قراءة هادئة للانتخابات الأردنية 2020


فهمي الكتوت
2020 / 12 / 5 - 02:48     

من غير المنصف الحديث عن انتخابات مجلس النواب التاسع عشر لعام 2020 بمعزل عن المقدمات الموضوعية لما يعرف بعودة الحياة السياسية في البلاد؛ فقد شكّلت انتفاضة نيسان المجيدة منعطفا تاريخيا فتحت آفاقا واسعة لإجراء مراجعة شاملة لمختلف السياسات التي كانت سائدة. جاءت تلك الانتفاضة تعبيرا صادقا عن إرادة الشعب الأردني برفض الخنوع للسياسات الرسمية التي أوصلت البلاد إلى الأزمة المالية والاقتصادية، واتساع دائرة الفقر والبطالة، لم يكن انفجار الغضب الشعبي في السابع عشر من نيسان 1989 حدثا معزولا عن مقدماته الموضوعية، وهو نتيجة سياسات القهر والمعاناة التي عاشها الشعب الأردني منذ الانقلاب على الحكومة الشرعية البرلمانية في نيسان سنة 1957، وطوال عقود من الأحكام العرفية والخضوع لشروط التبعية المرتبطة ارتباطاً بنيوياً بالإمبريالية، وحرمان الشعب من اختيار ممثليه الحقيقيين تحت قبة البرلمان.
ليس هذا وحسب، فقد كان للأزمة المالية والاقتصادية أثمان سياسة واقتصادية واجتماعية دفعها الشعب الأردني؛ من خفض القيمة الفعلية للدينار وما يعنيه ذلك من انهيار نصف رواتب المواطنين، وبدلا من تعويض العمال وصغار الموظفين والفقراء والمسحوقين والمهمَّشين في الأرياف والمخيمات والبوادي، عُوقبوا وحُمِّلوا أعباء الأزمة، وألقي بالنشطاء منهم في غياهب السجون، اما الذين أوصلوا البلاد إلى حالة الإفلاس تمتعوا بأموال الشعب، وتدخلت الدولة العميقة لحمايتهم من الحساب والعقاب .
وخضعت البلاد لـ"برنامج التصحيح " الذي اوصل الاقتصاد الأردني الى حافة الهاوية، وشهدت البلاد إجراءات تقشفية قاسية بإعادة هيكلة السياسات الضريبية بتخفيض الضرائب المباشرة على كبار الرأسماليين، وفرض الضرائب غير المباشرة التي استهدفت ذوي الدخل المحدود، إضافة إلى وقف دعم السلع الضرورية وتحرير الأسعار، وخصخصة مؤسسات الدولة وتفشي مظاهر الفساد السياسي والمالي والإداري، وتوفير الامتيازات والبذخ والترف في الإنفاق للشرائح الطفيلية.
في ضوء ما تقدم اتجه الحكم نحو المصالحة، بعد فشله بالحصول على مساعدات اسثنائية من دول خليجية واجنبية لانقاذ الاقتصاد الاردني من الانهيار، بالدعوة لاجراء انتخابات سمح لاحزاب المعارضة المشاركة فيها بما في ذلك نواب البرلمان الخامس الذين اعتقلوا بعد شهور من الانتخابات النيابية التي جرت في تشرين اول 1956 بعد حل المجلس، وذلك لتحميل الجميع مسؤولية المشاركة في مواجهة الازمة، بعد وصول 22 نائبا من الحركة الإسلامية و16 نائبا من التيار القومي واليساري، إضافة إلى شخصيات وطنية عامة من أصل 80 نائبا.
تعرضت الحركة الوطنية الأردنية لانقلاب ناعم عام 1993 لم تكن اثاره السياسية اقل خطورة من اثار انقلاب نيسان 1957 على دور الحركة الوطنية في الحياة السياسية، مع الفارق "حملات الاعتقال والتنكيل والاساليب والوحشية التي اتبعت في 1957" وذلك بحل البرلمان الحادي عشر وأصدارقانون "الصوت الواحد المجزوء" بتوجيهات من السفير الاميركي في عمان، للتخلص من استحقاقات انتفاضة نيسان، وتشكيل برلمان جديد مؤهل لتنفيذ استحقاقات المرحلة الجديدة، واهمها الممصادقة على اتفاقية وادي عربة مع العدوالصهيوني والدخول في المرحلة الجديدة من اتفاقيات الاذعان مع صندوق النقد الدولي والمتعلقة بسياسة التخاصية، ولم تعد السلطة معنية بنتائج المعادلة السياسية التي افرزتها انتفاضة نيسان وتم الارتداد عن التوجهات الديموقراطية.
ظهر برلمان 89 امام الرأي العام بانه استخدم لتمرير الاتفاقيات مع صندوق النقد والبنك الدوليين، رغم معارضة الحركة الوطنية الاردنية لهذه الاتفاقيات، في حين سجل سلسلة من الاجراءات الايجابية على صعيد الحريات العامة؛ من الغاء الاحكام العرفية والغاء قانون مكافحة الشيوعية وعودة الحياة العلنية للاحزاب السياسية، واعادة معظم المفصولين عن العمل وحرية السفر والتنقل للمواطنين وحرية الصحافة الحزبية وغيرها، الا ان هذه الاجراءات لم يلمسها المواطن غير المسيس، ولم تعيد له ما فقده بسبب انهيار سعر صرف الدينار او انتهاج سياسة ضريبية غير عادلة، كما واصلت الدولة العميقة سياستها المعادية للعمل الحزبي مما ترك آثارا سيئة على الثقافة السائدة في المجتمع باعتبار العمل الحزبي عملاً خارج القانون مما ساعد على عزوف المواطنين عن المساهمة في الحياة الحزبية.
وهنا يمكن الوصول الى الاستخلاص التالي، ان الحكم لم يوافق على نتائج انتخابات 1989 وان قبل بها كمرحلة انتقالية لتهدئة الشارع وتمرير اتفاقيته مع صندوق النقد الدولي، ولتوكيد على ذلك ان رئيس الوزراء الاسبق مضر بدران طلب من السعودية دفع 5 مليارات دولار لشراء الديون الخارجية، مقابل حل البرلمان الحادي عشر، ومع ذلك حلت الدولة العميقة البرلمان الحادي عشر واستبدلته بمخرجات قانون الصوت الواحد المجزوء في عام 1993 الذي صادق على اتفاقية مذلة مع العدو الصهيوني مقابل شطب 700 مليون دولار من الدين الخارجي للولايات المتحدة و72 مليون دولار لبريطانيا.
وبعد مرور أكثر من ربع قرن على صدور قانون الصوت الواحد المجزوء، الذي أعاد إنتاج نفسه بصيغ وأشكال متعددة منها: الدوائر الوهمية التي جاءت لتسهيل مهمة الأجهزة الأمنية في إسقاط مرشح معارض أو غير مرغوب فيه. ومنها القائمة الوطنية التي صُمِّمت لعدم إتاحة الفرصة أمام أكثر من مرشح للفوز ضمن الكتلة الواحدة. وكذلك القائمة النسبية المفتوحة على مستوى دوائر المحافظات دون عتبة حسم. صُمّمت جميعها لحرمان الحركة السياسية من الوصول إلى مجالس النواب، اضافة الى الاعترافات الرسمية لمسؤولين كبار عن تزوير الانتخابات وتعيين النواب مقابل صفقات سياسية ومالية، ولم تقتصر هذه الإجراءات على إضعاف التيارات والأحزاب السياسية المعارضة وحسب، بل إنها شملت أحزاب الوسط والموالاة، وذلك للحيلولة دون تطور الحياة الحزبية وبناء مؤسسات الدولة. ما يؤكد ان انتخابات البرلمان الحادي عشر جاءت لادارة الازمة التي انفجرت في 1989 وليس لمواجهتها. وجاءت الانتخابات النيابية الاخيرة كحصيلة للتجارب المريرة خلال العقود الثلاثة الاخيرة سمتها الاساسية تزوير ارادة الشعب سواء بالتدخل المباشر او نتيجة انتشار ظاهرة المال الاسود، عشرات النواب متورطون بشراء الأصوات، رجال اعمال ليس لديهم فرص للنجاح سوى شراء الأصوات. اصرار رسمي على اجراء الانتخابات في ظل قانون الدفاع ومصادرة الحريات العامة وفتح أبواب السجون للمطالبين بحقوقهم، ومعاقبة المعلمين وتجميد نقابتهم واعتقال هيئاتها القيادية لمجرد مطالبتها الالتزام في الاتفاقيات الموقعة، وفي ظروف صحية غير مناسبة بازدياد اعداد المصابين بمرض كوفيد 19.
في الحصيلة النهائية وبعد مرور ثلاثة عقود على انتفاضة نيسان وعلى انتخاب المجلس الحادي عشر لم يتمكن الشعب الأردني بعد من بناء دولته الديموقراطية، وتحقيق التداول السلمي للسلطة، ولم تتوفر الفرصة بعد لمعالجة الأوضاع الاقتصادية التي كانت سببا رئيسيًّا لانفجار الأزمة في نيسان 1989، وما زالت الجماهير الشعبية تعاني من الفقر والبطالة، وما زال الاقتصاد الأردني يعاني من تشوهات هيكلية في بنيته، ومن تفاقم المديونية التي أصبحت تُقدر بنحو خمسة أضعاف ما كانت عليه عشية انفجار الأزمة.
اما السؤال المطروح ماذا وراء تدمير وتشويه الحياة السياسية البرلمانية، الجواب التفرد بالسلطة وحرمان الشعب الاردني من التعبير عن مصالحه، والمصادقة على السياسات المالية والاقتصادية واهمها قانون الموازنة العامة، وابقاء الدولة رهينة لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، وحماية الفاسدين من العقاب، وإضعاف مناعة الدولة أمام المخططات التي تعيد رسم خريطة المنطقة، والاستعداد للتعامل مع المشروع الامبريالي- الصهيوني خاصة بعد المشاركة في ورشة البحرين التي خصصت للكشف عن الشق الاقتصادي وما تضمنه من استثمارات في البنية التحتية في الاردن من سكة حديد اردنية اقليمية مع العدو الصهيوني وقناة البحرين وخطط الربط مع الضفة الغربية المتعلقة بتصفية القضية الفلسطينية.
دور الاحزاب السياسية
مع الاخذ بعين الاعتبار المضايقات التي تعرضت لها الاحزاب السياسية من الدولة العميقة، بما في ذلك الحركة الاسلامية التي تشكل اكبر تيار سياسي في البلاد لإضعاف دورها، ومع مرور ثلاثة عقود على الانفراج السياسي، وترخيص عشرات الأحزاب، وإصدار صحافة حزبية، إلا أن الأحزاب التي تتمتع بخبرات وتجارب نضالية طويلة لم تتمكن من التكيف مع المستجدات المحلية، مما ادى الى تآكل رصيدها بتأثير المتغيرات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي وجه ضربة موجعة للأحزاب القومية واليسارية التي كانت تَعُدُّ التجربة السوفييتية حصيلة المرجعية الفكرية والسياسية المشتركة، لا في الأردن وحسب، بل وفي معظم الدول النامية التي اختارت طريق الاستقلال والسيادة وبناء اقتصاد وطني غير مندمج بالنظام الرأسمالي العالمي، لكن الاتحاد السوفييتي أصبح الآن في ذمة التاريخ، ويجب الانطلاق ضمن تصورات جديدة ورؤية سياسية موضوعية. لذلك ينبغي التركيز على إعادة قراءة للواقع المحلي، والخروج بخلاصات محددة، مع تعميق الحوار الوطني لاستثمار الطاقات الكامنة في البلاد باجراء مراجعة لدور ومكانة الحركة الشعبية الأردنية وتعظيم دورها، ومن المفيد التوقف عند بعض المحطات:
1- شهدت البلاد منذ بداية عام 2011 حراكا شعبيا في معظم المحافظات ضد سياسات الافقار والتجويع الناجمة عن املاءات صندوق النقد والبنك الدوليين المتمثلة بزيادة الضرائب غير المباشرة، وارتفاع معدلات التضخم، وانهيار الأجور الفعلية، وبيع مؤسسات القطاع العام بصفقات مريبة. وقد غلب على التحرّكات الشعبية الطابع العفوي، وتشكلت بعض قياداتها في ساحات النضال، ومعظمها من أجيال لم تدخل معترك الحياة السياسية قبل اندلاع الحراكات، وعلى الرغم من انخراط بعض الأحزاب السياسية في الحراكات الشعبية، إلا أنّها لم تنجح بسد الفجوة وتأطير العمل المشترك.
2- ان الحركة الشعبية التي أطاحت بحكومة الملقي حملت مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية لم تستهدف تغيير الوجوه بل تغيير النهج والسياسات، ورفض سياسة الارتهان لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظومة الفساد السياسية والإدارية والمالية التي أوصلت البلاد الى ظروف اقتصادية واجتماعية بائسة، حيث شهد يوم 30 أيار 2018 وما بعده أوسع الاحتجاجات الشعبية في البلاد، مع استنفاذ الاساليب والوسائل التي استخدمها النظام خلال العقود الماضية، وعجزه عن مواصلة الحكم بالأساليب السابقة، ورفض الفئات والشرائح الطبقية المتضررة الإذعان لسياسة الافقار والتجويع والفساد والاستبداد، ما ادخل البلاد في ازمة حقيقية ، الا ان ضعف الحركة الوطنية، الناجم عن أسباب متعددة، منها ذاتية ومنها موضوعية، افقدها التأثير على جيل الشباب، وغدت غير قادرة على استيعاب حالات المعاناة الشعبية المتفاقمة، ووقفت عاجزة عن استقطاب التيارات والحراكات الشعبية الساخطة، اما لطبيعة بعض العناصر التي لم يكن لها اهتمام بالعمل العام ولم تتعرف على التجربة الحزبية، او الفئات التي انتقلت من موقع الموالاة الى موقع المعارضة، ليس من منطلقات سياسية او فكرية بل لأسباب اقتصادية ومعيشية تتعلق بالفقر والبطالة وتدهور اوضاعهم المعيشية، والشعور بالحس الطبقي في ظل اتساع ونمو شرائح الطبقات الفقيرة على حساب الطبقة الوسطى واستفحال مظاهر الفساد والاستبداد، وظهور طبقة جديدة من الطفيليين الذين استولوا على مقدرات الوطن، مع عدم اهتمام الأحزاب بدراسة معاناتهم والتعرف على ظروفهم وبناء جسور الثقة معهم، بفتح حوار مع هذه الأوساط الشعبية، ومحاولة استقطابهم، مع ادراكنا بوجود تحريض على الأحزاب السياسية، يلقى اذانا صاغية بين البعض لضعف الوعي السياسي.
ان الاعتراف بهذه الحقيقية، والعمل على مراجعتها يشكل مدخلا ضروريا للوقوف على اسباب حالة الجمود السياسي التي تشهده البلاد الناجم عن ازمة (السلطة والحركة الوطنية)، والتقدم بمبادرات تسهم في التحام الفئات الشعبية مع الحركة الوطنية، فان ضعف الحركة الوطنية الاردنية يفوت الفرصة على الأحزاب في قيادة الجماهير، كما يفوت الفرصة على استثمار حالة الرفض الشعبي للسيات الرسمية، وإمكانية احداث تغيير ملموس.
3- فوتت الحركة الوطنية فرصة تشكيل اطار وطني عريض في مواجهة "صفقة القرن" رغم المحاولات العديدة منها الاجتماع المنعقد في 12/10/2019 لفتح اوسع حوار من اجل بناء اطاروطني يضم القوى السياسية والمؤسسات النقابية واللجان الشعبية والشخصيات الوطنية التي تتوافق على الخطوط العامة تحت شعار: "متحدون لإسقاط صفقة القرن" "متحدون" كإطار وطني أردني واسع في مواجهة المشروع الاستعماري الجديد المسمى "صفقة القرن". ومن اهم اولوياته استعادة قدرة الحركة الشعبية في التأثير على القرار الوطني. والعمل مع فصائل حركة التحرر العربية ومع محور المقاومة لبناء موقف عربي تحرري في مواجهة "صفقة القرن" ومواجهة الاصطفافات وسياسات التطبيع مع العدو الصهيوني.
4- التراجع عن القرارات الصادرة عن الاجتماع الموسع للملتقى الوطني الذي عقد في شباط 2020 بحضور نحو 200 عضو يمثلون الملتقى في المحافظات، والتي تضمنت العمل على بناء ائتلاف وطني عريض لمقاومة مشروع ترامب – نتنياهو "صفقة القرن" ، وتذليل العقبات التي تحول دون تحقيق هذا المشروع الهام.
ان مراجعة المواقف السياسية للتعرف على الاخطاء التي اسهمت في اضعاف دور الحركة الوطنية الاردنية واجب وطني، قد لا تكون هي الاسباب الحاسمة في النتائج المروعة التي كشفت عنها الانتخابات الا انها تستحق التوقف من اجل توحيد القوى المتضررة من النهج السائد في البلاد من احزاب وحراكات شعبية وهيئات وشخصيات وطنية ونقابات عمالية ومهنية وحركات طلابية وشبابية ونسائية لتشكل اطار وطني شعبي عريض تحت شعار واحد التصدي لنهج الافقار والتجويع والتفريط وحماية الاردن وفلسطين من المشروع الصهيوني، وتبني برنامج وطني جديد يرتقي بالحركة الوطنية الشعبية وبادواتها ويستجيب لمتطلبات المرحلة، على قاعدة الشعب مصدر السلطات.