الشيوعية العمالية : هَوَس التفتت و تفتيت الحركة الشيوعية 14-50 ، نقد أطروحات منصور حكمت المعادية للماركسية


حسين علوان حسين
2020 / 12 / 3 - 18:07     

زاي / القانون الماركسي : "إن مؤسسات الدولة و المفاهيم القانونية و الفن و الأفكار الدينية لأي شعب إنما تتأسس على الإنتاج المادي القائم عند ذلك الشعب". / تكملة .
لا يمكن معرفة مجريات إقامة شكل حكم ولاية الفقيه الأيراني دون فهم الدور المركزي الذي يلعبه مبدأ الإجتهاد في المذهب الشيعي . فعلى العكس من الفكر الديني السني – الذي أدى ألف عام من خضوعه التقليدي للسلطة السياسية إلى إغلاق باب الاجتهاد أو الحكم الخاص فيه – يؤمن الفكر الشيعي الاثني عشري بأن الدراسة و التبحُّر في مكونات الشريعة الاسلامية هي عملية مستمرة و لازمة لتحديد جميع "أحكام الله" التي من شأنها ترسيم التعامل بمرضاته مع أي مشكلة أو ظرف معهود أو غير معهود قائم . لذا ، فقد رسم مبدأ الأجتهاد هذا طريق تعامل المؤمن الشيعي مع أمور دنياه و آخرته وفق أحكام الشريعة عبر الإحتكام لمرجع التقليد الذي له مثل سلطة النبي و خلفائه ألإئمة الإثني عشر . هذا الإيمان يُسنَد إلى وصيّة الإمام الثاني عشر باتباع الفقهاء الذين : ".. يحفظون أرواحكم ، ويحفظون دينكم ، ويتبعون وصايا ربكم ..." . و شيئاً فشيئاً ، تضخمت مستلزمات إعداد هؤلاء الفقهاء علمياً لتصبح طبقة صارمة التراتبية تبدأ من الطلبة المستجدين وصولاً إلى رأس الهرم "آية الله" العظمى الواجب الطاعة و الاتباع و الاقتداء كـ "مرجع للتقليد" الشخصي لكل مؤمن بغية ضمان اتباع السلوك الشرعي الصحيح . و لهذا ، فقد مارست مؤسسة رجال الدين الشيعة الإثني عشرية عن طريق وكلائها سلطة مجتمعية أكبر بكثير من شيوخ السنة ممن يكتفون – عموماً - باتباع توجيهات سلطاتهم السياسية الحاكمة التي تعيِّن شيوخهم الأعلى بمشيئتها . كما تتميز سلطة المرجع الديني الشيعي بكونها – مبدئياً - تفويضاً شعبياً مستقلاً بهذه الدرجة أو تلك عن سلطة الدولة و رغائبها ، على العكس من سلطة الشيخ السني الخاضعة كلياً للدولة . فبوسع كل رجل دين شيعي نال الإجازة بالإفتاء من شيخه في الحوزة العلمية (بعد اجتيازه مراحل "المقدمات" و "السطوح" و "بحث الخارج" التي قد تمتد لربع قرن من الزمان) أن ينشر رسالته في الأحكام الشرعية و يعلن من مسجده لطلبته و للناس أعلميته ، و الناس أحرار في قبول تقليده أو اصطفاء غيره . و لقد أتاح الاستقلال التقليدي لعلماء الشيعة عن السيطرة المباشرة للحكومات المرونة الأوسع لمؤسساتهم الدينية في التعامل مع مختلف الأمور الدينية و السياسية و الاقتصادية ، مع السماح أيضًا بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه عبر ديناميكية تعدد المراجع . كما أن هذا الإستقلال أكسب المرجع الديني الأعلى سلطة دينية-أجتماعية روحية سامية لا يمتلكها الملك أو الشاه نفسه لكون حتى الأخير يجب عليه – أصولياً - نيل مباركة مرجعه الديني المقلَّد من طرفه في شؤونه الدينية على الأقل ، في حين أن المرجع الديني الأعلى هو سيِّد نفسه وحده . كما تتعزز هذه السلطة عند المرجع "السيِّد" الذي يعود نسبه لعلي بن أبي طالب من زوجته فاطمة الزهراء بنت الرسول حصراً . و لما كانت السلطة الروحية تبقى عرجاء بدون سلطة رأس المال ؛ فقد أتاح أداء فريضتي الزكاة و الخمس الواجبتين على كل شيعي مصدراً هائلاً و متجدداً للدخل للصرف على إدامة المؤسسة الدينية علاوة على مد الجسور مع عامة الشعب و خاصته على حد سواء من خلال إقامة مؤسسات الرعاية الإجتماعية و الصحية علاوة على المؤسسات الحوزوية التعليمية . زد على ذلك حصتها الثابتة في أملاك الوقف الضخمة مثلما سأبيِّن . كل هذه هي موارد مالية مستقلة عن مؤسسات الدولة و لا تخضع لقوانينها و لا لضرائبها و هي أبعد ما تكون عن الإفصاح و الإستكشاف : هي صندوق أسود ؛ و هو ما يعزز سلطة الولي الفقيه و رجاله و مقلديه ليس داخل الدولة الواحدة ، بل و خارجها أيضاً من خلال مقلديه في كل بلد .
هذه الخصيصة للمرجعية الدينية الشيعية فرضت دوماً على رأس سلطة الدولة – سواء كان ملكاً أو شاهاً أو رئيس وزراء أو رئيساً – وجوب مد الجسور معها لكي يلتزم كل طرف منهما بعدم عبور الخطوط الحمراء للطرف الثاني ؛ و للإقرار المتبادل بامتيازات و ولاية كل طرف . لذا ، نجد أن شكل الحكم في أيران منذ عهد اسماعيل الصفوي عام 1502 و حتى سقوط حكم الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979 قد اتخذ شكل التوافق بهذا الحد أو ذاك بين "شاه-و-شيخ" . و طوال هذه الفترة ، طوّرت المؤسسة الدينية أوسع شبكة اجتماعية في إيران يمتد نفوذها من أبعد القرى إلى المدن الكبرى كافة . اقتصادياً ، تبلور تبادل المصالح هذا في إيران إلى ظهور و تنامي طبقة أرستقراطية فريدة من رجال الدين المتحالفين مع مجتمع التجار في البازارات و النقابات التجارية و الحرفية (الأصناف) و أعضاء المنظمات شبه الدينية . و بسبب انعدام الأمن النسبي لملكية العقارات في إيران عبر العصور ، فقد قام العديد من ملاك الأراضي الخاصين بتأمين أراضيهم ضد المصادرة من قبل المفوضين الملكيين أو الحكام المحليين من خلال التبرع بها لرجال الدين فيما يسمى بأراضي الوقف و ذلك بقطع نسبة مئوية من عائدات تلك الأراضي تذهب إلى رجال الدين وفق قاعدة : "وصية الواقف هي بمنزلة شريعة الشارع" . و بعد موت المالكين الأصليين ، فقد اكتسب أعضاء الطبقة الدينية - سيَّما المجتهدين منهم و السادة - الملكية الكاملة على هذه الأراضي – بضمنها أملاك مدينة مشهد برمّتها - لتشهد إيران ظهور شريحة متمددة و متجذرة من ملاك الأراضي الثيوقراطيين ممن لا نظير لهم في بقية بلدان الشرق . و ما أن يتزاوج الدين برأس المال المحلي حتى يفرخ رباطه المصلحي هذا الحدود و القيود على حرية النفوذ و التصرف السياسي للسلطة و للأحزاب السياسية كافة . فبحكم طبيعته كأيديولوجيا فاعلة داخل الصراع الطبقي المجتمعي ، يتنقل دور الدين بين تدعيم استمرار الأوضاع القائمة كأيديولوجيا رجعية و بين تغيير تلك الأوضاع ليتحول في أحوال بعينها إلى قوة ثورية مثلما سيتضح أدناه ، تبعاً لمتغيرات طبيعة مصالح الحيوية للطبقة الممتطية له و قوتها الاقتصاجتماسية .
و على مدى عدة عقود ، أثبتت المؤسسة الدينية الشيعية في إيران فعاليتها القوية في تعبئة الجماهير الإيرانية بفضل مقدرة كبار رجال الدين الشيعة - و وكلائهم المبثوثين على طول البلاد و عرضها - على حشد الجماهير الإيرانية بغية تحقيق أهداف سياسية و اجتماعية بشكل أقوى بكثير من أي سلطة اجتماعية و سياسية أخرى . فعندما تقتضي خدمة المصالح العليا ذلك ، بوسع المرجع الديني الأعلى التحشيد للأنصار من محافظة واحدة فقط خلال 24 ساعة بما يفوق ما استطاع منصور حكمت و ربعه تحشيده من الأنصار طوال 24 سنة متواصلة ، لكون كلمة المرجع الديني الأعلى مطاعة ، و فتاويه حاكمة لأتباعه و مؤيديه كافة ، و هي شديدة اللصوق بالواقع المعاش و ليست معلقة في الفراغ كأفكار البرجوازي منصور حكمت . مثلا : في العشرين من آذار سنة 1890 ، وقّع شاه أيران ناصر الدين القاجاري اتفاقاً لحصر تجارة التبغ و التنباك الإيراني لمدة 50 سنة بشركة إنجليزية ؛ مما استوجب سحب حق بيع و شراء التبغ و التنباك و المنتجات المرتبطة بهما من أيدي الإيرانيين الذين كان نحو 20% منهم يعمل في قطاع التبغ . عارض هذا الاتفاق الوطنيون و تجار البازار و عموم المدخنين و العاملين في صناعة الدخان لمكسه الثقيل ، و آزرهم علماء الدين لاعتبارهم إياه تهديداً لاستقلال بلادهم ، فطالبوا الشاه مراراً و تكراراً بإلغاء الامتياز الممنوح لتلك الشركة الإنجليزية ، و لكن دون جدویً . عندها أصدر آية الله محمد حسن الشيرازي فتوی تحريم التبغ و التنباك ، و التي التزم المسلمون في إيران كافة بها ، فكسروا النارجيلات و كل أداة تستعمل للتدخين ، كما أغلقت‌ جميع‌ محلات‌ بيع‌ التبغ‌ و التنباك أبوابها ، و ثارت ثائرة الشعب . عندها اضطر الشاه‌ للتراجع مرغماً و ألغى الامتياز الممنوح للشركة الإنجليزية مقابل‌ دفع غرامة‌ قدرها 500 ألف‌ ليرة لها . كل هذا التأثير الديني الحاسم و نسمع البرجوازي الصليبي منصور حكمت يكذب علينا بالإفتراء : "إيران ليست بمجتمع إسلامي" . إن من يسمح له ضميره بنشر مثل هذه الأكاذيب المفضوحة إنما هو أعدى أعداء الطبقة العاملة في بلده لكون المصلحة الصميمية للبروليتاريا تكمن بالضبط بكشف الحقائق الاجتماعية القائمة لها لكي تمضي في طرق النضال الصحيح لتحرير العمل المأجور أولاً و آخراَ ، و ليس خداعها بالدعوة لمحاربة الدين مباشرة قطعاً مثلما يفتري عليها هذا البرجوازي باستيراده للشعارات المتعفنة للثورة الفرنسية من خارج التاريخ في خطاب قافل منزوع الشرط الاجتماعي و الاقتصادي .
ماهي الدروس لهذه الوقائع التاريخية التي تبدو على السطح كما لو كان محركها هو مجرد فتوى قوامها جملة تحريم واحدة مكتوبة بخط اليد على قصاصة ورقية مختومة بإسم المرجع الديني الأعلى و التي ينتهى المطاف بتأثيراتها و التطورات اللاحقة عليها إلى تركيع الشاه خوفاً من عقابيل ثورة الجماهير ضده ؟ الماركسي الحقيقي – عكس البرجوازي الصليبي منصور حكمت – لا بد له أن يفتش هنا عن تصارع المصالح الطبقية الاقتصادية وراء تطورات هذه الأحداث : مصالح البرجوازية الوطنية ضد مصالح الامبريالية البريطانية . كانت الرسالة الطبقية للرأسمالية المحلية الإيرانية تفرض على السلطة السياسية فيه إتباع المعادلة الآتية : المطلوب من الشاه الإيراني للبقاء على عرشه أن يسهر دوماً على خدمة مصالح الرأسمالية الوطنية للبلد الذي يحكمه بالضد تماماً من مصالح رأس المال العالمي ؛ و إلا فسيواجه ثورة كل شرائح البرجوازية الوطنية المدعومة دينياً لتتولى خلعه و ترحيله كي تنصب البرجوازية الوطنية بديلاً "مناسباً" غيره "مضمون الوفاء" لمصالحها . هذا السيناريو لتجليات صراع الرأسمال المحلي ضد رأس المال الأجنبي تكررت تنويعاته و شعاراته الثورية في إيران خلال الحركة الدستورية التي تمخضت عن نجاح الإيرانيين في الحصول علی الدستور في 5 آب سنة 1906 ؛ و في ثورة الدكتور محمد مصدق رئيس الوزراء في إيران بتأميمه شركة النفط الإنجليزية الإيرانية عام 1951 و هروب الشاه لإيطاليا و من ثم الانقلاب المدبر أمريكياً ضدها عام 1953 و عودة الشاه للحكم ؛ و في الثورة الإيرانية عام 1979 التي طردت الشاه و ارستقراطيته و عسكره نهائياً لتؤسس الحكم الجمهوري فيه . و من المعلوم أن الدولة ليست سوى أداة قمع طبقة لطبقة أخرى – سواء كانت ملكية أم جمهورية .
السؤال المهم الآن هو : لماذا استطاعت طبقة البرجوازية المحلية الإيرانية أن تفرض على السلطة السياسية فيه طوال الأعوام 1890-1979 معادلة : يجب على السلطة أن تسهر دوماً على خدمة مصالح رأس المال المحلي بتغليبها على مصالح رأس المال العالمي ؛ و إلا فستواجه هذه السلطة الثورة الجماهيرية الكاسحة ، في حين لم تستطع - مثلاً - البرجوازية التركية فرض ما يشابهها خلال نفس الفترة ، و كل الشعبين إسلاميين ؟ السبب يكمن في حضور العنصر الأجتماعي المتغير في إيران و الصانع لكل الفرق ، و هذا المتغير هو أسِّي التركيب : وجود الطبقة البرجوازية الدينية في إيران و عدم وجود مثلها في تركيا أولا ؛ و ثانيا : وجود الإيمان بمرجع التقليد المهاب اجتماعياً و الذي يأمر و ينهى مطاعاً و عدم وجوده في تركيا . هذه القوة الآيديولوجية الدينية الحليفة رفعت القوة الاجتماعية للبرجوازية الإيرانية أسّاً إلى الأعلى على نحو مثالي قل نظيره في التاريخ المعاصر فسمحت لها بفرض معادلتها الطبقية المصيرية سياسياً حيثما تهددت مصالحها الإقتصادية الأساسية . و لهذا باركت البرجوازية الإيرانية شكل حكم ولاية الفقيه كصمام الأمان لمصالحها ، فتبنته لإعتبارها أنه منها ، و هي منه ؛ و لهذا أصبح المجتمع الأيراني هو أحد أكثر مجتمعات العالم أصولية إسلامية – تماماً على العكس بالضبط من إفتراءات البرجوازي الصليبي منصور حكمت . و هذه هي إحدى أشكال اشتغال ديالكتيك الاثر و التأثير المتبادل و المتلازم بين البناء الفوقي و البناء التحتي الاجتماعي . و لما كان دوام زواج السياسة بالدين لا بد له أن يحوّل الدين إلى مطيّة للسياسة حتماً في المطاف الأخير ؛ لذا ، فقد انتهى الآن في إيران دكتاتورية ولاية الفقيه عهد الاستقلال الحيوي الناجز للمرجعية الدينية الشيعية عن السلطة السياسية و انتهى معه عهد دينامية تعدديتها ، فخسر شيعة إيران ابواب الإجتهاد الواسعة التي تطلهم على العالم و على أنفسهم و واقعهم ، و انتهى معه ألق الاستنباط الحوزوي المجتهد ؛ و قد قيل : السياسة هي المفسدة الدائمة للدين الحقيقي .
و مثلما أن السياسة مفسدة للدين ، فإن رأس المال يسمح للسمك الكبير بأكل السمك الصغير ، و للسمك الفتي بأكل السمك الشائخ و المتفسخ ؛ حيث استطاعت طبقة الحرس الثوري الجديدة و المتمددة اقتصادياً بتصنيعها العسكري المعتمد على الواردات الضخمة للنفط - مع الضغط الرهيب لرأسمال العولمة و للعقوبات الأمريكية - لجم قوة و تطلعات البرجوازية التجارية- العقارية – الصناعية الإيرانية ، فتراجعت منكفئة على ذاتها بعد أن خسرت آيدلوجيتها الحليفة (التي تحوّلت الآن سلاحاً فتاكاً ضدها عند اللزوم بيد موسسة الحرس الثوري الإيراني المتزاوجة مع البرجوازية الدينية) علاوة على خسرانها لموقعها الاقتصاجتماسي الرائد . كل الأيديولوجيات تولدها الطبقات الأقتصادية الحاكمة لكي تمطيها بنفسها و لنفسها ، و كلها متاح لكل الطبقات الإجتماعية في طوريها الثوري و الرجعي ، وحدها الماركسية الحقيقية و غير المزيفة تبقى ثورية الى الأبد كسلاح دائمي فعّال للثوريين الحقيقيين . و لكونها منهاج عمل ثوري و فلسفة نفي هيمنة راس المال ، فإنها تبقى عدوة لكل البرجوازيين المتمركسين مثل منصور حكمت و أيتامه .
يتبع ، لطفا ً.