من ذكريات الطفولة


عذري مازغ
2020 / 12 / 5 - 21:57     

ولدت في قرية أمازيغية، اغلب سكانها يحفظون بعض كلمات الدارجة المغربية ولا يتكلمونها على الإطلاق، كان والدي في البداية يريد أن يرسلني إلى قرب الحضر للتعلم، في البداية أرسلت إلى كتاب لحفظ القرآن، كانت لي ذاكرة قوية وفي خلال أشهر قليلة حفظت الكثير من سور القرآن وكنت اعرف أن أقرا بدون تهجي برغم أن في وقتنا كان التنقيط العربي غيره الآن، كان حرف الفاء بنقطة تحت والقاف بنقطة فوق ولا زلت أتذكر تلك الأنشودة الامازيغية في الف باء الفصجى العربية: الليف أور إنقيظ، البا إشث سكذوكسال (الألف غير منقط والباء نقطة من التحت).
كانت زياراتي للقرية أيام العطل هي بمثابة امتحان عسير في القرية، فأهل القرية يريدون أن يعرفوا ماذا تعلمت في العربية وكانت اكثر الأسئلة المجرجة لي هي يشيرون إلى أي شيء نستعمله في المنزل ويقولون لك ما اسمه بالعربية، كانوا لا يعرفون أن لغة القرآن التي أدرسها (وعلى كل حال لم نكن ندرس المعاني بل فقط كنا نقوم بالحفظ فقط) ليست هي نفسها اللغة التي يتكلم بها مستعربي المغرب وأن المدلولات المنزلية أو لغة اليومي ليست هي لغة القرآن، أذكر أنه من الظرائف المحرجة لي هي حين يسألوني هل أعرف العربية، أقول لهم : نعم
ــ ماذا تعرف فيها
ــ الطاجين والفوطة او الدواز والفوطة
كان أكل المدن يتركز على أكلة الطاجين او "الدواز" وتعني ما به يهذب أكل الخبز من مرق ولحم وكان قبل بدإ الأكل غسل اليدين وتجفيفها (الفوطة) كانت مبدأ الاكل عند عمي بالمدينة.
وهذا يعني أن اول شيء تعلمته في المدينة له علاقة بإشباع البطن وأذكر أن أحد اهالي القرية سألني عماذا تسمى "إينيان" (هي الكانون الذي يوضع على النار لاجل الطبخ) بالعربية ولم أجد جوابا لأن أهل المدينة حينها كانوا يستعملون الغاز في الطبخ، وكان الامر محرجا عندما أخبرني بأني لا أفقه شيئا في العربية ولما كلمته بالدارجة المغربية العربية وقف مازحا ومستسلما ليقول لي: "نحن نعرف فقط بعض الكلمات".
لم أكن اعرف كيف ادافع عن نفسي، كيف أخبره بأن ما تعلمته من العربية هو فقط ما يستعمله اطفال المدينة في حمام بيئتهم اللغوية في اللعب، وان لغة المسيد او الكتاب لا يعرف شرحها حتى ذلك الفقيه الذي يعلمنا إياها من ذاكرته الحفظية .
كان والدي عندما أمتطي معه البغل عودة إلى المدينة يسألني عما أريد أن اكونه مستقبلا بعد دراستي، أخبره: "بوعاري" يعني حارس الغابة، وكان الأمر لا يعجبه، يقول لي بأن حارس الغابة ليست له سلطة كبيرة وأنا كنت أريد أن أكون بوعاري لأن والدي حينها كان حطابا وكل مشاكله مع "بوعاري"، كان سقف الطموح عندنا هو كل هذا الذي في بيئتنا : "بوعاري" ثم الشخصية أو الوظيفة الأخرى التي لها تأثير على سكان أهل القرية "الجادارمي" أو الدركي .
كان تعلم العربية عند اهل قريتي حافز اندماج وسط المدينة وكان التمكن منها هو تمكن من حل إحدى المشكلات في الفهم، كانت المدينة بيئة معقدة عندهم بسبب جهلهم اللغة وكان أحدهم حين يتكلم عن زيارة له للمدينة يتكلم عنها وكأنه في مغارمرة كبيرة خلقت منه بطلا خرج من متاهاتها ببطولة رائعة، كانت المدينة في وعيي الطفولي، بسب حكايات اهل القرية، هي مجموعة من اللصوص والخادعين والماكرين والشاطرين، كانت هذه الكلمة الأخيرة هي لب أهل قريتي في تعلم لغة المدينة واكثر من ذلك كان الشاطر الامازيغي ف قريتني مثل فلان وكذا...، هو من يتقن اللغة العربية إلى جانب الفرنسية والإنجليزية، مثلا كان عم والدتي حسن هو نموذج الامازيغي الشاطر، درس برغم يتمه، درس في جامعات المغرب وفرنسا وأمريكا بفضل درجات تحصيله العلمي، لكن في الحقيقة لم يكن شاطرا بالمعنى السالب هذا (أو بالمعنى السياسي الماكر في المغرب)، كان إنسانا نزيها إلى حد ما، وبفضل نزاهته لم يكن وزيرا ولا قائد حزبي ولا أي شيء مما ترفعه السياسة في المغرب إلى احسن الماكرين،وحتى في عمله عاش تيقنوقراطيا برغم محاولاته الجادة، في مناسبات عديدة، الترشح في الإنتخابات البرلمانية، وأذكر انه ذات يوم، ترشح في دائرة قبيلته، قبيلة والدتي، جاء ليشرف على عملية التصويت، مر بي في منزلي الذي أقطنه، كان هو منزل خالتي الإنجليزية في الحقيقة، اخبرني أنه وعائلته في الطريق إلى "الصابرا" ليراقب عمليا عملية التصويت ويريد رأيي في الأمر، قلت له: هل تريد ان نتكلم سياسيا أم أن نتكلم بعاطفة الدم
قال: يجب أن نتكلم سياسيا.
ــ لو شاورتني من البداية في الامر لما تركتك تتورط في هذا الأمر، موقفي ربما تعرفه، انا يساري ولا أومن عمليا بأية عملية انتخابية في غيا ب منح سلطة حقيقية للمنتخبين، أحسن ما ستقدمه لنا إذا نجحت في الإنتخابات هو تلك المقولة المعروفة: هناك إكراهات وطنية ودولية حالت..!، أنت إنسان نزيه جدا ولن يرضيك ان تقدم أعذار عوض إنزال برامج وعدت بها او وعد حزبك بها، ثم، وانا من داخل المجتمع الذي ترشحت فيه، أشك في فوزك، والسبب ببساطة هو ان مجموعة من الناس تقدموا إليك لتوظيف أبنائهم لما لك من مكانة، لكن نزاهتك التي أحترمها جدا حالت دون تحقيق طلبهم.
في المساء، في عودته إلى الرباط، توقف مرة أخرى عند منزلي، اخبرني أني على حق وانه خسر التصويت بفارق قليل هي اصوات اخته وعائلتها
قلت له : لا بأس هون من امرك، لم تخسر شيئا وهذا يدل اني لم اوفق في تخميني، انت خسرت فقط بسبب حسابات عائلية
قال : العكس قد وفقت، لقد صدق تخمينك
خسر بسبب أن أخته هذه لها أبناء تريد ان تدخلهم للجيش وخالي هذا ليس رئيس أركان ولا هو مر بالتجنيد أصلا.. لا يستطيع أن يدخلهم إلى الجيش ونزاهته تمنعه أن يتوسط.
هذ هو بشكل ما الواقع المغربي، كان أغلب جيلي درس للحصول على وظيفة، كانت الدراسة تعني الحصول على منصب، كان المنصب الأعلى في طفولتي هو ان اكون "بوعاري" أو دركيا ، كانت اللغة عند أهل قريتي مسألة مهمة جدا وكانت دراستها أمرا مهما أكثر، ألم يقل العرب يوما: " إذا تعلمت لغة قوم أمنت شرهم"، كان هذا هو القصد عند اهل قريتي حين كانوا يمتحنوني في فهمي للغة العربية، كان الذي يخطب بفصحى تامة عبقريا برغم أن خطابه، لو ترجمته إلى الامازيغية هو عبارة عن ثرثرة وكان الذي يخطب بدون ورقة أعظم أي ذلك الممسوخ كليا كالحسن الثاني والقذافي وبومدين فبرغم اختلاف إيديولوجيتهم كانو في نفس الخندق أمام مواطنيهم .