تواطؤ «وطن حقوق الإنسان» مع وائدها


جلبير الأشقر
2020 / 12 / 9 - 09:39     


إن الغطرسة من التهم الرائجة الموجّهة للساسة الفرنسيين، وهي تنتمي إلى إرث زمن الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى (لذا نجدها ذائعة كذلك بين الساسة البريطانيين). فيتبجّحون بما يسمّونه «عظمة فرنسا» مقتنعين بتفوّق بلادهم الحضاري، هذا الذي برّرت به الدولة الفرنسية تسلّطها على مجتمعات شتى من قارات الجنوب العالمي الثلاث بحجة «رسالة حضارية» نسبتها لنفسها. ومن أبرز أركان ذلك التفوّق الحضاري المزعوم ادّعاؤهم أن فرنسا «وطن حقوق الإنسان» وهو ادّعاء ليس خاليا كلّياً من الصحة إذ يُحيل إلى زمن الثورة الفرنسية، ولو تغافل عن أن الإنكليز والأمريكيين سبقوا الفرنسيين في إعلانات حقوق الإنسان.
هذا وتعلم شعوبنا، وعلى وجه خاص الشعب الجزائري، أي مسافة شاسعة تفصل بين الادّعاء الفرنسي وممارسة الاستعمار الفرنسي لأشنع أنواع الاضطهاد والدوس على حقوق الإنسان. وقد استمر هذا الانفصام في الشخصية السياسية الفرنسية إلى يومنا هذا بعد زوال عصر الاستعمار بوقت طويل، والحال أن الحكم الفرنسي لا زال يتصرّف إزاء مستعمراته القديمة وكأنها لم تنل استقلالها قط، وذلك ليس إزاء الدول الفقيرة في أفريقيا جنوبي الصحراء وحسب، بل في كل مكان مثلما رأينا في سلوك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في لبنان في الصيف الماضي.
لذا كان من الطرافة بمكان ومن بالغ النفاق أن يتذرّع الرئيس الفرنسي باحترامه المزعوم لسيادة الدول في تبريره لسكوته عن سحق حقوق الإنسان في مصر عند استقباله يوم الإثنين لنظيره المصري، عبد الفتّاح السيسي، الذي سيسجّل التاريخ أن إنجازه الأكبر كان القضاء على الحقوق الديمقراطية التي انتزعها الشعب المصري بانتفاضته قبل ما يناهز عشر سنوات، بل سحقُ هامش الحريات السياسية التي كانت متاحة في مصر قبل «ثورة 25 يناير» وإقامة نظام قراقوشي يبدو حياله الملك فاروق الذي أسقطه «الضباط الأحرار» حاكماً رصيناً محترماً.
والحقيقة أن الحرارة والحفاوة البالغتين اللتين أبداهما ماكرون إزاء السيسي وكأنهما صديقان حميمان أو حبيبان، إنما تندرجان في سياسة أخذت الدولة الفرنسية تسلكها إزاء مصر منذ الانقلاب العسكري الذي استولى به السيسي على الحكم. فإن فرنسوا هولاند، سلف ماكرون في رئاسة الجمهورية، كان أول زعيم دولة غربية زار مصر إثر انقلاب السيسي: حصل ذلك في عام 2015 بغية المشاركة في تدشين السيسي المسرحي لفرع قناة السويس الجديد، وهو احتفال قاطعته إدارة باراك أوباما الأمريكية التي لم تخف امتعاضها من الانقلاب عند حصوله في عام 2013.
ولم يبالِ قط ماكرون لإتيان زيارة السيسي في وقت تصاعدت صرخات منظمات حقوق الإنسان العالمية واحتجاجاتها على اعتقال النظام المصري لمناضلي «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» قبل أسبوعين، ولو أمر السيسي بالإفراج عنهم قبيل زيارته لباريس لعدم المبالغة في إحراج مستضيفه. أما أساس العشق والغرام بين ماكرون والسيسي، فيكمن أولاً في تجارة الأسلحة، والحال أن زيارة هولاند لمصر كانت قد سبقتها بأشهر قليلة أول صفقة باعت فرنسا لدولة أجنبية بموجبها طائرات «رافال» من صنع شركة داسو التي طالما كانت ركناً رئيسياً في تحديد سياسة فرنسا الخارجية.

وقد اشترت مصر أيضاً فرقاطتين كانت فرنسا قد صنعتهما من أجل تزويدهما لروسيا، لكنها اضطرت إلى إلغاء الصفقة بسبب أزمة أوكرانيا والقرم التي دبّت بين الدول الغربية وروسيا. وبالصفقتين المذكورتين بلغت فرنسا المرتبة الأولى في تصدير الأسلحة لحكم عبد الفتّاح السيسي، وهي بذلك تبيع معدّات عسكرية بمليارات الدولارات لدولة يرزح ما يناهز نصف شعبها تحت خط الفقر في مشهد يزيد من الاشمئزاز الذي يثيره، أن فرنسا تبرّر دورها فيه بمحاربة «الإرهاب» علماً بأنها تدعم بذلك نظاماً إرهابياً قضى على الحريات الديمقراطية باسم مقارعة «الإرهابيين» وهي صفة يطلقها حتى على معارضيه الأكثر سلمية.
أما الأساس الثاني للعشق بين ماكرون والسيسي فهو أكثر جلاءً بعد من تجارة الأسلحة، إذ يتمثّل بالتحالف القائم بين الحكمين الفرنسي والمصري في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تلتقي سياسة باريس في أكثر من مكان مع ما أسميناه «الحلف الثلاثي الرجعي» (مقال 17/11) المكوّن من القاهرة وأبو ظبي وموسكو. ويجمع الحكمين الفرنسي والمصري عداءٌ مشترك متبادل بينهما والحكم التركي، السيسي بسبب دعم أنقرة للإخوان المسلمين وماكرون بسبب التنافس السياسي ـ الاقتصادي القائم بين فرنسا وتركيا في حوض البحر الأبيض المتوسط.
فليس من قبيل الصدفة أن يستضيف ماكرون السيسي في هذا الوقت على مشرفة حلول إدارة جديدة في واشنطن سوف تواصل نهج إدارة أوباما بعد أربع سنوات من إدارة رأسها رجل اشتهر بإضفائه لقب «دكتاتوريّ المفضّل» على السيسي. والحال أن الإدارة الجديدة قد أعربت حتى قبل تسلّمها الرسمي لمقاليد السياسة الأمريكية عن تصميمها على حرص أكبر على احترام حقوق الإنسان، لاسيما إزاء مصر والمملكة السعودية. فبتكريمه للسيسي في هذا الوقت بالذات ينصّب ماكرون نفسه بديلاً عن أمريكا في تصدير الأسلحة للبلدين ومن لفّ لفّهما في المنطقة، معرباً عن استعداد «وطن حقوق الإنسان» إلى الضرب بهذه الحقوق عرض الحائط لقاء بيع بضاعته.
ويشير هذا الأمر إلى احتمال أن تكون العلاقات بين واشنطن وباريس أكثر برودة تحت رئاسة جو بايدن مما كانت تحت رئاسة دونالد ترامب، الذي افتخر ماكرون بتكريمه في باريس قبل أي عاصمة غربية أخرى. ولا عجب في ذلك وماكرون متّهم من قِبَل شعبه بالدوس على حقوق الإنسان والانزلاق بالتدريج نحو حكم سلطوي في فرنسا بالذات.