اسرائيل ليست دولة علمانية


ارام كيوان
2020 / 12 / 1 - 11:24     

عند الحديث عن اسرائيل كثيرا ما يثار السؤال هل اسرائيل دولة علمانية، خصوصا أن قوانين الدولة وقادتها حاولوا تعريف اسرائيل كدولة يهودية بمعنى "القومية" فقط، ولكن هل هذا صحيح؟ هل يمكن أن نفصل بين ما يسمى القومية اليهودية والدين اليهودي؟ جوابي هو كلا

عدم امكانية الفصل بين الدين اليهودي والقومية اليهودية يمكن ملاحظته من السؤال العالق بدون اجابة حتى اللحظة، "من هو اليهودي؟"، وكثرة الاجابات السخيفة عليه، كاجابة موشي سنيه: "اليهودي هو كل من يعرف نفسه كيهودي".

نبدأ بتتبع علاقة الدين بالدولة في اسرائيل من خلال السردية التي اتخذتها الحركة الصهيونية مبررا لقيامها، وهي سردية دينية، ولتأكيد الفكرة أقتبس هذه الفقرات من "وثيقة الاستقلال":
"نشأ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل، وفيها تمت صياغة شخصيته الروحانية والدينية والسياسية، وفيها عاش حياة مستقلة في دولة ذات سيادة، وفيها أنتج ثرواته الثقافية الوطنية والإنسانية العامة وأورث العالم أجمع سفر الأسفار الخالد.
وعندما أُجلِيَ الشعب اليهودي عن بلاده بالقوة، حافظ على عهده لها وهو في بلدان شتاته كلها, ولم ينقطع عن الصلاة والتعلق بأمل العودة إلى بلاده واستئناف حريته السياسية فيها.
ستكون دولة إسرائيل مفتوحة الأبواب للهجرة اليهودية وللم الشتات، وتدأب على تطوير البلاد لصالح سكانها جميعًا وتكون مستندة إلى دعائم الحرية والعدل والسلام مستهدية بنبوءات أنبياء إسرائيل, وتحافظ على المساواة التامة في الحقوق اجتماعيًا وسياسيًا بين جميع رعاياها دون التمييز من ناحية الدين والعرق والجنس وتؤمن حرية العبادة والضمير واللغة والتربية والتعليم والثقافة, وتحافظ على الأماكن المقدسة لكل الديانات وتكون مخلصة لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
وتوكلاً على إله إسرائيل سبحانه وتعالى، نثبت بتواقيعنا هذا الإعلان في اجتماع مجلس الدولة المؤقت في أرض الوطن، في مدينة تل أبيب اليوم، يوم الجمعة الخامس من شهر أيار عام 5708 عبرية الموافق الرابع عشر من شهر أيار عام 1948م."

منعا للالتباس أقول أن في داخل اسرائيل تحدث بلبلة في مفهوم "علماني" فمن الممكن أن تصادف شخصا يدعو نفسه علمانيا ونمط حياته بعيد كل البعد عن الالتزام بالدين اليهودي ولكنه في نفس الوقت عند سؤاله عن اليهودية كجزء من هويته لا تحصل سوى على اجابة ضبابية، فمن جهة يريد الحفاظ على نمط حياة علماني ويريد للدولة أن تحافظ على اليهودية ك"تراث" وال "تراث" اليهودي هو تراث ديني. بالمختصر، أي علماني يهودي لا يمكنه ابعاد اليهودية كمكون مركزي في هويته، حتى وان جمل الموضوع بعبارات مثل "تراث يهودي". وسؤال بسيط لكل علماني يهودي يفي بالغرض: هل يمكن لشخص من غير الدين اليهودي أن يكون جزء من القومية اليهودية كما يوجد ديانات شتى في كل قومية؟

بدأت بالحديث عن المعنى الملتبس لمفهوم "علماني" عند اليهود في اسرائيل لكي يكون ما سأسرده في الأسطر القادمة واضحا أكثر،داخل دولة اسرائيل، على المستوى الايدولوجي هناك اختلاف عميق بين مختلف الفئات. وهنا احدى الوظائف التقليدية للدولة أن تسكن هذه الاختلافات والصراعات وتخلق اجماع عام من خلال ثقافة عامة، هي في هذه الحالة اليهودية. وتعرف الدولة نفسها ك"يهودية ديمقراطية" ولا تعلن عن نفسها دولة علمانية.

في أعقاب هذه الاختلافات العميقة على موضوع الدين والدولة سنت اتفاقية "الوضع القائم" بين بن غوريون والأحزاب الدينية، وتنص هذه الاتفاقية على:
1. التقيد بالحلال في المؤسسات العامة كالحكومة والجيش.
2. الحفاظ على السبت في الأماكن العامة، مثل ايقاف المواصلات يوم السبت.
3. الحفاظ على استقلالية التعليم الديني.
4. صلاحية مطلقة للحاخامات في أمور الزواج والطلاق

مؤسسة الزواج والحكم في الزواج والطلاق تم اقراره لاحقا بموجب قانون "المحاكم الشرعية (لليهود طبعا)" (1953) هو بيد المؤسسة الدينية اليهودية، وزواج وطلاق اليهود في اسرائيل هو حسب التوراة. ولاحقا تم اقرار عدة قوانين أخرى تحافظ على "الطابع اليهودي" للدولة، مثلا قانون "منع تربية خنزير" حيث يمنع تربية خنازير في اسرائيل الا في المناطق ذات الأغلبية المسيحية أو بموافقة خصوصية من وزارة الداخلية، وقوانين اخرى مثل معاقبة من يبيع الخبز أو أي طعام مصنوع من العجين المختمر في عيد الفصح اليهودي، وقوانين اخرى مثل قانون "لا تقف على دم قريبك" وهو اية من التوراة، حيث بملزم هذا القانون يكون لزاما مساعدة من تراه عليه خطر.

موضوع اخر هو "القضاء العبري" في اسرائيل، حيث أقر في قانون "أسس القضاء" (1980) أن في حالة نقصان القانون الاسرائيلي من تشريعات قانونية لقضية معينة من الممكن الحكم بروح مبادئ الحرية، العدل، النزاهة والسلام لتراث إسرائيل. وهنا كان خلاف كبير بين قاضيين اسرائيليين مشهورين، الأول هو منحم ألون، اعتبر أن تراث اسرائيل هو الشريعة اليهودية. الثاني، أهرون باراك، اعتبر أن تراث اسرائيل يشمل كامل التراث الديني وغير الديني ومنه حتى كتابات هرتسل.

الصراع "العلماني/الديني" في كل مكان في العالم هو صراع اجتماعي سياسي، ورغم ضبابية مفهوم "علماني" في اسرائيل الا أن هذا الصراع حاضر أيضا على المستوى السياسي والاجتماعي. بداية مع الشق السياسي، يشكو المتدينون هنا أحيانا من "الفرض العلماني" الذي تمارسه المحاكم مثل منع الفصل بين الرجال والنساء في اجتماعات اليهود الاورثوذوكس (الحريديم). بالنسبة للمحكام وقوتها، نقول أن "فصل السلطات" هو في حقيقته "تقاسم للسلطات والقوة" وكل من يتابع قرارات المحكمة يعلم أنها غير راضية عن الطبقة السياسية الحاكمة منذ أكثر من عقد، ومن بينها المتدينون. والعلاقة السيئة بين الطرفين، نذكر أن وزيرة القضاء السابقة، أييلت شاكيد، شنت هجوما لاذعا على القضاة بسبب "تجاهلهم" للقضاء العبري في المحاكم، و"علماني" اخر من الائتلاف الحاكم، ميكي زوهر، اقترح قانونا يقضي بغرامة وسجن سنة لمن يخالف تقييدات السبت.

كلنا نذكر الاتهام المشهور الذي يوجهه رئيس المعارضة يائير لبيد لليهود الاورثوذوكس (الحريديم) وهو كونهم يعتاشون على أموال الطبقة الوسطى في حين أنهم لا يعملون، ولا يتلقون تعليما أكاديميا ولا يخدمون في الجيش. عند فحص ما يقول لبيد على أرض الواقع نجد أن قسما كبيرا مما يقوله صحيح، عدد الحريديم هو حوالي المليون، النصف عاطلون عن العامل. في مقال لكاتبة تدعى "دانة ارلوزوروف" بعنوان "على الحريديم أن يكونوا أغبياء حتى يخرجوا للعمل"، تقول الكاتبة أن دخل كل عائلة من الحريديم من خلال الدعم ومصادر مختلفة يصل ل3000 شيكل شهريا والاحتياجات الشهرية معدلها 700 شيكل فقط. ودخل الحردي الذي يعمل أقل من اليهودي العادي ب25% فقط، بينما دخل العامل العربي أقل من اليهودي (غير الحريدي) ب57%. كما وتلقت مدارس التوراة دعم سنوي ب1.3 مليار شيكل، وفي هذه المدارس في معظمها لا تدرس مواد مثل الانجليزية والرياضيات.

يهم نواب الأحزاب المتدينة وزارات مثل وزارة الداخلية والاسكان وما يجري في وزارة التربية والتعليم، للحفاظ على الوضع الاجتماعي القائم وفقط ضخ ميزانيات أكثر للحريديم، ويذكر أن في الفترة التي كان فيها يائير لبيد وزيرا للمالية، أي سنة لا أكثر، قام بقطع وتقليل كثير من الميزانيات المخصصة لطلاب التوراة وفئة الحريديم.
يائير لبيد كما قلنا هو ممثل الطبقة الوسطى، العوام من الحريديم نصفهم عاطلون عن العمل والنصف الاخر بمعظمه عمال، يعتاش قادتهم الذين انضموا للطبقة السياسية على جهلهم وتمسكهم بهذه الهوية الدينية خاصتهم فكان من الطبيعي الصدام الحاد بينهم وبين يائير لبيد.

واضح للجميع أن اسرائيل ليست دولة علمانية، ولا يحتاج أحد الى ذكاء خارق ليلاحظ أننا لم نقل أنها دولة شريعة كما السعودية وايران، رغم أن فاشيا كسموتريتش يسعى لتحويلها لدولة شريعة ولا يخجل بهذا أبدا.

اسرائيل ككيان اختلق في سياق امبريالي وجمع مجموعات متنوعة من شعوب مختلفة لا شيء مشترك بينها غير الدين تكون النتيجة الطبيعية هي كل هذه الضبابية في مواضيع كعلمانية الدولة.