لينين في مواجهة هيغل [مقتطف]


هشام عقيل
2022 / 6 / 15 - 22:31     

لوي آلتوسير

ترجمة: هشام عقيل

اليوم، في إبريل 1969، بينما نعيش في ظل انشقاق فعلي في الحركة الشيوعية العالمية، وبينما يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره التاسع، وتجرى الاستعدادات للمؤتمر العالمي للأحزاب الشيوعية في موسكو، لا يمكننا أن نعتبر التفكير حول لينين وهو يقرأ (منطق) هيغل في 1914 و1915 كشيء لا صلة له بالوضع الحالي. إنها ليست المدرسية بل الفلسفة، وبما أن الفلسفة هي السياسة في النظرية، فإنها بالتالي سياسة. وضعنا الحالي متقدم بكثير على الوضع الذي كان فيه لينين، حيث أننا لا نعيش حرباً عالمية، ويمكننا أن نرى بوضوح مستقبل الحركة الشيوعية العالمية، رغم انقسامها الحالي، ولعلّ هذا الوضوح هو بسبب هذا الانقسام، رغم معلوماتنا الضئيلة حوله؛ حيث يمكن للمرء التفكير دائماً.

يمكن فهم تناقض سلوك لينين إزاء هيغل عبر المقارنة ما بين حقيقتين:

1. الحقيقة الأولى

كرّس لينين في العام 1894، في كراس (من هم ”أصدقاء الشعب“)، إثني عشر صفحة لكتابة الفرق ما بين ديالكتيك ماركس المادي وديالكتيك هيغل! رغم أنه – لينين- بشكل واضح لم يقرأ هيغل آنذاك، بل قرأ فقط ما كتبه ماركس حول هيغل في خاتمة الطبعة الألمانية الثانية لكتاب (رأس المال)، وما قاله انغلز حول هيغل في كتابي (ضد-دورنغ) و(فويرباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية).

تلك الإثنا عشر صفحة هي عبارة عن إعلان صارم ضد-الهيغلية. الاستنتاج النهائي لهذه الصفحات (استنتاج كتب كملحوظة) هو، وسأقتبس لينين نفسه: “إنه من السخف ربط الماركسية بالديالكتيك الهيغلي” ( Lenin, Collected Works, Vol.1, p.174n.). يقتبس لينين إعلان ماركس القائل إن منهجه هو: (“العكس المباشر” لمنهج هيغل) (p.167). أما بالنسبة إلى صيغ ماركس الهيغلية، التي تظهر في كتاب (رأس المال)، وبالأخص في الجزء الأول من المجلد الأول، التي قال عنها ماركس إنها نتاج لما قام به من: “تغزل (kokettieren) بأنماط التعبير الخاصة بهيغل”، فإن لينين يصفي الحساب معها عبر مبرر أنها: “اسلوب ماركس في التعبير”، وترتبط بـ: “أصل المذهب نفسه”، مضيفاً بداهة يقول فيها: “جب علينا أن لا نلوم النظرية على حساب أصولها” (p.164). يواصل لينين قائلاً إن الصياغات الهيغلية للديالكتيك، الـ ”النموذج الديالكتيكي الفارغ“ للثلاثية، هي “غطاء” ما أو “جلد” ما، ولا يمكن أن يزيل المرء هذا الغطاء أو الجلد من دون تغيير أي شيء في الوعاء المكشوف أو الثمرة مقشرة، ولكن بالفعل أنها يجب أن تكشف أو تقشر من أجل كشف ما تخبئه في الداخل.

لأُذكر القارئ أن في العام 1894 لم يقرأ لينين هيغل، ولكنه قرأ كتاب (رأس المال) لماركس بعناية، وفهمه أكثر من غيره – كان في الرابعة والعشرين من عمره فقط – لدرجة أن أفضل تقديم لكتاب (رأس مال) ماركس نجده عند لينين. مما يبدو أنه يثبت حقيقة أن أفضل طريقة لفهم هيغل والعلاقة التي تجمع هيغل وماركس هي فوق كل شيء آخر قراءة وفهم كتاب (رأس المال).

2. الحقيقة الثانية

كتب لينين في 1915، في ملاحظاته حول كتاب (المنطق الكبير)، ملحوظة يعرفها الكل عن ظهر القلب: “من المستحيل فهم كتاب ماركس (رأس المال) كلياً، وبالأخص فصله الأول، من دون قراءة ودراسة منطق هيغل بأكمله بعناية وإحكام. هكذا، بعد نصف قرن، لم يفهم الماركسيون ماركس!!” (Collected Works, Vol.38, p.180).

لأي قارئ سطحي، يناقض هذا التصريح بوضوح تصريحات 1894، بما أنها كانت إعلانات ضد-الهيغلية بشكل راديكالي، هنا يبدو أننا أمام إعلان مناصر للهيغلية بشكل راديكالي. بلا شك، إن ذهبنا بهذا الإعلان إلى مدى بعيد جداً وطبقنا مقولة لينين على لينين نفسه سيظهر مؤلف النصوص المذهلة حول كتاب (رأس المال) ما بين 1893 و 1905 كشخص لم ”يفهم ماركس“، بما أنه لم يقم، قبل 1914 و1915، بـ ”دراسة وفهم منطق هيغل بأكمله“!

سأترك المفسرين التقليديين يحررون أنفسهم من هذا ”التناقض” الصغير، رغم أنني أشك بأنهم سيقومون بالكثير حوله؛ مهما أعلنوا، مثل مفسري نصوص لينين الأخرى، أن هذا ”التناقض” هو المحرك الكوني لكل تقدم، من ضمنه التقدم المعرفي.

أما بالنسبة لي، فأنني سأقبل كلمة بكلمة لهذا الإعلان الثاني للينين كما قمت بذلك للإعلان الأول. كان لينين محقاً عندما قال ”لفهم كتاب رأس المال”، وبالأخص (ولاحظ ذلك لأنه عبقري) فصله الأول، أيّ الجزء الأول من المجلد الأول الشاذ، وأنه شاذ لأنه لا يزال هيغلياً، ليس في توظيفه الاصطلاحي وحسب، بل أيضاً في شكل استعراضه، من المهم جداً معرفة (منطق) هيغل بعمق ولسبب جيد جداً.

يمكنني اختزال تناقض الحقيقة الثانية هذه، لهذا الإعلان الثاني للينين، عبر الإشارة مباشرة أنه يأتي (في الصفحة السابقة لدفاتر لينين الفلسفية) بعد صيغة مثيرة للاهتمام جداً. يعلن لينين أن في الواقع: “تحليل هيغل للقياس المنطقي … يذكرنا بتقليد ماركس لهيغل في الفصل الأول”. هنا نجد إعادة صياغة لتشخيص ماركس: ”تغزّله” بهيغل. إذا كانت القبعة تناسب رأسك فإلبسها؛ أنا لم أقل ذلك، بل إنه لينين من قال ذلك متبعاً ماركس. في الواقع، لا يمكن المرء فهم الجزء الأول للمجلد الأول من دون أن يرفع، بشكل كامل، ”غطاءه” الهيغلي؛ من دون أن يقرأ هذا الجزء بشكل مادي، مثلما قرأ لينين هيغل؛ من دون، إذا يسمح لي هذا الافتراض، إعادة كتابته.

هذا يؤدي بنا مباشرة إلى أطروحتي المركزية حول قراءة لينين لهيغل: يحمل لينين في ملاحظاته حول هيغل مثل الموقع بالضبط الذي تبناه مسبقاً في كراس (من هم ”أصدقاء الشعب“) و( المادية والنقد التجريبي)، أيّ في اللحظة التي لم يكن لينين قد قرأ هيغل بعد، مما يؤدي بنا إلى ”استنتاج” صادم ولكنه حقيقي: في الأساس، لم يحتاج لينين قراءة هيغل ليفهمه، لأنه قد فهم هيغل بالفعل حيث قرأ ماركس بعناية. بالتالي، سأقوم بوضع مقولة خاصة بي: بعد قرن ونصف لم يفهم أحد هيغل لأن من المستحيل فهم هيغل من دون دراسة كتاب (لرأس المال) بعناية وإحكام! استفزاز بمقابل استفزاز آخر؛ أتمنى يغفر لي هذا، على الأقل في المعسكر الماركسي.

أما بالنسبة للهيغليين، فيمكنهم الإستمرار بتفكرهم بهيغل، مفكر كل المفكرين هذا، أو مفسر كل التفسيرات في تاريخ الفلسفة. في كل الأحوال أنهم يعلمون، بوصفهم هيغليين جيدين، أن التاريخ قد انتهى، وبالتالي بإمكانهم أن يلتفوا ويدوروا حول نظرية نهاية التاريخ، أيّ عند هيغل.

في النهاية، إنها ليست مجرد دوارات التي تلتف مراراً وتكراراً، إذ يمكن لعجلة التاريخ أن تدور مراراً وتكراراً أيضاً: عجلة التاريخ الفلسفي على الأقل، التي دائماً تدور مراراً وتكراراً. وعندما تكون هذه العجلة هيغلية، فتكون أفضليتها مثل الأفضلية التي أعطاها باسكال للإنسان بالنسبة إلى القصبة، هذه الأفضلية هي: أن الإنسان ”مدرك“ بها.