من الوطنية إلى المحلية


حسن مدن
2020 / 12 / 1 - 11:24     

علينا تخيّل كم من الجهود والتضحيات بذلت من أجل انتقال مجتمعاتنا العربية من المحلية إلى الوطنية، مما هو دون الوطني إلى الوطني، وللموضوع أبعاد متعددة، تتصل بالهوية والسياسة والثقافة، على ما بين هذه المجالات من اختلاف وترابط أيضاً.
نشوء الدولة الوطنية المركزية في المجتمعات العربية ترتب عليه نشوء هويات وطنية، خاصة بكل مجتمع من هذه المجتمعات، وهذا القول لا ينفي أن مقومات تشكيل مثل هذه الهوية أو مقدماتها كانت قائمة موضوعياً قبل أن تقوم الدول الحديثة، التي ارتكزت عليها في بناء أسسها، وسعيها لإنجاز مشروعها في تحويل «المحلي» الخاص بكل إقليم أو جماعة داخل هذه المجتمعات إلى جزء من هوية وطنية جامعة، لا بهدف إلغائه، فذلك محال إن من وجهة الجغرافيا حين يتصل الأمر بالأقاليم، أو من وجهة الثقافة والسوسيولوجيا حين يتصل بالجماعات المختلفة العائشة على هذه الرقع من الجغرافيا التي أصبحت دولاً ومجتمعات موحدة.
سيرتبط مفهوم الثقافة الوطنية إلى حدود كبيرة بتشكّل الدولة الوطنية، بصفة هذه الثقافة إسمنت الهوية الوطنية في المجتمعات المعنية، وإن كانت الثقافة الوطنية عنت، في أحد وجوهها، معاداة المستعمر والمحتل الأجنبي الذي فرض هيمنته على بلداننا لفترات طويلة، بلغت قروناً في العديد من الحالات، حيث كان متعيناً التأكيد على ثقافات بلداننا التي أراد هذا المستعمر وسعى لطمسها، ونجح في ذلك في بعض الأوجه، حدّ محو اللغة القومية واستبدالها بلغته أحياناً.
لكن العلاقة مع الآخر، بما في ذلك مع المستعمر، تنطوي على درجات من التعقيد والالتباس، حيث يستحيل تجاهل ثقافة هذا الآخر وتأثيرها علينا، لأن ليس كلها ثقافة استعمارية، فلغاتها حوامل لآداب وفنون وعلوم لا غنى عنها في عصرنا الحديث.
من بين المفكرين العرب الذين تناولوا هذا الموضوع، يحضرنا اسم المغربي عبد الكريم الخطيبي الذي إذ يؤكد على مفهوم الثقافة الوطنية، وارتباطه بفكرة الحداثة في التعليم والفنون والعلوم الإنسانية والتراث، وأيضاً ارتباطه بمعاداة المستعمر، فإنه بالمقابل يؤكد على أن اللقاء بين الثقافتين العربية – الإسلامية من جهة، والغربية من جهة أخرى كان خصباً، مفصحاً عن خشيته من أن يؤدي عدم الإقرار بذلك إلى حصر المثقف والمبدع في «فضاء شديد المحلية»، والتعبير هنا له.
لكن مخاطر الانحدار من الوطني إلى المحلي لا تأتي من هذا المحذور وحده، وإنما تنبع من الداخل العربي حين يطغى الفرعي والجانبي من الثقافات، المحافظ في الأغلب الأعم، على الجامع الذي تمثله الثقافة الوطنية، الموجهة نحو المستقبل.