ستالين و الحزب البلشفي


احمد المغربي
2020 / 12 / 9 - 11:00     

إن توضيح حقيقة علاقة ستالين و سياساته بثورة أكتوبر و البلشفية و الاشتراكية و أحداث القرن العشرين ضرورة ملحة و واجب على كل من يناضل من أجل الاشتراكية في قرننا الواحد و العشرين الذي يعرف تجذرا عالميا حقيقيا و تصاعدا كبيرا للاهتمام بالأفكار الراديكالية و معه أيضا تصاعد للهجوم الذي تشنه البرجوازية و الاصلاحيين على الأفكار الراديكالية المناهضة للنظام الرأسمالي و دولته و بينما يكتفي هؤلاء بإدانة ما يسمونه عنف و فوضوية الأناركيين فهم يقومون بتشويه المشروع الاشتراكي الذي يشكل عليهم خطرا أكبر بسبب تماسكه المبني على الأساس العلمي الذي يقدم بديلا يجذب فئات أوسع من تلك التي يجذبها المشروع الاناركي و في عمليتهم هذه يستعينون بتزييف تاريخ القرن العشرين و يواصلون عزف سيمفونية الخبث و الكذب التي ألّفوها أثناء الحرب الباردة و قبل تبيين علاقة ستالين بالبلشفية و الاشتراكية في هذا المقال أرى أنه يجب توضيح أن :
- الاشتراكية ليست حزبا أو شخصا بل تمثل مرحلة تاريخية تشكل المرحلة الأولى من الشيوعية و المرحلة التي تلي القضاء على الرأسمالية تكون مرحلة انتقالية يتم فيها الاعتماد على التخطيط المركزي للاقتصاد المؤمم من أجل التقدم نحو الاشتراكية و تختلف المدة اللازمة لبلوغ الاشتراكية حسب اختلاف الظروف الاقتصادية و السياسية محليا و عالميا
- ستالين احتاج لاثنا عشر سنة لتدمير الحزب البلشفي و لم تصعد الستالينية بشكل كامل إلا بإغراق البلاشفة في نهر من الدماء

________________________________________

"ففي حياة الثوريين العظام كانت الطبقات الظالمة تجزيهم بالملاحقات الدائمة وتتلقى تعاليمهم بغيظ وحشي أبعد وحشية وحقد جنوني أبعد الجنون وبحملات من الكذب والافتراء وقحة أبعد القحة. وبعد وفاتهم تقوم محاولات لجعلهم أيقونات لا يرجى منها نفع أو ضر، لضمهم، إن أمكن القول، إلى قائمة القديسين، ولإحاطة أسمائهم بهالة ما من التبجيل بقصد «تعزية» الطبقات المظلومة وتخبيلها، مبتذلة التعاليم الثورية باجتثاث مضمونها وثلم نصلها الثوري" (لينين , الدولة و الثورة)
"لا تقيموا النصب التذكارية له.. فكل ذلك ارتبط بأهمية قليلة في حياته.. فإذا كنتم تريدون تكريم إسم فلاديمر إيليتش، ابنوا الحضانات، ورياض الأطفال، والمنازل، والمدارس، والمكتبات، والمراكز العلاجية، والمستشفيات، والبيوت للعاجزين، إلخ، والأهم من ذلك كله، دعونا نضع تعاليمه في الممارسة" (كروبسكايا زوجة لينين و رفيقته في تعليقها على تحنيط جثة لينين بعد وفاته)

خلال حياته ناضل الثوري الروسي فلاديمير لينين من أجل الاشتراكية و ضد الانتهازية و انسجاما مع روح الاشتراكية الديمقراطية و الأممية فقد كان مهتما قبل الحرب العالمية و ترأسه للحكومة السوفييتية بمستقبل الثورة الديمقراطية في الشرق و الثورات التحررية في المستعمرات و أصدر لينين سنة 1902 عمله البارز الذي صاغ فيه أطروحاته و نظريته حول أهمية الحزب الطليعي التي أثارت الجدال في الحركة الاشتراكية آنذاك و على أساسها تأسس الحزب البلشفي الذي يثبت تاريخه المليء بالجدالات و النقاشات قبل أنه كان بعيدا كل البعد عن تقديس القادة و تأليههم لكن بعد وفاة لينين حوله ستالين لإله و ادعى أنه نبيه الناطق باسمه و على نهج الدولة الثيوقراطية التي يدعي حاكمها حماية الملة و الدين ادعى ستالين الحفاظ على الثرات اللينيني و حوّل الحزب لكنيسة وظيفتها مباركة و تمجيد القيصر الستاليني الذي جلس على العرش بعد حرب بدأت بطرد البلاشفة واتهامهم بالهرطقة و انتهت بسحقهم و تشويههم في محاكمات نافست محاكم القرون الوسطى في تلفيق التهم حيث تم اتهام الذين ناضلوا في عهد آل رومانوف و الذين قاتلوا في الحرب الأهلية بالخيانة و العمالة للنازية التي وقع معها أبو الشعوب معاهدة سرية بعد إعدام رفاقه و قادة الجيش بتهمة العمالة لها و فوق جثت البلاشفة الغارقين في الدماء صعدت الستالينية أما تأليه لينين و ادعاء الاستمرار في طريقه فلم يكن سوى قناع لتبرير السياسات الانتهازية و الاستبدادية التي تبناها بطل البيروقراطية الذي حول نفسه لإله تترصد شرطته السرية لكل رافض لعبادته و تمجيده
إن المعارضة القوية لسياسة لينين أثناء مفاوضات بريست ليتوفيسك و النقاشات حول النقابات و المعارضة العمالية بعد السياسة الاقتصادية الجديدة و الحرب الدموية الطويلة التي احتاجها ستالين للقضاء على البلشفية تثبت أن جذور الشجرة الستالينة لم تكن في الحزب البلشفي و لم تكن من ثماره إذ أن تناقضهما الجذري لم يسمح لهما حتى بالتعايش في أرض واحدة و احتاج نمو شجرة الستالينية للقضاء التام على البلشفية
إلا أن ستالين نفسه لم يكن يحلم بالسلطة و لم تكن رئاسة الاتحاد السوفييتي واردة حتى في أحلامه لأنه لم يكن مؤمنا لا بإمكانية تحقيق الاشتراكية في روسيا القيصرية و لا بوصول الحزب البلشفي للسلطة و بعد ثورة فبراير كانت فكرته التي توضح أيضا تصوره لقوة الحزب البلشفي هي تقديم الدعم النقدي للحكومة المؤقتة فأثناء المؤتمر الذي عقد في مارس قال ستالين في نقاشه مع اللجنة المركزية: «هل يمكن للمرء، في مثل هذه الحالة، أن يتحدث عن دعمنا لمثل هذه الحكومة؟ على المرء بالأحرى أن يتحدث عن دعم هذه الحكومة لنا. ليس من المنطقي التحدث عن دعم الحكومة المؤقتة، بل على العكس من الأنسب الحديث عن عدم قيام الحكومة بإعاقتنا عن تنفيذ برنامجنا«
و لم تطرح مسألة "الثورة الاشتراكية" في نقاشات الحزب البلشفي إلا بعد عودة لينين إلى روسيا في أطروحات أبريل التي قوبلت بمعارضة البلاشفة القدماء
أما ستالين الذي قام بإعدام أعضاء الحزب المعارضين و الغير موثوق في ولائهم له فكان بعد ثورة فبراير يدافع عن الوحدة مع المناشفة فأثناء النقاشات حول الوحدة قال الذي سيصبح الاختلاف مع بيروقراطيته جريمة تعادل الخيانة العظمى : » لا وجود لحياة حزبية دون خلافات. سوف نحل الخلافات التافهة داخل الحزب. لكن هناك مسألة واحدة مهمة: من المستحيل توحيد ما لا يمكن توحيده. سيكون لدينا حزب واحد مع أولئك الذين يتفقون على قرارات زيمروالد وكينثال«
إن الفرق بين لينين و ستالين يكمن أساسا في الفرق بين الظروف التي نشأ فيها الحزب البلشفي في روسيا القيصرية و الحزب الستاليني في الاتحاد السوفياتي و في الفرق بين السياق الذي وصل فيه كل منهما لقيادة الحزب ففي حين أن لينين كسب مكانه في حزب ثوري يعمل في ظروف السرية بأعماله كمنظر و سياسي خاض صراعته في الحزب عن طريق النقاش و النضال الإيديولوجي وصل ستالين لقمة الحزب الحاكم عن طريق مناورات و مؤامرات بونابارتية و خاض من عانى من فقر في النظر صراعاته بمنهج إمبريقي متذبذب بدأ بوسائل بيروقراطية و انتهى بأبشع الوسائل البوليسية و يحدد هذا السياق الفرق الجذري بين مؤسس الحزب و تلميذه الخائن فالموارد التي كانت متاحة للمؤسس كانت تتلخص في قدراته النظرية و السياسية بينما كان للتلميذ تحت إمرته البيروقراطية الوفية و الشرطة السرية وانطلاقا من هذه الموارد حُددت الوسائل التي مورست بيها الصراعات التي كانت غايتها مختلفة إذ أن الأول خاض الصراع بهدف تقوية و تسليح حزب صغير من أجل الثورة و الثاني خاض صراعات للحفاظ على امتيازات بيروقراطية الحزب الحاكم
أما الادعاء القائل بأن الحزب كان طوال مسيرته جهازا من الجنود المطيعين للجنرال فيفنده كل تاريخ الحزب منذ الانشقاق حتى وفاة لينين فبعد ثورة 1905 اندلعت صراعات فلسفية و سياسية حقيقية بين البلاشفة و في تفاعل لينين مع أعضاء الحزب الذين كان معهم في خلاف شديد لم يخطر بباله طرد من اعتبرهم ليسوا ماركسيين(بوغاندوف و لونتشارسكي) و ألف كتابه حول الفلسفة(المادية و مذهب النقد التجريبي) و مقالات سياسية(حول المقاطعة) و بعد ثورة 1917 و وصوله لروسيا من سويسرا كان تفاعل جنود الحزب وضباطه مع أطروحات الجنرال الدليل القاطع الذي يفند أسطورة حزب الجنرال و جنوده فقد كانت سياسة لينين في تناقض تام مع العديد من القادة البلاشفة و طالب الحزب (و لم يأمره) بطرد عضوين من المكتب السياسي فقط بعد إفشائهما لسر انتفاضة أكتوبر في صحافة منشفية و بعد نجاح الانتفاضة كلفا بمناصب مهمة في الحكومة الثورية و لم يطرد زينوفيف من الحزب حتى بعد تقديمه لاستقالته احتجاجا على عدم تشكيل حكومة ائتلافية تضم المناشفة أما أثناء مفاوضات بريست ليتوفيسك فقد وجد رئيس الحكومة نفسه في موقع الأقلية في الحزب و لم يهدد المختلفين معه بطردهم بل هدد بأنه سيقدم استقالته و لم يفرض قراره بانتهاك الديمقراطية في ظروف كانت تتعرض فيها الجمهورية لخطر كبير
و ستالين الذي قطع معه لينين علاقاته و طالب بفصله من منصب الأمين العام لم يكن له أي وزن في الحزب أو في الحركة الاشتراكية الدولية التي كانت تسمي النظام في الاتحاد السوفياتي بعد الثورة و أثناء الحرب الأهلية بنظام لينين-تروتسكي و لم يكتب ستالين أي عمل نظري يعبر فيه عن أفكاره الخاصة إلا بعد وفاة لينين و وصول ممثل البيروقراطية الصاعدة للسلطة و تمحورت أعمال بطل البيروقراطية حول الحرب على الماركسية الثورية التي ادعى أنها هرطقة تروتسكية و كانت أطروحة الاشتراكية في بلد واحد من انعكاسات النزعة المحافظة وضيق الأفق في التعامل مع المسائل الاقتصادية و خطر التدخل العسكري ضد الدولة السوفييتية و قد قادت هذه الأطروحة الستالينية لسياسة الرقص الامبريقي المتذبذبة التي بدأت بالتملق الامبريالية البرجوازية و انتهت بتوقيع معاهدات رجعية مع العصابة النازية
إن البلشفية لم تكن منزهة عن الأخطاء و في تاريخها إلى جانب النجاحات سارت أيضا الأخطاء و أثناء الثورة ارتكبت العديد منها و كان من بينها حظر الفصائل داخل الحزب البلشفي بعد تبني السياسة الاقتصادية الجديدة و بعد سنوات استخلص تروتسكي الذي ظل مدافعا عن صحة أطروحة لينين حول الحزب أن هذا القرار بالرغم من ضرورته آنذاك فقد ساعد نمو البيروقراطية التي ناضل مع لينين ضدها
و يجب أن أضيف أن قرار حظر الفصائل في ظل حكم حزب واحد في البلاد هو أمر لا يجب على أي ديمقراطي منسجم تبريره و تحويله من قرار نتج في ظرف استثنائي لقاعدة تنظيمية و أيضا قرار لينين حول شروط العضوية في الحزب الحاكم بالرغم من صحته لتحصين الحزب من الوصوليين فهو يتناقض مع الديمقراطية عندما يطبق في شروط يكون فيها تشكيل الاحزاب محظورا
لكن ينبغي أن أشير أيضا لأن الامبرياليين بحربهم الاجرامية على روسيا السوفييتية يتحملون قسطهم من المسؤولية على السياسات الاستثنائية التي اتبعها البلاشفة للدفاع عن الجمهورية فحظر الاحزاب لم يتم إلا بعد أن حملت السلاح ضد السلطة السوفييتية و حظر الفصائل تم في ظروف كان فيها الانشقاق يهدد الحزب الحاكم بعد وقت قصير جدا من نهاية الحرب الاهلية في بلاد محاصرة بالأعداء

و بالنسبة للمناضلين من أجل الاشتراكية في قرننا الواحد و العشرين فإن الضغط الاقتصادي التي يمارسه المليارديرات و المؤسسات البرجوازية الغير منتخبة على الاحزاب الاصلاحية الراديكالية لتتخلى عن برامجها ليس بالرشوة لكن بالتهديد بورقة الاستثمار و القروض توضح حقيقة تعدد الأحزاب في البلدان الرأسمالية كما قدمت أحداث أمريكا اللاتينية دروسا تؤكد خطأ الدفاع الغير مشروط عن تعدد الأحزاب في الدولة التي تتحدى الرأسمالية إذ أن السياسة صراع بين الطبقات و ليست مباراة كرة قدم لكن أحداث القرن العشرين أكدت أيضا أن الاشتراكية لا يمكن أن تنموا بدون الديمقراطية