظر فى الكثير من رواياتها . فلم تؤيد الكشوف الاثرية التى جرت بكثافة فى ارض فلسطين المحتلة ماورد فيها . وقد اجريت تنقيبات شاملة فى مناطق الهضاب الفلسطينية ( الضفة الغربية ) بمعرفة جامعات العدو الصهيونى ، وعلى رأسها جامعة تل ابيب وقد جمعت معلومات غزيرة من شتى الاختصاصات المساعدة لعلم الاثار بما يمكن اعتباره ثورة فى اركيولوجيا فلسطين . وكلما كانت تتجمع هذه المعلومات وتشكل صورة مغايرة ، ويدرك مغزاها المناقض ، كلما تبين للمؤرخين والآثاريين صعوبة ملائمة هذه المعلومات مع الصورة القديمة المتوهمة عن تاريخ اسرائيل ويهوذا وتاريخ فلسطين بشكل عام . ومالبث ان نشأ اتجاه راديكالى فى اوساط الباحثين فى الغرب دعا الى اعادة نظر جذرية وشاملة فى الخارطة المعرفية والاثارية والتاريخية لفلسطين ، والفصل مابين المرويات التوراتية والكشوف الاثرية فصلا كاملا بديلا عن نزعة تلفيقية قديمة كانت تحاول التوفيق بين الاثنين .
وبرز من بين هؤلاء الراديكاليين :
( ...... بحاثة متميزين مثل ج .ه هايس ، ج . م ميللر ، وفان زيتر ، ى . ب ليمشه ، ج . جاربينى ، ج . و الشتروم ، ت . ل تومبسون ، ك . وايتلام ، وآخرين . ان مايجمع هؤلاء المؤرحين على اختلاف مشاربهم هو الموقف النقدى من الرواية التوراتية ، والشروع فى استقراء الوثائق الآثارية والتاريخية بعيدا عن الافكار المسبقة التى سيطرت على مجال البحث حتى الان . ويذهب اكثرهم راديكالية الى القول بضرورة صرف النظر نهائيا عن كتاب التوراة باعتباره وثيقة دينية غير تاريخية ، دونت بعد وقت طويل من الاحداث التى تتصدى لروايتها . ......... ويرى ت . ل تومبسون بأن المعلومات الآثارية الجديدة التى صارت متوفرة لدينا الآن تمكننا من صياغة تاريخ لإسرائيل مستقل عن البحث التوراتى ، وان مقدرتنا المتزايدة على بناء تاريخ مفصل لأصول اسرائيل القديمة تجعل من الضرورى اهمال الرواية التوراتية كمصدر تاريخى ، والتخلى بشكل جذرى وواع عن كل المسلمات التى فرضت على المؤرخ من قبل النص التوراتى . يقول تومبسون فى كتابه الجديد الذى صدر عام 1999فى اوروبا تحت عنوان الكتاب المقدس فى التاريخ ....... " ان الرواية التوراتية التى تدور حول صعود وسقوط اسرائيل القديمة مازالت تتحكم بعملية إعادة بناء التاريخ لدى الحلقات الاكاديمية التوراتية . وهذه العملية ، فى الواقع تبخس القصص التوراتية حقها كأدب دينى ذى قيمة فنية عالية ، وذلك بالتركيز على وجهها الظاهرى كأحداث ووقائع وتحولها إلى تاريخ ... إن أصحاب هذا الاتجاه ، فى عدم التزامهم الموقف النقدى التاريخى ، ينتهكون القاعدة الأولى فى علم التاريخ ، الا وهى تمييز الواقعة من الحدث والخرافة ... لقد غدت الحاجة ماسة اليوم لكتابة تاريخ مستقل عن التوراة ، نستطيع من خلال المقارنة معه التثبت من تاريخية أية مروية توراتية . وبدون تاريخ مستقل لفلسطين ، ولإسرائيل القديمة ضمنه ، فإن مسألة تاريخية التوراة تبقى بدون حل . " ( 12 )
اذا كانت الكشوف الأثرية الجديدة قد أدت الى ادراك ضرورة فصل الصورة التاريخية لإسرائيل عن صورتها التوراتية التى لاتعدو ان تكون مخيالا أدبيا يجد ركائزه فى المناخ الإجتماعى والنفسي للفترة التى أنتجته ، مما يتطلب اجراء اعادة نظر تاريخية بالفصل بين البحث التوراتى والبحث الأركيولوجى ، ففى ضوء الوضع الراهن من تطور علم التاريخ لابد ان يبتعد حل قضية منشأ المسيحية عن ربطها بشخصية يسوع وبالفعاليات التى نسبتها الكنيسة إليه ، ولايبدو مهما فى هذا السياق سوى معرفة كيف تراكبت وتجلت ملامح صورة المسيح وكيف جرى تشكيله كشخصية تاريخية وتحوله من حمل غامض – ضبابى ولوجوس إلى شخص واقعى ذى سيرة محددة .
مصادر المقدمة :
1– الموسوعة الفلسفية ، م . روزنتال ، ب . يودين ، ص ص 389 – 390 ، ترجمة سمير كرم ، دار الطليعة ، بيروت ، الطبعة السادسة ، 1987 – للاطلاع على وجهة نظر بشأن حدود المفهوم الكاوتسكى للماركسية ، راجع كراس : كاوتسكى والكاوتسكية ، اريك ماتياس ، ترجمة خلدون حجة ، دار الطليعة بيروت ، الطبعة الأولى 1975 ، ولمتابعة نقدية للكاوتسكية فى الحقل السياسي من منظور لينينى ، راجع : معجم الماركسية النقدى ، جيرار بن سوسان ، جورج لابيكا ، مادة كاوتسكية ، ص ص 1094 – 1096 ، دار الفارابى ، الطبعة الأولى 2003 ، بيروت . ولمتابعة نقدية لموقفه من الدين ، والكنيسة من منظور سوفييتى ، راجع : المعجم العلمى للمعتقدات الدينية ، مادة كارل كاوتسكى ، ص 326 ، مجموعة من العلماء السوفييت ، تعريب وتحرير سعد الفيشاوى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الأولى 2007 .
2 –Karl Kautsky . autobiography - social democrat, vol.6 no 12 , dec 1902 , pp 355 – 360 – internet archive ..
3 – لينين ، بصدد الكاريكاتور عن الماركسية وبصدد " الاقتصادية الامبريالية " ص ص 162 – 163. المختارات فى 10 مجالدات ، م 6 ، دار التقدم ، موسكو ، 1977 .
4 – مراسلات ماركس إنجلز، رسالة إنجلز الى كاوتسكى ، المؤرخة فى 21 أيار – مايو – 1895 ، لندن ، ص ص 568 – 571 ، ترجمة فؤاد أيوب ، دار دمشق ، الطبعة الأولى 1981 .
5 – كارل ماركس ، فريدريك انجلز ، حول الدين ، ترجمة زهير الحكيم ، مقال برونو بوير والمسيحية الاولى الاولية ، ف .ا ، ص 151 ، دار الطليعة ، بيروت ، 1974 .
6 – اعتمدت بكثافة كمصدر معلومات عن مخطوطات البحر الميت ، والسجالات التى دارت حولها على كتاب أ . كريلوف ، المسيح اسطورة ام حقيقة ؟ ص ص 149 - 156 اكاديمية العلوم السوفيتية ، سلسلة دراسات سوفيتية فى الأديان – "هيئة تحرير العلوم الاجتماعية والعصر " ، موسكو 1978 .
7 – للاطلاع على دراسة تفصيلية للغنوصية ومخطوطات نجع حمادى انظر : فراس السواح ، الوجه الآخر للمسيح ، الفصل الثانى وعنوانه الغنوصية ونشأة المسيحية ص ص 60 – 96 ، منشورات دار علاء الدين ، سوريا دمشق ، الطبعة الأولى 2004 ، وراجع من اجل تعريف موجز دقيق : المعجم العلمى للمعتقدات الدينية ، مادة العارفون ( الغنوصيون ) ، ص ص 248 - 249 ، مجموعة من العلماء السوفييت ، تعريب وتحرير سعد الفيشاوى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الأولى 2007 .
انظر ايضا ، عزت اندراوس ، موسوعة تاريخ اقباط مصر ، مخطوطات نجع حمادى التى اثارت جدلا تاريخيا . http://www.coptichistory.org/new page 1994.htm
8 – Ernest b.Bax, Kautsky,s origins of Christianity ( 1909 )social democrat, vol. 13 no.10,October 1909 , pp 439 – 449 .- Marxist.org/ archive.
9 – john picard , foundations of Christianity , 23 December 2009 ( https://plus .google.com /marxistdotcom)
10 – on Kautsky,s foundations of Christianity ,Alan woods, four parts , introduction to the new German edition( https://plus. Google .com /+Marxistdotcom)
11 –Boer,Roland.2007 the actuality of Karl Kautsky , on materialist reconstructions of ancient Israel and early Christianity . bible and critical theory 3 (3) : pp.40.1-40.23. dol: وبخلاف ا . بلفورت باكس يعتبر رونالد بوير ان بدأ الكتاب بالقسم المخصص لشخصية يسوع فى المصادر امرا منطقيا مادام الكتاب يتناول اسس المسيحية تحديدا .
12 – فراس السواح ، تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود ، ص ص 12 – 13 ، الناشر دار علاء الدين للنشر والتوزيع ، دمشق ، الطبعة الأولى ، 2001 . انظر ايضا ، لنفس المؤلف ودار النشر كتاب آرام دمشق واسرائيل فى التاريخ والتاريخ التوراتى ، الطبعة الأولى 1995 . وكذلك ، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلى ، توماس ل . طومسون ، ترجمة صالح على سوداح ، دار بيسان بيروت ، ط . أ 1995 ، وفى نفس الموضوع ، كتاب تاريخ نقد العهد القديم ، تحرير زالمان شازار ، ترجمة أحمد محمد محمود – المركز القومى للترجمة ، القاهرة 2000 . ومن اجل كشف الظروف التى احاطت بتلفيق شعب يهودى ، وعرق يهودى ، فى عصر نشأة القوميات البورجوازية فى اوروبا القرن 19 وتفكيك الأساطير التى أحاطت بالإستعمار الصهيونى لفلسطين طالع : شلومو ساند ، أستاذ التاريخ المعاصر فى تل أبيب ، إختراع شعب إسرائيل ، ترجمة سعيد عياش ، الأهلية للنشر والتوزيع ، الأردن ، طبعة خاصة بالعالم العربى ، 2001 .