مُقتطفاتٌ من كتاب: في عِلمية الفكر الخلدوني - لمؤلّفه مهدي عامل


بوناب كمال
2020 / 11 / 30 - 23:53     

I ـ مفهوميْن للتاريخ
يتساءل مهدي عامل؛ هل البحث في العمران ضروري للبحث في التاريخ؟، ويوظّفُ مقولة بن خلدون في تعريف التاريخ على أنه "فنٌّ في ظاهره لا يزيدُ على أخبارٍ عن الأيام والدّول، والسوابق من القرون الأوّل، تنمو فيها الأقوال، وتُضرب فيها الأمثال، وتُطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وفي باطنه نظرٌ وتحقيق، وتعليلٌ للكائنات ومبادئها دقيق، وعلمٌ بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق".
يحيلُ هذا التعريف إلى مفهوميْن للتاريخ؛ مفهومٌ يقفُ عند ما هو من التاريخ ظاهره، ومفهومٌ يخترق الظاهر إلى الباطن في بحثٍ عن حقيقة التاريخ، ليجعلَ منها موضوعًا لعلم؛ المفهوم الأول تجريبي، يتماثلُ فيه الواقع التاريخي مع ظاهره، هو مفهوم إخباري حَدثي ولا يمكن أن يكون علميًا؛ أما المفهوم الثاني (الخلدوني) ليس سردًا للأخبار، فالعلم يقتضي نقضَ هذا الظاهر للوصول إلى الباطن الذي هو الواقع، فالنّقضُ هنا هو عملية استخراجٍ للواقع من ظاهرٍ يحجبُه، فعلم التاريخ نظرٌ وتحقيق، وفي هذا رفضٌ لأن يكون التاريخ سردا أو نقلا إخباريًا، وفيه إظهارٌ لضرورة البناء النظري في عملية البناء العلمي للتاريخ.
إذًا؛ العمران هو موضوع علم التاريخ، والبحث في شروط وقوانين الاجتماع هو موضوع التاريخ، وذلك لأنّ التاريخ ليس حركة الأحداث بل حركة الواقع، أيْ الكلّ الاجتماعي.
II ـ السّببية التاريخية
السّببُ في إطار مفهوم بن خلدون لا يمكن أن يكون حدثًا، هو علاقة اجتماعية محدّدة بها تتولّدُ الأحداث، وهذه العلاقة ليست متاحة للرؤية بالعين التجريبية (الإخبارية)، فلا بدّ من استخراجها بأدواتٍ قادرة على تملّكها معرفيًا، وهذه الأدوات لا يجدها المؤرّخ جاهزة، بل عليه أن يُنتجها في شكل مفاهيم نظرية (العصبية، المُلك، التّغلّب..) ليستخرجَ بها ما هو خفيٌ في الواقع الاجتماعي من علاقاتٍ لا يقوم الواقع إلا بها ولا يتحرّكُ إلا بتحرّكها، فالسبب في التاريخ ليس الحدث بل هو قانون الحركة الاجتماعية.
III ـ علمية الفكر الخلدوني
منطقُ الفكر الخلدوني في المقدّمة منطقٌ مادّي، يتفاعلُ مع الحركة التاريخية المادية التي شهدتها المنطقة المغاربية في القرن الرّابع عشر، فهو يحاول تفسير الأزمات التي منعت المنطقة من أنْ تصلَ إلى نوع من الاستقرار تنطلقُ فيه في حركة تطوّر دائم ومتصاعد بدلًا من أن تكون أسيرةَ حركةٍ دائرية متكرّرة، ما إنْ تبلغ فيها الدولة ذروة تطوّرها حتى تبدأ بالانهيار، وكأنها محكومةٌ بلعنة.
لا يدخل في دائرة العقل ، في الفكر الخلدوني، إلا ما هو ضروري بضرورته لا بضرورة غيره؛ إنه عقلٌ علمي وليس فقهي، ينظرُ في الاجتماع البشري لذاته وبمقتضى طبعه، فيجعلُ من هذا الاجتماع موضوعَ علمٍ قائمٍ بنفسه، مستقلّ عمّا سبقه من معارف؛ وتكمنُ علمية المقاربة الخلدونية ، بوجه خاص، في رؤيته للتاريخ على أنه هو بالضبط حركة العمران البشري، والذي يخضعُ في حركته لقوانين موضوعية باكتشافها يبتدىُ تاريخ علم التاريخ؛ هذا الرّبط للتاريخ بالعمران هو التّربة المادية التي يمكن فيها للتاريخ أن يتكوّن في علم، وهذا الرّبط هو الثورة المعرفية التي حقّقها بن خلدون في تاريخ الفكر العربي، فقفزَ بهذا الفكر إلى علميته، فالتاريخ من حيث هو علم هو تاريخ هذا العمران الذي في صيرورته لذاته يصبح موضوعا لعلم التاريخ؛ وإنّ استيفاء الكلام في موضوع العمران لا يكون إلا ببناء نظرية العمران.
IV ـ تحليلُ مثال
اختار مهدي عامل مثال نكبة الرّشيد للبرامكة لشرح المنهج الخلدوني في التحليل التاريخي، وهي نكبةٌ يُرجعها المؤرخون إلى مُواقعةٍ محرّمة بين العبّاسة أخت الرشيد وجعفر البرامكي، استغضب على إثرها الرشيد فنَكبَ البرامكة.
يشرعُ بن خلدون في توظيف القسم النقدي من المعالجة، حيث يرفض هذا الخبر بشكل مطلق، إذْ أنّ هذا القسم هو نقضٌ لما هو التاريخ في ظاهره؛ أما في القسم الثاني ينتقلُ بن خلدون إلى صعيد الممارسة التاريخية من حيث هي ،في طابعها العلمي، ممارسةُ إنتاجٍ لمعرفة تاريخية، أي تفسير لواقعٍ تاريخي مادي محدّد، فيحاول تبيان الأسباب الفعلية لنكبة البرامكة، ويعرضُ بن خلدون هذا الخبر على قوانين العمران فيراه غير مطابق لها فيرفضه؛ فلا قوانين العصبية ونمط الحياة الخاص بالبداوة وقانون الشرف استساغت قصة العبّاسة أو أقرّتْ بأنها ممكنة الوقوع.
لا يكتف بن خلدون بنقض الخبر، بل يقترح تفسيرا للحدث والواقعة، وذلك هو النّقض الفعلي، ويُرجعُ نكبة البرامكة إلى استبدادهم على الدّولة واحتجافهم أموال الجباية، حتّى كان الرشيد يطلبُ اليسير من المال فلا يصلُ إليه، فغلبوهُ على أمره، وشاركوه في سلطانه، واستولوا على القرى والضّياع في الضواحي والأمصار في سائر الممالك، إنّما قتلتهم الغيرة والمنافسة في الاستبداد.