لكن ماذا رأى ؟


بديع الآلوسي
2020 / 12 / 4 - 21:12     

الشاعر المتصوف ( فريد الدين العطار ) وحيدا ً في صومعته ، حياته التي امتلأت بالمجد تقترب من نهايتها ، ما زال يفكر في اشياء كثيرة منها : ماذا يعني ان اكون على قيد الحياة ؟
اضطرب من صوت يخاطبه ان يتهيء .. كان سعيدا ً وهو يرى الغيوم تتلون وترقص وتركض ، قال في تلك الليلة الخريفية ثلاث مرات ( شكرا ً ) ، قلبه أمتلأ بالرضى والتوحد ، ومفعم أكثر بمسرات يجهلها . ها هو يدرك متأخرا ً أن قلبه يحترق ، أراد ان يعتذر من المحبوب ، كم ارتجى في لحظة ضعف ان يكون كباقي خلق الله ، ان يغني كالأطفال .. بعد كل المجاهدات شعر كمن فقد البوصلة ، لم يعد يعرف في لحظة يأس كيف يكون فارسا ً منتصرا ًعلى الاشباح .
تاق إلى الوجد ، اراد ان يتسلل الهيام إلى قلبه ، كصبي يرتعد أمام تجربته الأولى .
بقى العطار يحدق بالنجوم اللواتي يشبهن عيون الله ، كم كان فرحا ً لو انه لم يتساءل : لماذا جئت إلى هذا العالم ؟
وبدأ المطر يسقط على الجبل ، وصارت الريح تعزف لحنها الغريب ، تجليات الطبيعة جعلت من عقله كحصان جامح ، يتبع هوى القلب ، أشتاق الى من ياخذ بيده ويهمس باذنه : لا تأخد الحياة على محمل الجد .
حتى في الحلم كان يتردد عليه تساؤل ملحاح : يا هذا الى اين تريد ان تصل ؟ وحين يصحو لم يجد الذين يحبهم ، ولا حتى صديقه الغريب الأطوار وهو يحدثه عن جميلات الجنة الراقصات حول النار كفراشات .. وبما ان العطار ما زال على قيد الحياة فمن حقه ان يترك ذهنه يسرح بجولة حرة ، أدرك ان لا أمل إلا بحب ٍ يتغاضى العدم ، لكن المأساة ان كل شيء يغرق في البحر حتى الصلوات , مع ذلك حاول تبديد مخاوفه ، اعتمد على عشقه اللامحدود ، ظل يظن إلى آخر لحظة ، انه سيطير بالجسد كنسر خرافي ، حال ان تنبت له جناحان عظيمان .. راجيا ً تأخر المنية حتى تشرق المعجزة ، او الى ان يتيقن من الهتاف الذي يشبة إيماءات حالمة . قال يوما ً لصديقه وهما على حافة البحر : (ما ان اصاب العشق روحي بجبروته حتى اصبحت بحر مضطرب الامواج ) .
الآن ما عاد من أخبار تفرحه ولا من مواجع تحزنه ، دون تفكير وبلا مبالات ، ابتسم واغمص عينيه ، هذا كل ما استطاع فعله ، هكذا خمدت النار ، هكذا رأى ما لم يرَ .